في
السنوات الأخيرة، أخذت تجتاح العالم بأسره موجة جديدة غير مسبوقة من التحريض على
الطائفية والعنف، تعيدنا بالذاكرة إلى زمن الحروب الدينية التي عمّت أوروبا في
القرن السادس عشر، والبؤرة التي تتركز فيها جموع الطائفيين والقتلة من كل جنس ولون
هي سورية والعراق. والجديد في الموضوع أن أعدادا هائلة من الأجانب تنضم يوميا إلى
طوابير القتلة !
وقد
تزامنت موجات التحريض الطائفي الجديدة مع ما يسمى بثورات الربيع العربي؛ إلا أنها
نجحت في حرف تلك الثورات الشعبية عن مساراتها، وأفرغتها من مضامينها السياسية،
وحولتها إلى اقتتال طائفي مذهبي. وأبرز مثال على ذلك ما يحدث الآن في سورية، وقد
استفاد طرفي الصراع من التحريض الطائفي، بحيث صار الوقود الذي يغذي الحرب، ويطيل
أمدها، ويستقطب الناس من حولها في عملية اصطفاف طائفي، تعطي المبررات لكلٍ من
النظام والجماعات المسلحة لممارسة جرائمهما بحق المدنيين العزل.
وبعد
سيطرة "داعش" على أجزاء كبيرة من العراق، أخذ التحريض الطائفي زخما
إضافيا طاغيا، لدرجة أن الكثيرين باتوا مستعدين للتساهل مع جرائم "داعش"،
وغض الطرف عن نهجها العنيف اللاإنساني مقابل إسقاط حكومة "المالكي".
وكما
استفاد نظام "الأسد" من الطائفية، في كسب تأييد العلويين، وإظهار نفسه
كمنقذ للأقليات الأخرى؛ عمد "المالكي" في العراق إلى زيادة الشحن
الطائفي وتوظيفه لاستقطاب تأييد الشيعة له. والحقيقة التي غابت بين طيات التضليل
الإعلامي أن الصراع الدائر حاليا في المنطقة هو صراع سياسي بامتياز، توظَّف فيه
الطائفية وتدار من قبل النخب السياسية الحاكمة (والمعارضة)، بتوجيهات من القوى
الإقليمية والدولية، بهدف تقسيم الأوطان، وإعادة رسم الخرائط السياسية، وتكريس
"سايكس بيكو" جديد، ولكن بحلة طائفية، المستفيد الأول منه هو
"إسرائيل".
في
خضم هذه المؤامرة الكبرى وجد المواطن العربي نفسه متورطا فيها من حيث لا يدري،
وداعما لها، بل وركيزة أساسية لهذا المخطط الشيطاني الذي لا يمكن له أن يمر دون
مشاركة الناس العاديين فيه. فقد تماهى الكثير من الناس مع موجات التحريض الطائفي،
وأصبح خطابهم وتفكيرهم ينطلق من الطائفية أساسا، متأثرين بما تبثه قنوات الطائفية
على مسامعهم ليل نهار. ومن تجليات الطائفية الحالية، أن "داعش" أصبحت
ممثلة عن السنّة، فيما "المالكي" صار ممثلا للشيعة .. والكثيرين تعاطوا
مع الحدث انطلاقا من هذه النقطة ! هذه النقطة تحديدا التي صارت حجر الزاوية في
التحريض على الكراهية وثقافة الإقصاء والتكفير، ونفي الآخر.
مشكلة
الطوائف تتمثل بأن كل طائفة تؤمن بأن مرجعها الأعلى قد قال الحقيقة الأخيرة
النهائية، وهذا يتطلب بالضرورة نبذ الحقيقة الأخرى التي تدعيها الطائفة الأخرى،
مما يؤدي إلى التمركز حول الذات والإدعاء بأن الله يخصها وحدها ويفضلها على غيرها،
وهذه النظرة قد تصل إلى حـد الإعتقاد بملكية الله - تعالى شأنه - والتماهي معه.
