لم يتأخر "أبو وديع" عن أي
حفلة دُعي إليها، يلبيها مهما كانت ظروفه، لا يهتم إذا كان صاحب الدعوة رجل أعمال
أم "طوبرجي"، كل مساء تجده في مطعم شعبي، أو في فندق فاخر، أو في سهرة
عرس .. يجلس على كرسيه خلف المايكروفون، وبجانبه "أبو عامر الطبّال"،
وأحيانا قليلة كان يحظى بفرقة موسيقية كاملة، يحضن عوده، يضبط أوتاره بكل حنية، يتنقل من لحن
إلى لحن بكل خفة، يحاوره كصديق قديم .. عادةً ما يبدأ ببعض الأغاني الشبابية
السريعة، ثم ينتقل إلى وديع الصافي وناظم الغزالي وصباح فخري، إلى أن ينهي السهرة
بأم كلثوم أو فريد ..
على مدى ثلاثين عاما، وهو على نفس
المنوال، لا توجد أغنية لا يعرفها، أو لحن لا يتقنه .. صوته حنون، فيه بحة حزينة، يبدأ
خافتا نقيا، ثم يجري كنهر هادر .. لم يره أحد بدون ربطة عنق، لديه ثلاثة بدلات
رسمية: كحلية وبنية وسوداء، لا يغيرهما صيفا أو شتاء، نفس الابتسامة الملتصقة على
وجهه، ونفس التحايا التي يرسلها بكفيه إلى الحضور.
لا أحد يعرف كيف يختفي فجأة بعد أن
تطفأ أنوار السهرة، وإلى أين يذهب ؟! وماذا يتعشى ؟! وكيف ينام !! ومتى يرى عائلته
!! لا أحد يعلم إذا ما كان متزوجا أم لا !! هل وديع هو ابنه، أم مجرد اسم ؟ هل
يشجع برشلونة ! أم نادي الوحدات !! هل يشكو من مرض ! هل يحلم بشء ما ! وفي الحقيقة
نادرا ما يطرح عليه أحد أي سؤال من هذه الأسئلة الفضولية، لا يرونه سوى مغني أفراح
.. لا يسأله أحد كيف نمت ليلة البارحة ؟ فقط يطلبون منه أغنية لجورج وسوف، أو
لنجوى كرم، أو موال عتابا .. ثم يدسون في جيبه بضعة دنانير ..
قبل سنتين اختفى فجأة، لمدة شهر كامل،
كان حزيران؛ شهر الأعراس، وحفلات التخرج، والسهرات، والليالي الدافئة .. قيل أنه
سافر في رحلة فنية للولايات المتحدة، وقيل أنه يتعالج من السرطان، وقيل أنه تزوج
من شابة عشرينية، وقيل أنه في السجن لتهربه من الضرائب ...
في الأسبوع الأول من تموز عاد لحفلاته
من جديد، لكنه قرر أن يحصرها في أحد أهم
أهم فنادق المدينة .. كانت تجاعيد جديدة قد شقت طريقها على وجنتيه وجبينه، ومساحات
إضافية من الشعر الأبيض قد غطت رأسه، وقد
بدت على ظهره انحنائة بسيطة، كان بالكاد يبتسم .. وقد اختصر الكثير من التحايا
التي اعتاد ترديدها .. ومع ذلك ظل يغني نفس الأغنيات، وظل الجمهور يصفق له بنفس الحرارة
.. يأكلون نفس المشاوي والأطباق الشهية .. ويرقصون ويضحكون ..
رغم أن حنجرته لا تتوقف عن الغناء؛ إلا
أنه نادرا ما كان يتكلم، فهو ما أن ينهي السهرة حتى يكون قد هده التعب، فيأوي إلى
فراشه كما لو أنه جثة .. ولا يصحو قبل الظهر .. قبل أسبوع، استيقظ مفزوعا على صراخ
ابنته .. كان صوتها مخنوقا، قالت له بنبرة حزينة مشوبة بالخوف: لقد تعبت يا أبي، لم
يعد بوسعي أن اتحمل الألم .. يبدو أني سألحق بأمي عمّا قريب ..
بالأمس، كانت حفلة ضخمة في الصالة
الرئيسة التي امتلأت عن آخرها، ولأول مرة في حياته تأخر "أبو وديع" عن
موعده أكثر من نصف ساعة، ولشدة دهشة
الحضور لم يكن يرتدي بدلته الأثيرة، لا بل أنه لم يكن يحمل عوده، حتى صديقه "أبو
عامر" كان يجلس في الخلف كئيبا بدون طبلة .. ولم يتوقف مسلسل المفاجآت
الغريبة عند ذلك وحسب؛ فقد وقف أمام الحضور ولم يحيّي أحدا منهم، لم يكن يراهم
أصلا، كان ينظر إلى السقف، أو إلى الأفق البعيد .. وقد بدا شاردا تماما .. أمسك
المايكروفون بقوة، ثم بدأ يصدح بموال حزين .. كان صوته هادرا حزينا ... ويداه
ترتجفان، استغرقت الأوووووف منه دقائق طويلة، ثم أخذ يردد بصوت أجش مخنوق: لا
تتركيني وحيدا .. لا تتركيني وحيدا ..
كان الجمهور صامتا تماما، وفي لحظة
ذهول .. بعضهم أخذ يتبرم، ويبدي انزعاجه .. وبعضهم كان ينتظر منه البدء بالأغاني
الصاخبة .. وحدهم عمّال الفندق كانوا يقفون خلف الستارة صفاً واحداً، وعيونهم تملؤها
الدموع ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق