أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أبريل 29، 2024

مظاهرات الجامعات الأمريكية

 

منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة اندلعت المظاهرات الشعبية المنددة بالاحتلال والحرب والمتضامنة مع فلسطين في أغلب عواصم ومدن العالم، وبأعداد غفيرة.. وما زالت هذه المظاهرات مستمرة حتى الآن، وهي مهمة جدا لإدانة إسرائيل ومحاكمتها، ولجم عدوانها، ولإبراز الرواية الفلسطينية القائمة على قيم الحق والعدالة ومقاومة الظلم والاحتلال.. لكن المظاهرات الطلابية التي اندلعت منذ فترة بسيطة في الجامعات الأمريكية، وبدأت تنتقل إلى بعض الجامعات الأوروبية والكندية ربما تكون أهم وأخطر، وتثير قلق إسرائيل والولايات المتحدة بشكل خاص، ذلك لأنها تجري في أعرق وأهم الجامعات، والقائمين عليها والمشاركين بها هم من نخبة المجتمع، وهؤلاء سيكونون قادة المستقبل وصناع القرار، سواء في الدوائر السياسية، أم في كبريات المصانع والشركات.. وهذه الجامعات مخصصة أساسا بنظام تعليمي صارم موجه الغرض منه إيجاد تلك النخب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية التي ستتولى مهمة إدارة الدولة العميقة، وإدامة النظام (غير المعلن) الذي يسيّر البلاد بما يتناسب مع مصالح الطبقات الحاكمة والمسيطرة.. وإذا أدرك هؤلاء الطلبة حقيقة الصراع العربي الصهيوني، وحقيقة إسرائيل العنصرية والعدوانية، وطبيعة تحالفها مع أمريكا والغرب ودورها الوظيفي.. إلخ؛ فإن هذا يضع المشروع الصهيوني وتحالفاته مستقبلا في وضع حرج ومقلق.. وما يخيف إسرائيل أن تنجح الحركة الطلابية في تأسيس مرحلة قادمة من التغييرات في تركبية القاعدة الشبابية في الحزب الديمقراطي، وحتى الجمهوري.

الأمر الثاني أن مطالب هذه المظاهرات محددة وواضحة: وقف استثمارات الجامعات ومقاطعة كل الشركات الداعمة للاحتلال والتي تمد إسرائيل بالسلاح والمواد الأخرى، لأنهم أدركوا أن إسرائيل نظام أبارتهايد، وتمارس الإبادة الجماعية، وتخرق القوانين الدولية، وتنتهك كل القيم الإنسانية والقانونية التي درسوها وتعلموها في تلك الجامعات، ويشعرون أنها تُدفن في المقابر الجماعية في غزة.

الأمر الثالث، وربما هنا تكمن أهمية تلك المظاهرات، أن الحركات الطلابية في مختلف الجامعات الأمريكية لها تاريخ حافل بالانجازات والتغييرات، وقد لعبت دورا بارزا ومؤثرا في التاريخ الأمريكي المعاصر وفي تغيير السياسات الأمريكية، فمثلا في حقبة الستينيات من القرن الماضي التحمت المظاهرات الطلابية بمظاهرات السود المطالبين بحقوقهم المدنية، وقد انتهى الأمر بإقرار كافة الحقوق المدنية للسود وإلغاء كافة أشكال التمييز العنصري التي كانت معتمدة حتى نهاية الستينيات. وفي حقبة السبعينيات كانت المظاهرات الطلابية الأهم والأبرز ضد حرب فيتنام، والتي كانت من بين أهم أسباب إنهاء الحرب الفيتنامية. أما في الثمانينيات فقد لعبت المظاهرات الطلابية دورا بارزا في دفع الولايات المتحدة لإدانة حكومة البيض العنصرية في جنوب إفريقيا والتخلي عنها، الأمر الذي انتهى بتفكيك نظام الفصل العنصري وإقامة جنوب إفريقيا الديمقراطية بزعامة مانديلا.

كانت جامعة كولومبيا من أوائل الجامعات التي أطلقت شرارة الاحتجاجات في إبريل الماضي، وهنا لا بد أن نستذكر المفكر الفلسطيني الكبير إدوارد سعيد، الذي ترك في الجامعة (وفي العالم) إرثا عظيما.. والمفارقة المستهجنة أن رئيسة الجامعة حالياً "نعمت شفيق"، (وهي من أصول مصرية) أمرت الطلبة بالانصراف وإنهاء الاحتجاج لكنهم رفضوا، فقامت باستدعاء شرطة نيويورك للتدخل وإنهاء الاعتصام بالقوة. بينما كانت رئيسة جامعة هارفارد "كلودين غاين" (أمريكية من أصول إفريقية) قد قدمت استقالتها من منصبها في يناير الماضي، احتجاجا على ضغوطات اللوبي الصهيوني على خلفية وصفها المظاهرات المناهضة لإسرائيل في حرم الجامعة بأنها تندرج في نطاق حرية التعبير.

ومع تصاعد التظاهرات وصف الرئيس بايدن ما يحدث بـ"التصاعد المقلق لمعاداة السامية"، فيما حضر رئيس مجلس النواب مايك جونسون إلى حرم جامعة كولومبيا، وقال أمام صيحات الاستهجان التي قابلته إنه يجب منع انتشار "معاداة السامية" في الجامعات، وإن هذا لا يمت لحرية التعبير، على حد زعمه، أما نتنياهو فحذر أميركا من تصاعد خطاب معاداة السامية، مذكرا بمظاهرات الجامعات الألمانية في الثلاثينيات من القرن الماضي.

وبطبيعة الحال لم تقتصر محاولات إسكات الطلبة على تلك التصريحات المسيئة والمضللة (وهي مضللة بدليل مشاركة طلبة يهود في التظاهرات)، بل وصل الأمر إلى حد اقتحام الحرم الجامعي، واعتقال مئات الطلبة وبعض الأساتذة، واستخدام القوة والاعتداءات الجسدية بحقهم، حتى أن طائرتين من نوع "كواد كابتر" حلقتا في سماء الجامعة لمراقبة الطلبة، وللمفارقة فهو النوع ذاته الذي يستخدمه جيش الاحتلال في عدوانه على قطاع غزة. الأمر الذي يفضح ويعري كل ما تدعيه أمريكا أنها الديمقراطية الأولى في العالم، وأن حليفتها إسرائيل الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط! تلك "الديمقراطيات" لم تحتمل سماع أصوات طلبة يحتجون بشكل سلمي على عدوان همجي ضد شعب أعزل، وضد الإبادة الجماعية، وضد الحرب، ومطالبين بسحب الاستثمارات من كل من له علاقة بتمويل ودعم عدوان إسرائيل على غزة.

والأسئلة المطروحة هنا: متى ستصحو الجامعات الفلسطينية والعربية؟ ومتى سيتخلص الطلبة من عقدة الخوف؟ ومن عقدة السلبية والعزوف عن المشاركة في القضايا العامة؟ وإلى من يطنون أنهم تخلصوا من تلك العقد؛ متى سيخرجون غاضبين من أجل الإنسان والعدالة وقيم الحق والمبادئ والأخلاق العليا، لا من أجل أحزاب وولاءات وأشخاص وأيديولوجيات؟ ومتى سيتخلصون من سجالات الاتهام والمناكفة والتخوين ضد من يخالفونهم الرأي والقناعات.

أبريل 28، 2024

هل اعتدنا المشهد حقاً؟

 في صبيحة السابع من أكتوبر، وبعد تواتر صور وأخبار الهجوم المظفر وإطلاق تسمية "طوفان الأقصى" على العملية النوعية التي أربكت الجميع.. بدأت الأغلبية الساحقة من الناس تستشعر بالفخر، وتعيش حالة من النشوة، وبمعنويات تعانق السماء، وتوقعات كبيرة أقلها تبييض السجون، وإطلاق سراح جميع الأسرى، وأعلاها سقفا وصلت حد التصديق بأن العودة باتت وشيكة، وأنَّ نهاية الكيان صارت قاب قوسين أو أدنى، وكانت التوقعات والتحليلات في الأغلب تشير إلى بدء حالة نهوض ثورية ستغير الواقع جذريا، وأن المقاومة ستواصل هجومها، وجماهير الأرض المحتلة ستخرج غاضبة ومنتفضة، أما الشعوب العربية والإسلامية فستلتحق بالطوفان، وستخترق الحدود، وستسقط أنظمتها الاستبدادية، وسيدخل محور المقاومة بكل قوته، وستتغير المعادلات السياسية القائمة، وسيتلقى الكيان ومن خلفهم الأمريكان هزيمتهم التاريخية..

في الأيام الأولى كانت التوقعات بأن إسرائيل ستظل مرتبكة، وستعجز عن احتواء الهجوم، وستنشغل لفترة طويلة بالخلايا المسلحة التي تحصنت في مستوطنات غلاف غزة، وأن تلك الخلايا ستوجه ضربات للعدو من الخلف.. وأن ردة الفعل الإسرائيلية ستكون أعنف قليلا أو كثيرا من المرات الخمسة السابقة، وأنها ستدوم شهرا أو شهرين على أبعد تقدير، وستقتصر على الضربات الجوية، وستقصف أهدافا محددة، ثم ينتهي الأمر بتفاهمات جديدة، ستكون بالضرورة لصالح الفلسطينيين، وستنهي حصار غزة، وتحرر الأسرى..

لاحظ أن الحديث عن مواصلة الهجوم، وتحرير البلاد، واستعادة الأقصى، وتدمير الكيان، قد تراجع، وصارت التوقعات إنهاء الحصار وفرض معادلات جديدة على إسرائيل..

في الأسابيع الثلاث الأولى جاء القصف الإسرائيلي عنيفا لدرجة غير مسبوقة ولا معهودة، وقد طال كل شيء تقريبا، وبلا أدنى رحمة، ومع ذلك ظلت التوقعات أن العدوان سيقتصر على القصف الجوي.. وقد أكد الكثير من المحللين العسكريين، وبعض قادة حماس أن إسرائيل لن تجرؤ على الاجتياح البري، وإن ارتكبت هذه "الحماقة" فإن المقاومة جاهزة بعتادها ومقاتليها وأنفاقها وصواريخها وخططها العسكرية المعدة مسبقا، وبالتالي ستكون غزة مقبرة للغزاة..

بعد عشرة أيام من بدء العدوان اقترف الاحتلال مذبحة مروعة في مستشفى المعمداني، سقط فيها 500 شهيدا من المدنيين، وحينها ساد اعتقاد بأن ردة الفعل الشعبية والعالمية ستكون بمستوى الحدث، وأن المجتمع الدولي لن يقبل بمثل هكذا مذبحة، وسيدين إسرائيل وسيجبرها على وقف عدوانها.. ثم تبين أنها مجرد البداية لسلسلة مذابح أشد وأفظع.

وعندما ظهرت أولى صور المقاومين وهم يلتحمون بالدبابات من المسافة صفر، ويدمرونها تباعا، اعتقدنا بأن المقاومة ستردّ العدوان خائبا مهزوما، وأن العدو لن يحتمل هذا العدد من القتلى والدبابات المدمرة (بحسب تميم البرغوثي تم تدمير ثلث الجيش).. ثم ظهرت أولى صور النازحين لبعض العائلات، وقد تعاملنا معها بحذر ولم نصدقها، ولما ظهرت أولى صور الخيام قلنا هذه دعاية مضللة يُراد منها تثبيط الهمم ودفع الناس للنزوح.

مع مرور الوقت وتوالي الأحداث، صارت صور القصف عادية، ثم صارت صور أفواج النازحين عادية، رغم أنها كانت تزداد كل مرة وبأعداد هائلة، ثم صارت صور الخيام والمخيمات عادية، بل صارت هي المنظر المألوف..

أتحدث هنا بصيغة الجمع، وأنا مدرك تماما وجود استثناءات كثيرة، وأن الآراء والتوقعات كانت متباينة جدا وبدرجة حادة، لكني أقصد تلك الأصوات التي كانت هي الأعلى، والأشد تعصبا، والأكثر تمسكا بوجهة نظرها، وأذكّر بأن هؤلاء كانوا يغيرون أرائهم وتوقعاتهم لكنهم ينسون كيف كانت قبلا، وكيف تفاعلوا معها، وكيف بدأنا نألف المشهد!

اليوم، وبعد مرور أزيد من سبعة أشهر على العدوان.. كلنا يعرف حجم الكارثة التي أصابت غزة، نحو خمسين ألف بين شهيد ومفقود، ومائة ألف جريح ومصاب، ومليوني نازح، وأكثر من مائة ألف غادروا القطاع، والبقية ينتظرون وجل تفكيرهم منصبّ في كيفية الخروج من هذا الجحيم.. أما الدمار فقد طال كل شيء.. وقد حصلنا على نكبة جديدة.

انخفض سقف التوقعات، وتراجعت المطالب وتبدلت الأهداف، وصار المطلب الرئيس وقف الحرب (أي أن من بدأ الطوفان يطالب بإيقافه)، كانت الموجة عالية جداً جداُ، والمركب صغير جداً جداً، والفرق في مستوى القوة هائل جدا جدا.. وكل جزئية من هذا المشهد تصلح لأن نضع أمامها عبارة جداً جداً: مستوى الإجرام، حجم التدمير، عمق المأساة، المعاناة، البطولة، الصمود، الصبر، الخذلان، غباء الحسابات، سقوط الرهانات، الطوابير، الحر، البعوض، الجوع، سقوط المجتمع الدولي، اختبار قيم الحداثة، هزيمة إسرائيل الأخلاقية.. والأهم أن تفكير الأغلبية الساحقة منا كان عاطفيا جدا جدا ومتوهم إلى أبعد حد..

لا أتوقع أن يغير الناس إيقاع حياتهم مع استمرار العدوان، فالحياة لا بد وأن تسير بشكل أو بآخر، حتى أشد الناس تأثرا بالعدوان، وأكثرهم التصاقا بالأحداث ومتابعة للتطورات، لن يكون بوسعهم سوى مواصلة حيواتهم، والعودة تدريجيا إلى نمط الحياة الأقرب للطبيعي، بما في ذلك أهل القطاع، ومن هم تحت القصف، وفي قلب الجحيم.. سيحاول هؤلاء أيضا التكيف.. تلك سنة الحياة.. ولكن، وفي كل الأحوال يجب ألا ننسى، وألا نتجاهل، وألا نتوقف عن فعل كل ما من شأنه إيقاف العدوان، والتضامن مع أهل غزة؛ فالعدوان ما زال قائما ومتواصلا.. الأهم أن نسمع تلك الأصوات القادمة من داخل غزة، نسمعها باحترام وإجلال، دون وصاية عليها، ودون مزايدة.. فهم الأصدق والأقرب للحقيقة..

مع أن العدوان لم ينتهي بعد، وربما أننا خسرنا هذه الجولة من الكفاح، وتكبدنا خسائر فادحة وتضحيات جسيمة.. لكن صراعنا مع الاحتلال باقٍ، ومستمر، وأمامنا جولات أخرى دامية، قبل أن يستفيق ضمير العالم.. لكننا حتما على موعد مع النصر، ومع فجر الحرية والاستقلال..

ولعلنا نتعلم من هذه التجربة القاسية والمريرة..

أبريل 24، 2024

هويات هاربة.. قصة قصيرة


عرف منير كيف يتفادى المواقف المحرجة، فإذا ابتسم له شخص ما، أو صافحه بحرارة عرف أنه صديق قديم، وربما كان عزيزا على قلبه؛ يُظهر له إسوارة تحيط بمعصمه مكتوب عليها "يعاني من إلزهايمر".. استحسن الفكرة، وراح يطبقها مع كل شخص ثرثار، أو إذا أراد تجنب جدال عقيم، أو للتهرب من الدائنين ومن يراهم ثقال الظل..

تخيل يا أستاذ خليل يوم أمس اتصلت على الجريدة، ردت عليّ السكرتيرة ولم تعرف صوتي، قلت لها حوليني إلى رئيس التحرير، قالت إنه في اجتماع، وبعد الإلحاح قالت لي بغضب: أرجوك للمرة العاشرة أطلب منك ألا تتصل معنا!! شو اللي بصير؟ لماذا ينكروني؟ ويتهربون من مكالماتي! لماذا لم تعد الجريدة تنشر قصائدي ومقالاتي؟

كدت أن أصارحه بأنه لم يعد ذلك الشاعر المبهر، وأن قصائده لم تعد مفهومة، ومقالاته عبارة عن شطحات فكرية منفصلة عن الواقع، وأنّ النقاد بعد أن قرعوه مرارا وتكرارا صاروا يتجاهلونه.. لكني خشيت من ردة فعله، ولم أرغب بنكء جراحه، أو خدش مشاعره، فآثرت الصمت.

تأمل منير في الصورة المثبتة على صدر الصالون، وقد أدرك أنها صورته، أخرج من الدرج ألبوم صور قديم، لاحظ أن نفس الصور تتكرر، وأن شخصاً ما يظهر في أغلبها، على الأرجح هو أنا، قال في نفسه.. حدق في المرآة فرأى شخصا مختلفاً؛ شخصٌ هده التعب، وبان عليه الهرم، عيناه غائرتان، وجهه حزين وعابس، تحسّسَ براحتيه وجنتيه اللتان برزتا كنتوء عظمي، وتأمل حاجبيه الكثيفين وثم أمسك بلحيته البيضاء الكثة، عاد للوراء متراً فذُهل من جسده الهزيل وقد بدا كمن نجا من مجاعة، عاد للألبوم من جديد، الشخص الذي يظهر في تلك الصور وسيم، ممتلئ الوجه، حليق اللحية والشوارب، نضر البشرة تبدو عليه علامات الصحة والهيبة، مبتسم دائما.. لا يكفي أني نسيت اسمي، نسيتُ حتى ملامح وجهي! قال مخاطبا نفسه بتحسر.

سار طويلا في شوراع المدينة وطرقاتها الفرعية حتى أضناه التعب، أحس بأن المدينة خذلته وتخلت عنه بعد أن أغلقت كل حاناتها.. في تلك الساعة المتأخرة من الليل كان كل ما يحتاجه معرفة عنوان سكنه، فقد تعب من المشي ومن السؤال، صار همه الوحيد أن يعود لبيته، ليتناول وجبة شهية، وحمّاما ساخنا، ثم ينام.

في موعد لا يخطؤه، صعد في قطار الثامنة صباحاً، وجلس قرب النافذة، وراح يراقب الشوارع والأشجار والناس والسيارات، بينما القطار يتحرك وعجلاته تدور بانتظام مصدرة صوتا موسيقيا متكررا ينسل إلى خلاياه، تذكر كيف  كانت الأيام الخوالي، أماكن كثيرة كانت شاهدة على قصته التي تتكرر بشكل شبه يومي.. والتي طالما سردها على مسمعي دون كلل، ودون أن ينسى كلمة واحدة.. كان يطمح أن يستحوذ على المدينة بأكملها، اعتقد أنه يستطيع تحريك كل شيء بأصابعه، وأنه سيصلح نظام الكون الظالم، وسيعيد الحق لأصحابه..

زرته ذات مساء، استقبلني بفتور، ثم انزوى إلى كنبة في زاوية الصالون، أشار إلى الحائط وقال بحماسة: تلك صورة زوجتي، ثم صمت للحظات وأضاف: ينتابني حيالها شعور غامض، شعور يغمره الحنين والحب والأسى. ثم أشار إلى صورة أخرى كانت في إطار خشبي بجانب التلفزيون وقال بصوت حزين: وهؤلاء هم أولادي، وأخذ يشير إلى بقية الصور المصفوفة فوق الكوميدينة وهو يقول بحيرة: صور كثيرة لأشخاص أدرك في أعماق نفسي أني أعرفهم، وأني مشتاق لهم... لكن أين هم الآن؟ لماذا لا يزورونني؟ لماذا تركوني وحيدا؟ هل اقترفت جرما بحقهم حتى نبذوني؟ أم أنها مجرد صور متخيلة لأناس لا أعرفهم، وأنا من الأساس وحيد وبلا زوجة ولا أهل؟ كنت صامتا ومصدوما بأسئلته، ثم قال بصوت خافت وبنبرة استفهام: هل هذا هو بيتي حقاً؟ أم أني دخلت بيت أحدهم بالخطأ؟

كنتُ سأقول له (وربما قلت لا أذكر) إن القطار الذي طالما تغنى به، توقف منذ زمن بعيد.. ذلك القطار الآتي من غزة، مرورا بقرية بتير هناك حيث تخترق سكة الحديد الوادي القابع بين جبلين تغطيهما غابات الصنوبر، وصولا إلى القدس، ثم صعودا إلى حيفا ويافا.. ذلك القطار توقف منذ النكبة التي حلت بالبلاد، بل إن البلاد ذاتها ضاعت، ولم يعد منها سوى ذكريات منير وقصصه الجميلة ومغامراته المثيرة.. وأغلبها مختلَق ومتخيَّل.. أظنُّ أني حينها التزمت الصمت، واكتفيت بهز رأسي إعجابا واحتراما لذكرياته الحميمة..

في نهاية ذلك اللقاء، وكان الأخير بيننا، ابتسم بفرح مصطنع، وربما بسخرية، وراح يغني وهو يحرك يديه مثل قائد أوركسترا: لسه فاكر كان زمان.. كان زمان ..

أكثر من عانى منه زوجته أحلام، تحملته بصبر المؤمنين وانتظرته بيقين العشاق، ولطالما تشاجرت معه بسبب غيابه المتكرر والطويل عن البيت، خاصة وأن تبريراته لم تكن مقنعة، وجميع قصصه مفككة.. لكنها كانت تحس بصدق كلامه رغم تناقضاته الواضحة، هكذا مجرد إحساس؛ بيد أن أبنائه الذين انشغلوا به كثيرا في بدايات الأمر، ثم بدأوا يعتادون تصرفاته المحيّرة، وصل بهم الأمر حد عدم الاكتراث.. بقية معارفه كانوا يتناقلون عنه قصصا غريبة وبتحليلات متعددة؛ قالوا إنه يعاني من فقدان الذاكرة القريبة، وآخرون قالوا إنه يعاني من إلزهايمر، وغيرهم قال إنه يعاني من انفصام الشخصية، وبعضهم أكد أن حالته تسمى اضطراب الهوية المزمن، أو تعدد الشخصيات المركّب، أما ابن عمه قيس فقال إنه يعيش حالة توهم ويتخيل الأشياء والأحداث من حوله، بما يشبه الهلوسة، فيما أكد جاره حسين الذين طالما تناقش معه في أمور كثيرة أنه لا يعاني من أي مرض نفسي أو ذهني، هو مجرد فيلسوف حر يحاول التنكر من كل شيء، بما في ذلك تنكره لنفسه، حتى أنه يرفض حمل هويته في جيبه، ولا حتى في عقله..

بعد عدة محاولات انتحار فاشلة ألحت عليه زوجته وأولاده زيارة طبيب نفسي مشهور فوافق، في البداية كان متكتما ومتحفظا، ولكنه بدءا من الجلسة الثانية صار شخصا آخر، انطلق لسانه، وصار يسرد القصة تلو الأخرى، ويسترسل في الشرح، ويشرّق ويغرّب، وأحيانا يهذي بكلمات غير مفهومة، وبصوت متحشرج كما لو أنه أتٍ من غياهب كابوس، يبكي بحرقة أحيانا، ثم يضحك بأعلى صوته.. لاحظ الطبيب أنه يستعين بعضلات بطنه في استخراج تلك الأصوات الغريبة، وكأنه يحاول تقيء شيئ ما لا يعرف ما هو.. ربما هو الأسف والندم.. ربما يحاول رد إهانة مؤذية تعرض لها في مطلع شبابه، أو يحاول مداواة جرح غائر، كان مثل العاشقة المخدوعة التي عجزت عن الانتقام، واستسلمت.

تحير الدكتور فضل في تشخيص حالته، وفي أكثر من مرة كان يحس أنه مجرد إنسان يعاني الوحدة، وكل ما يريده مجرد الحديث، يريد شخصاً ما يسمعه، وهو مستعد لدفع كل المبالغ الممكنة لقاء كسر وحدته، والخروج من عزلته.. وأحيانا يقتنع بأنه لا يعاني من أي اضطراب معروف، وأنه شخص مثقف ويتلاعب بطبيبه.. المهم أنه خلص بنتيجة مفادها أنه لا يريد الموت، بل يريد قتل شيء ما بداخله.

ذات مساء، اجتمع عدد كبير من أصدقائه في سهرة نهاية الأسبوع بدعوة من زهير وفي منزله، الذي فاجأهم بإلقاء كومة أوراق على الطاولة، قال إن حفيد منير عثر عليها بالصدفة، بعضها وجدها في جيبه، وبعضها كانت في درج مكتبه.. على الفور تلقفوها، وكلما قرأ أحدهم قصاصة ظهرت على وجهه علامات الاستغراب والدهشة، فيمررها للآخر، والذي بدوره يندهش أكثر.. 

"أنا الآن في لحظة استفاقة، تنتابني مثل هذه اللحظات من حين إلى آخر، لا أعرف كيف تأتي، ولا متى تنتهي، يتيقط عقلي فجأة، وأستعيد جزءا من ذاكرة بعيدة، المهم أن أستغل اللحظة فأسارع لتدوين ملاحظاتي؛ أعرف أن اسمي منير، وأنني من قرية بيت نتيف قضاء القدس، وأني في الستينيات من عمري.. عدا ذلك لا أعرف شيئا، لكنّ في جيبي ورقة عليها جميع بياناتي: ديانتي، جنسيتي، تاريخ ميلادي، رقم الهوية، عنوان السكن، المهنة، الأرقام السرية لحسابي المصرفي وبطاقة الصراف الآلي، والباسوورد لبريدي الإلكتروني، ولصفحتي على فيسبوك وحساب الواتس أب، ورقم هاتفي الخلوي.. في الحقيقة لا أعرف ماذا تعني لي هذه البيانات، ولا مدى أهميتها.. بل إني أشعر أنها عبء عليّ، وأني سعيد بالتحرر منها.. لن أُخرج تلك الورقة التافهة، سأجرب أن أعيش بدونها".

"ما قيمة كل هذه المحددات اللعينة؟ هي مجرد قيود.. وأنا الآن بلا قيود، بوسعي الانطلاق في أي اتجاه، والركض بلا توقف، وبلا هدف، أشعر أني خفيف وأكاد أطير، وسعيد مثل عصفور استفاق للتو صبيحة يوم ربيعي، وإني على وشك الضحك دون سبب، ومستعد لقبول أي فكرة وتبني أية هوية، ولكن ما أهمية الهوية أو الفكرة نفسها، حتى لو تبنيتها أو اقتنعت بها، سأنسى كل شيء، وسأبدأ من جديد.."

"أنا شخص آخر، ربما يكون عدد شخصياتي بعدد سنوات عمري.. هل هذه علامة حكمة ونضوج؟ أم هو مرض ذهني؟".

"أعرف بل ومتأكد أن لي زوجة محبة ووفية، وأبناء وأهل وأقارب وأصدقاء ومعارف وجيران، ومن المفترض أني أحبهم ويحبوني.. ربما لي ابنة مقربة ربيتها على مهل، وانتظرتُ على أحر من الجمر حفلة تخرجها من الجامعة، وربما لي ابن يحتاجني الآن.. لا أتذكرهم، لو رأيتهم لن أعرفهم، أنا حتى لا أعرف من أنا، أحتاج أن أستخرج ورقة من جيبي لأقرأ اسمي.. كم أنا حزين.. وما يفطر قلبي أني فقدت كل ذكرياتي.. شطبتها متعمدا.. أنا تائه، وبائس".

قبل يومين، عاد مبكرا، كانت الشمس تهم بإقفال نهار قائظ، دخل البيت بخطوات سريعة وواثقة، واتجه على الفور إلى الصالون، لبرهة شعر وكأنه يدخل منزلا جديدا، غرفة الجلوس جميلة ونظيفة، كنبات وثيرة مخملية اللون، وثمة قطة لطيفة نائمة على إحداها، وعلى الحائط لوحة زيتية لسيدة حزينة، ثُبتت محل صورته، لم يغضب ولم يستغرب حتى، لم يكن في البيت سوى حفيده من ابنته، فنادى عليه:

-      تعال يا فريد.. واحضر لي معك كوب ماء بارد.. ريقي ناشف.

-      نعم يا جدي، تفضل..

-      أين أمك؟

لم يجب فريد، وحاول إداره وجهه..

-      طيب أين جدتك أحلام؟ مضى وقت طويل ولم أرها!!

لم يجب فريد، وتصنع انشغاله بالنظر إلى المطبخ، ثم اتجه نحو الثلاجة وأعاد إغلاق بابها من جديد.

-      يا ابني لماذا لا ترد! هل أصبت بالطرش فجأة؟

-      لا يا جدي، لكنها المرة العشرين وأنت تسألني الأسئلة نفسها منذ الصباح!

-      كيف يعني المرة العشرين! ومنذ الصباح! وأنا للتو دخلت المنزل، فمنذ الصباح وأنا أتجول في شوارع المدينة!

-      يا جدي، أنت لم تغادر فراشك منذ سنتين. وقبل ذلك كل قصصك عن القطارات، ومغامراتك في محطة القطارات، والمترو.. هذه ربما رأيتها في أحد الأفلام، لأنه لا يوجد في كل بلدنا قطار واحد.. أصلاً لا توجد سكة حديد..

صُعق منير، وارتسمت على وجه أكبر علامة استغراب في حياته، وقد بدا مندهشا وغير مصدق.. وكأنه تلقى للتو خبرا فاجعا.. لكن الخبر الصاعق سيأتيه الآن:

-      وأحب أن أذكّرك أن جدتي أحلام، والتي هي زوجتك توفيت قبل أن أُولد، يعني قبل عشر سنوات على الأقل..

بكسل طالبٍ سيقدّم امتحانا بعد ساعة وقد يئس من إمكانية نجاحه، تردد في النزول من سريره.. نظر من النافذة، كانت أضواء الشوارع ما تزال مشتعلة وثمة غيوم تحوم في سماء المدينة وتنذر بزخات من مطرٍ خفيف لعله يغسل ما خلفه ليل طويل.. أغلق النافذة بعد أن سرت في بدنه قشعريرة برد الصباح، عاد إلى فراشه منسلا مثل عاشق مخذول، كانت كومة الأدوية مكانها على المنضدة، وبجوارها كأس ماء نصف ممتلئ، ومنفضة تكدست فيها عشرات أقماع السجائر.. تهيأ له أنَّ في خلفية المشهد تُعزف موسيقى تصويرية حزينة..

تذكر أمه فاطمة، وبصوت يقطر حنينا وأسى قال لها: أعيديني إلى بيت نتيف.. ثم أمسك بيد أحلام ورجاها أن تأخذه إلى البحر..

ظل يتقلب على فراشه، وقد بدأت زخات خفيفة تضرب شباكه بنعومة، كان يحب صوت المطر.. وينتظر كل خريف أول غيمة ماطرة، فيسلّمها روحه وجسده المنهكين لتغسل آثامه..

نادى على زوجته بصوت مشوب بالرجاء: يا أحلام.. يا أحلام.. ثم على أبنائه: يا منى، يا سامر.. يا فريد.. ثم على الجيران.. لم يرد أحد.. لم يسمع سوى رجع الصدى.. أين ذهب الجميع؟ لماذا يختفون فجأة حين أحتاجهم؟ تساءل بحيرة وقلق.. توقف المطر فجأة.. وراحت تلك الموسيقى الحزينة، وساد محلها صمت ثقيل.. يتخلله صفير رياح تنفذ من طرف الشباك.. طال انتظاره وهو يحدق في سقف الغرفة حينا، وفي النافذة حينا، حتى فُتح الباب بهدوء، التفت نحوه بترقب ولهفة من ينتظر الحافلة، فإذا بأحلام تدخل بكامل زينتها، كانت ترتدي فستانا من الساتان الشفاف بلون المشمش، شعرها الكستنائي منسدل على كتفيها وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة غامضة.. رفعت طرف البطانية وانسلت بجانبه بهدوء، ومثل شجرة وارفة الظلال وبكل حنيّة وحنان فردت ذراعها الأيمن فوق صدره، فاحتضنها على الفور بكل قوته.. لم ينبسا بحرف، كان يهم بمعاتبتها، والبوح لها بأشواقه وحنينه وخوفه.. لكنه آثر الصمت والاستسلام لبهاء اللحظة، وتقديرا لحميمتها.. وشيئا فشيئا أخذت حرارة جسديهما تخفت، أغمضا عينيهما ببطء لذيذ، وراحا في سبات عميق.. 

أبريل 22، 2024

لماذا توحشت إسرائيل الآن أكثر من أي وقت مضى؟

 

تزعم إسرائيل أن لديها "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم"، وهي مقولة تصلح للسخرية فقط، ذلك لأن إسرائيل نفسها مشروع إمبريالي قائم على العدوان والتوسع والعنصرية، وجيشها يمارس البطش والتوحش منذ تأسيسه، وهو متفرغ للتنكيل بالفلسطينيين، وانتهاك حقوقهم الإنسانية.

وعلى مدى سنوات الاحتلال الطويلة والبشعة كان جيش الاحتلال يقتل ويقصف ويهدم بلا رحمة، بوتائر متباينة، تقل حينا وتشتد أحيانا، وفقا لتعليمات وسياسات محددة، ويمكن القول أن آلة بطشه كانت منضبطة إلى حد ما؛ فمثلا عمليات الاغتيال كانت تستهدف أشخاصا بعينهم، وكذلك الاعتقالات، عمليات اقتحام البيوت كانت تتم بصحبة مختار المنطقة وتحاول مراعاة المحددات الاجتماعية، وحتى هدم البيوت يُنفذ بعد التبليغ وإعطاء فرصة للاعتراض أمام المحاكم، قمع المظاهرات بالهراوات، ثم صار بالرصاص المطاطي وقنابل الغاز، وفي الاجتياحات يستهدف الجيش مواقع محددة سواء بالقصف أو بالاقتحام، وعلى الحواجز كان يجري إذلال المواطنين بالانتظار الطويل، أو بإرجاعهم، أو باعتقال أحدهم.. ومع كل هذه المحددات إلا أن هذه الإجراءات تعتبر انتهاكا لحقوق الإنسان ومخالفة للقوانين الدولية، وهي قطعا غير مقبولة، وتبرر مقاومتها بكل الوسائل..

إلى حد ما كانت إسرائيل تحاول مراعاة القانون، وتأخذ بالحسبان وجود صحافة ورقابة ورأي عام محلي وعالمي؛ فمثلا كانت تقتل الفدائيين الذين ينفذون عمليات ضدها، وتعتقل من نجا، بما في ذلك عمليات شهيرة وكبيرة مثل "السافوي"، و"عملية دلال المغربي"، و"الدبويا".. وغيرها، وفي العام 1986، اختطفت مجموعة من الجبهة الشعبية الباص 300 وعلى أبواب دير البلح، أطلقت الشرطة الإسرائيلية النار على الباص وأنهت العملية، وقتلت منفذيها، واعتقلت أحدهم، لكنها زعمت أنهم جميعا قُتلوا خلال الاشتباك، إلا أن صورة للفدائي ظهرت وهو مقيد اليدين فجّرت فضيحة في الأوساط الإسرائيلية ظلت تتفاعل لسنوات طويلة، وتم توجيه انتقادات لاذعة للشاباك بأنهم تورطوا بإعدام مواطن كان معتقلا بين أيديهم..

وفي الانتفاضة الأولى طالب رابين جيشه بتكسير أطراف الفلسطينيين، ولكن بعيدا عن الكاميرات، وقد أحدثت صورة تكسير يدي مواطن في نابلس ضجة كبرى وهزت الضمير العالمي، وظلت تتردد في وسائل الإعلام لفترة طويلة..

اليوم، كل شيء تغير، ولم تعد هناك أية محددات ولا محاذير على سلوك الجيش، وقد أُطلقت يديه بالكامل لفعل كل شيء، مهما بلغ مستوى إجرامه وتوحشه..

في السجون الإسرائيلية ومنذ العام 1967 بلغ  شهداء الحركة الأسيرة (236) شهيدا، أغلبهم نتيجة الإهمال الطبي وسوء ظروف الاعتقال، والقليل منهم استشهد بالضرب.. اليوم ومنذ 7 أكتوبر استشهد نحو 30 أسيرا نتيجة الضرب المبرح، كما تم سلب الأسرى كافة حقوقهم المكتسبة، ويتم التنكيل بهم بصورة بالغة في القسوة والوحشية، وبدرجة غير مسبوقة.

في الضفة الغربية تستغل إسرائيل التغطية الإعلامية على حرب غزة، وتقوم بمصادرة الأراضي وتوسعة الاستيطان، وإطلاق يد المستوطنين لممارسة إرهابهم ضد القرى، كما زادت وتيرة الاعتقال حتى اقترب عدد المعتقلين من العشرة آلاف معتقل، فيما قتلت نحو 500 فلسطيني، وهو رقم غير مسبوق.

أما في غزة، فهناك الجنون والإجرام وبأبشع صوره، فقد قتل الجيش حتى الآن نحو 35 ألف مواطن (منهم 14 ألف طفل)، فيما تجاوز عدد الجرحى الثمانين ألفا، أغلبهم بإصابات بليغة وإعاقات دائمة، وتم هدم نحو 80% من البيوت والمنشآت والبنية التحتية، وتشريد نحو مليوني مواطن، والجديد في هذا الإجرام ما يقوم به الجنود من مباهاة بأفعالهم، وتصوير جرائمهم وانتهاكاتهم، وسرقتهم للبيوت، وعرضها علانية على وسائل التواصل.. الجديد أيضا عمليات الإذلال العلنية للمواطنين، ممن يتم اقتيادهم وتعريتهم وتعذيبهم، بما في ذلك ما تتعرض له النساء من تنكيل وتحرش وإهانة (وهناك شهادات عن عمليات اغتصاب وتعرية). والجديد أيضا عمليات التجويع والتعطيش وقطع كافة الإمدادات الإنسانية الأساسية، والجديد أيضا عمليات قصف ومحاصرة واقتحام المستشفيات، وقصف المدارس ومراكز الإيواء، وتنفيذ المجازر الجماعية، وقد تم اكتشاف عشرات المقابر الجماعية، وعمليات سرقة أعضاء بشرية..

في تموز 2002 اغتالت إسرائيل القائد القسامي صلاح شحادة، بقصف منزله بطائرة F16، مما تسبب باستشهاد 15 مدني معه، منهم طفل، وعلى الفور استنكر الرئيس الأمريكي بوش العملية وأدانها.. اليوم قتلت إسرائيل أزيد من 14 ألف طفل، وما زالت أمريكا تعتبر ذلك دفاعا عن النفس! وما زالت تدعم إسرائيل وتمدها بالسلاح والمال.

السؤال المطروح: ما الذي تغير على إسرائيل؟ هل توحشت أكثر، وفقدت آخر ذرة عقل لديها؟ أم أنها أساسا متوحشة، وبلا عقل، والآن بدأ يتكشف وجهها الحقيقي؟ (راجع مقالتي: توحش الصراع، الأيام 8،2،2016).

لماذا، وكيف حظيت إسرائيل بكل هذا الدعم الأمريكي والأوروبي؟ وهذا الصمت والتواطؤ الدولي؟! لدرجة أنها لم تعد تعبأ بالصحافة؛ بل إنها قتلت 135 صحافيا! ولم تعد تهتم بالمنظمات الدولية؛ بل إنها قتلت أزيد من مائتي موظف يعمل في الوكالة وغيرها من المنظمات الدولية! ولم تعد تهتم لمجلس الأمن، سيما وأن أمريكا استخدمت الفيتو خمس مرات خلال العدوان! ولم تعد تهتم بالمعارضة الداخلية، ليس لأنها موحدة ضد الفلسطينيين، بل لأنها قبل ذلك أنهت كل وجود لما يمكن اعتباره يسار إسرائيلي، وقوى معتدلة، وأصوات عقلانية.  

لم تصل إسرائيل إلى هذا المستوى من العنف والبطش والتقتيل والتدمير طوال العقود السبعة المنصرمة، لا في النكبة، ولا في النكسة، ولا في الانتفاضتين الأولى والثانية، ولا في حروبها الخمسة على غزة.. هي تسوق ما تفعله إعلاميا على أنه دفاع عن النفس، أو لفرض عقوبات جماعية ضد المدنيين لأنهم يحتضنون المقاومة، أو للانتقام من هجمات 7 أكتوبر، أو لاستعادة قوتها الردعية وهيبتها العسكرية.. وكل هذا غير صحيح..

صحيح أنها تنتقم وبلا رحمة، لكن ما تفعله أكثر بكثير من الانتقام، واستعادة الهيبة.. ما تفعله جزء أصيل من عقليتها الصهيونية، ومن طبيعتها العدوانية.. كانت سابقا تضبط نفسها لاعتبارات سياسية وإعلامية وقانونية، وخشية من ردود الأفعال، وتحسبا لأسوأ الاحتمالات، لكنها لم تتوقف يوما عن إجرامها، صحيح أن تغيرات نوعية طرأت على سياساتها واقتضت منها تغيير إستراتيجياتها، وبالتالي تبني مقاربات أمنية وسياسية جديدة ومختلفة، تمثلت ذروتها في هيمنة اليمين على مقدرات الدولة والمجتمع، لكنها كانت دوما تمشي بوتيرة متصاعدة، وضمن مخطط مدروس، وكانت تهيئ الظروف لمثل هذا اليوم، وكانت تنتظر الفرصة السانحة التي توفر لها الدعم الأمريكي والدولي..

كانت تنتظر الذريعة القوية لإطلاق كامل قوتها مرة واحدة. وهذا ما حصل..

أبريل 17، 2024

عِـش كما أنت

 "كل ما نفعله في حياتنا اليومية غير مهم، ولكن من المهم أن نفعله"؛ مقولة منسوبة لغاندي وأجدها صحيحة وواقعية، فلو تأملت ما تفعله كل يوم بشكل روتيني ودققت في التفاصيل الصغيرة لحياتك ربما تجد أغلبها إن لم يكن كلها عادية، أو أقل من عادية، وربما تافهة، لكن مجموعها تساوي يومك، وأيامك، وبالتالي تساوي حياتك بأسرها، بمعنى آخر هذه هي الحياة، وعليك أن تحياها.. لا يعني هذا أن الحياة عبثية، وبلا جدوى ولا غاية؛ إذن، ما العمل؟

توقف أولاً عن البحث عن السعادة.. مهما حاولت فلن تصل؛ عقلك وجيناتك ترفض المكوث طويلا في جنة السعادة، لا تستطيع تحملها سوى لحظات قصيرة.. كما لا تستطيع المكوث في دائرة الحزن لأمد طويل، فمهما كان جرحك بليغا وحزنك عميقا، ومهما كانت فرحتك عظيمة ستعمل هرموناتك على التعافي مع الوقت، وسيعيدك عقلك المبرمج جينيا إلى حالة التوازن.. السعادة تكمن في الطريق أثناء مسيرك نحوها، لكنك حين تصل سيخيب ظنك، لذا دع الطريق طويلا واجعله ممتعا، بالأحلام والتأمل والصبر.. حينها ستنال الرضا وستتصالح مع ذاتك، وستنعم بالسكينة..  

أخرج من دائرة الانتظار؛ أنت الآن تعيش حالة انتظار دائمة ومزمنة، تعتقد أن واقعك الحالي مؤقت وعارض، وأن الأمور ستتغير وستتحسن، ستهبط عليك الثروة، ستتخلص من كرشك، ستنال ترقية، سيرحل جارك المزعج.. وغالبا ما تربط قراراتك بمواقيت معينة، ستتوقف عن التدخين مع بداية رمضان، ستبدأ بمزاولة الرياضة مع أول الربيع، ستفتح مشروعك الخاص في مطلع العام المقبل.. في الصيف سيأتي التغيير لأن الشتاء ثقيل وممل، في الليل سأقرأ الرواية لأنني في النهار منشغل، بعد أن يكبر أطفالي سأتفرغ لهواياتي.. في الواقع لن يتغير شيء، ستظل حياتك على نفس المنوال، وكل ما في الأمر أنك أجلت كل شيء لموعد لن يأتِ..

ثم تحرر من الفقاعة التي وجدت نفسك محشورا فيها منذ لحظة ولادتك، والتي تغلفها مجموعة من الأفكار والمحددات والموروثات الثقافية والدينية والاجتماعية وتعتقد أنها الحقيقة المطلقة، وتدافع عنها بعصبية.. تذكر أن كل ذلك تم حشوه في دماغك دون إرادتك، وأنك تلقيته دون مقاومة ودون تفكير.. فكر بفقاعات الآخرين، ولا تأخذ فقاعتك وفقاعات غيرك على محمل الجد.. الحياة أبسط من ذلك بكثير..

كي تحيا، وتنال الرضا وشيئا من السعادة ليس بالضرورة أن تكون شخصاً مميزا، ويُشار له بالبنان.. ليس شرطا أن تكون خارق الذكاء، أو مخترعا، أو خبيرا إستراتيجيا.. يكفي أن تحفظ جدول الضرب، وتعرف كيف تدير أمورك الصغيرة.. ليس شرطا أن تكون بروسلي، أو رونالدو، أو الشيف رمزي.. تجنب المشاكل، واستمتع بمشاهدة فريقك المفضل، ويكفي أن تعرف كيف تقلي بيضتين وتعد إبريقا من الشاي وكوباً من القهوة.. ليس شرطا أن تكون مهندسا، أو طبيبا، أو عالم فضاء.. المهم ألا تقبل بالبطالة، وكل المهن محترمة. ليس شرطا أن تكون ذو تاريخ نضالي طويل، وصاحب تجربة ممتدة، وأسيرا سابقا، ومقاتلا شرسا، ومحللا سياسيا.. كن إنسانا أولا، ولا تلقِ بالنفايات في الشارع، واحترم قواعد المرور، وادفع ضرائبك.. وهذه الوطنية الحقة..

ليس شرطا أن تكون كاتبا مرموقا وشاعرا فذا.. عبر عن مشاعرك وعن رأيك بأبسط الكلمات.. هذا أقرب للقلب وأكثر صدقا.. المهم لا ترتكب أخطاء إملائية فاضحة..

من حقك، ومن واجبك تجاه نفسك أن تكون شخصا مميزا، وناجحا، وطموحك أن تغدو مشهورا بل وشخصا خارقا طموح مشروع وطبيعي ومحمود.. ولكن إذا عشت حياتك وأنت تحاول ذلك، وحملتها فوق طاقتك توقع أن تُصاب بالخيبة، وأن تصل نهاية عمرك فتكتشف أنك أضعت حياتك هباء، وأنك خسرت الكثير.. اجعل هدفك من الحياة أن تحيا وتستمتع وحسب..

إقبل بشكلك وبوزنك وبلونك واشكر الله على نعمه، وتذكر أنك المحظوط من بين ملايين الحيوانات المنوية التي نجحت بالوصول إلى البويضة، بل أنت نتاج سلسلة تفاعلات لا نهائية بدأت قبل مليارات السنين، وفي أمكنة موغلة في البعد، واجتازت ما لا حصر له من التحديات والصعاب، فاحمد الله أنك لم تُخلق ضفدعا أو طحلبا في مستنقع آسن، وتذكر أن تعيش على الكوكب الوحيد الصالح للحياة من بين مليارات الكواكب..

لا تحمل نفسك فوق طاقتها، فأنت مجرد إنسان، ولا تلبس لباس الفضيلة فمن حقك أن تخطئ وأن تجرب وأن تنحرف وأن تفشل وأن تضعف وأن تخاف.. ولكن لا تظلم نفسك والآخرين ولا تسيء لأحد.. اختر نمط الحياة الذي يعجبك، ولست مضطرا لتبرير مواقفك، ولست مجبرا على إقناع الآخرين بأفكارك، ولن تنال محبة كل الناس مهما فعلت.. المهم ألا تؤذي الناس ولا تخرق القوانين ولا تتعدى على البيئة..

كل ثروات الدنيا لا تعادل دفء البيت، ولا عناق الشريك، ولا تقبيل يدي أمك، ولا ضحكة طفلك، ولا نومك السريع دون قلق..

هي حياة واحدة، وفرصة ثمينة منحها لك الخالق فلا تهدرها، كن كما أنت، كن إنساناً وكفى..