وإذا
اعتبرنا أن إثارة الفتن الطائفية في المنطقة هي مؤامرة تستهدف إحكام السيطرة
عليها؛ فإن أهم عناصر النجاح في أي مؤامرة كبيرة من هذا النوع هو العمل على انفلات
المشاعر والغرائز الدينية، واستدراج ردود الفعل الجماعية الغاضبة التي تتجاوز
التفكير والمنطق السليم والعقل الراشد، بحيث يُنفَّذْ الجانب الرئيسي من المخطط
الشيطاني بأيدي عناصر وتنظيمات متشددة على جانبي الصراع، ومن المهم أيضا أن تكون
الشعارات جاهزة والمخاوف مشتعلة ومفصَحا عنها، وأن يأخذ السلوك السياسي طريقا
يضاعف تلك المخاوف، حتى تعم الكراهية، وتنعدم الثقة بين كل الأطراف.
عشتُ
في العراق سنوات طويلة، ولي عشرات الأصدقاء العراقيين، من كافة الطوائف، كنا نجلس
ونتسامر ونلهو دون أي اعتبار للانتماء الطائفي، الكثير من أصدقائي الشيعة اكتشفتُ
شيعيتهم بعد إلحاحي بالسؤال؛ فقد كان مثل هذا السؤال محرجا، وزائدا، ولا لزوم له
.. جميع العراقيين يتذكرون تلك الأيام بالكثير من الحنين .. تلك الأيام الجميلة
التي امتدت لمئات السنين حيث تعايشت الطوائف خلالها مع بعضها بأمن وسلام، تصادقوا
وتصاهروا وتجاوروا دون منغصات ..
ولكن،
وبعد أن خطفت "الخمينية" الثورة الشعبية في إيران، وحكمت البلاد بمبدأ
الولي الفقيه، بدأت النزعات الطائفية تخرج على السطح شيئا فشيئاً .. في البداية
على استحياء، وبعد الاحتلال الأمريكي صارت نقطة جذب واصطفاف، أما اليوم فهي في
غاية الوقاحة ..
المضللون
من الناس يظنون أن شيعة العراق كلهم مؤيدين للمالكي، وأن العلويين مؤيدون للأسد،
ويستخدمون عبارات مضللة من مثل: "نظام صدام اضطهد الشيعة"، "نظام
المالكي يضطهد السنّة"، "الشيعة تضطهد السنة"، "السنّة يفجرون
أنفسهم في الأسواق الشعبية ويقتلون الأبرياء في الأحياء الشيعية"،
"الشيعة كفرة"، "السنة هم الفرقة الناجية"، "الفرس
المجوس الأنجاس"، "الجيش الصفوي"، "الدفاع عن المراقد
والعتبات المقدسة" .. إلخ.
وفي
الواقع؛ فإنه كما قَمَعَ "صدّام" كل معارضيه وخصومه من كافة الطوائف،
يقمع "المالكي" خصومه ومعارضيه من كافة الطوائف، وأولهم جموع الشيعة
الفقراء، حتى في بلده "طويريج" .. وكما أن محافظات الأنبار مهمشة ومهملة
.. فإن محافظات الجنوب في الولايات القصية (الشيعية) مهملة، ومهمشة، ولا تصلها
أبسط الخدمات .. وكما يقتل "المتشددون" الشيعة إخوانهم السنّة، يقتل "المتشددون"
السنّة إخوانهم الشيعة، والضحايا دوما هم الفقراء والأبرياء.. والأغلبية الساحقة
من كلتا الطائفتين ترفض وتستنكر هذه الجرائم .. لكن التضليل الإعلامي (الطائفي)
يغطي على هذه الحقائق ..
وبالنسبة
لإيران، فلا يغيب عن بالنا أن الحضارة العربية الإسلامية تدين لها بالكثير .. قبل
أن يدخل الإسلام هذا البلد الجميل كان أهله أسبق في التطور الاجتماعي والمدني من
الجزيرة العربية، وبعد دخولهم الإسلام أنجب هؤلاء "الفرس المجوس" خيرة العلماء وأشهر الأطباء والفلاسفة، الذين ما
زلنا نتباهى بهم، واليوم فإن الشعب الإيراني (بعيدا عن تأثيرات النخب الحاكمة) هو
بالضرورة شعب صديق، ومن الغباء معاداته.
أما
نظام "المالكي"؛ فهو أسوأ نموذج على مر التاريخ في الفساد والعمالة
والتبعية .. لكن ممارسات "داعش" ونهجها التكفيري لا يقل فسادا وإجراما.
ومن الخطأ وضع المواطن العربي أمام سؤال الاختيار بين نموذجين كلاهما أسوأ من بعضه
البعض. ومن الخطأ أيضا ترديد العبارات التي يبثها الإعلام دون أدنى تفكير .. ولا
يجوز التعميم، وإطلاق الأحكام جزافا، وتوصيف الناس وتصنيفهم، وتكفير كل من لا
يشبهنا، ولعنة من لا يعجبنا .. وإدخال من نشاء في رحمة الله، وإخراج من نشاء .. لا
يجوز أن نلعب دور الإله، وأن نحل محل الله سبحانه، ونفتش على القلوب والنوايا
ونحكم على الآخرين كما يحلو لنا ..
باختصار
شديد، لا يجوز أن نكون أقل ذكاء من "الحمار"، الذي يحفظ الطريق من أول
مشوار، بينما نحن رأينا نماذج الطائفية كيف حرقت لبنان وسورية والعراق وغيرها
الكثير، ونصرُّ على تكرارها في كل مرة، دون أن نتعلم من أخطائنا .. ولا يجوز أن
نكون أكثر وحشية من الحيوانات التي تترفع عن الانتقام، ولا تمارس القتل إلا
للضرورة .. ولا يجوز أن نستسلم لثقافة الكراهية والتكفير والتحريض الطائفي، وكلٌ
منا يجزم أنه صاحب الحق.
اليوم،
لا يخفى على أي مراقب أن المنطقة برمتها تعتمل فوق فوهة بركان يوشك أن ينفجر في
وجه الكل، واللاعب الخفي الذي يضرم النار في المنطقة ويؤجج الصراع فيها، هما كل من
أمريكا وإيران، والتاريخ يخبرنا أن الأطراف الخارجية عندما تلعب في منطقة ما فإنها
لا تتورع عن فعل أي شيء، لأنها بلا ضمير وبلا رحمة، وتختبئ خلف شعارات ديماغوجية
مضللة كنشر الديموقراطية، أو حماية الأقليات، أو نشر الإسلام، وتستعمل البُعد
الطائفي حطبا لحروبها، وإذا لم ننتبه لهذا اللاعب الخفي فإن الجميع سيخسرون
وسيندمون .. ولكن بعد فوات الأوان.
ما
يجري حاليا، هو أن بعض رجال الدين (من السنّة ومن الشيعة)، يستفيدون من عملية
الاصطفاف الطائفي، ويخططون لتقسيم المنطقة، ويراهنون على تجاوب عامة الناس معهم،
فبعد هجوم "داعش" أصدرت الحوزة الدينية في النجف نداء الجهاد، وإذا ما
نشبت الحرب بين الطرفين، فإن الخطوة التالية هي هجرة أتباع الطوائف إلى دويلاتهم
الجديدة، النقية من الكفرة، والخالية من الشوائب العرقية .. وعندما تقوم دويلات
الطوائف، فإن وجود إسرائيل "اليهودية" سيصبح نتاجا طبيعيا.
فهلا
استفقنا قبل أن يعمينا التعصب، وتقتلنا الكراهية .. ونصبح لعنة في سجل التاريخ ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق