أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

نوفمبر 20، 2024

غزة، والخطر القادم

 

عندما يتعرض أي مجتمع لهزة عنيفة تؤدي إلى تغيير طبيعة وأنماط الحياة السائدة، وتهدد مستقبل الجماعة، سواء كانت كارثة طبيعية، أو بسبب عدوان خارجي في هذه الحالة يتحد المجتمع، ويتماسك ويدرك بعقله الباطن أن توحده وتماسكه هو خشبة النجاة، أو طوق الأمان الذي سينجيهم من المحنة، فيلعب الخوف الجمعي دورا إيجابيا بهذا الاتجاه، خاصة مع وجود قيم أخلاقية وضوابط مجتمعية ووعي عام.. ولكن هذه الحالة تتناسب عكسياً مع شدة الضربة التي يتلقاها المجتمع، ومع طول فترة التهديد، بمعنى أنَّ مرور الوقت يضغط بقوة باتجاه فكفكة هذه الحالة تدريجيا.

ولو أخذنا مثال الانتفاضة الأولى سنجد أن المجتمع تصرف في السنوات الأولى بشكل إيجابي وتعاوني، وأظهر صورا عديدة من التضامن والتكافل الاجتماعي، وبالرغم من عدم وجود سلطة فلسطينية آنذاك، وعدم وجود أجهزة أمنية وقضائية.. إلا أن المجتمع المدني أظهر صورة متقدمة وإيجابية وحافظ على الأمن والسلم الأهلي بدرجة مثيرة للانتباه، ولكن مع مرور الوقت بدأت الصورة تتغير سلبيا، وأخذت تطغى عليها مظاهر الفوضى، والانفلات الأمني، والنزاعات العشائرية وعمليات التصفية والانتقام.

في الانتفاضة الثانية تكررت الصورة، فبقي المجتمع متماسكا ومنضبطا وموحدا، بالرغم أن الضغط الخارجي ومستوى العنف المسلط من قبل الاحتلال كان أكبر بكثير مقارنة بالانتفاضة الأولى، ربما بسبب وجود سلطة، وأجهزة أمن، وقضاء.. ولكن، أيضا، لم تدم هذه الحالة طويلا، فقد بدأت تطغو مظاهر الفوضى والانفلات الأمني والتعديات على القانون.. خاصة مع ضعف مؤسسات السلطة واختفائها أحيانا..

في الحرب العدوانية على غزة يمكن القول أن الصورة تكررت، ولكن بتكثيف أكبر بكثير، فقد تعرض القطاع لعنفٍ غير مسبوق، أدى إلى تدمير كل شيء حرفيا: البيوت والمؤسسات الصحية والتعليمية والأمنية والقضائية والبنية التحتية، ومقتل عشرات الآلاف، ونزوح أغلب السكان وفقدانهم المأوى والأمن.. وبالرغم من ذلك حافظ المجتمع على قيمة وتماسكه وتعاضده في أشهر الحرب الأولى، ولكن مع زيادة شدة مستويات العنف، وطول مدته، وعدم وجود أفق لحل سياسي أو حتى إنساني.. بدأت الأمور تنهار وبسرعات رهيبة.

قرابة مليوني نازح، يعيشون في مراكز إيواء لا تتوفر على أدنى مقومات الحياة، وقد تحولت حياتهم إلى بؤس وشقاء وطوابير مذلة، بحثا عن كومة حطب، أو رغيف خبز، أو لدخول المرحاض.. وأعداد كبيرة منهم لم يحصلوا على خيمة، ولا تصلهم المساعدات، ومنهم من يبيت في العراء..

فوضى شديدة على الطوابير، والأغلبية يتحدثون عن الواسطات والمحسوبيات، ويشكون من غياب العدالة في التوزيع، فضلا عن الغلاء الفاحش في الأسعار وتغوّل التجار، والعمولات الباهظة التي يفرضها السماسرة، وسرقة المساعدات وبيعها بأسعار فلكية، والاستغلال البشع لحاجات النازحين لخيمة، أو لغرفة مستأجرة.

مع أن سرقة بيوت النازحين في بدايات الحرب كانت بقصد الحصول على الطعام، أو أي شيء يساعد على البقاء، لكن الظاهرة تطورت، وانتشرت وصارت سرقة كل شيء، حتى تحولت إلى ظاهرة خطيرة، ولم تعد مقتصرة على عصابات منظمة.. ولم تعد السرقة هي المشكلة الوحيدة؛ فقد تفشت الظواهر السلبية بأنواعها، وانعكست على سلوك الناس، وظهرت مسلكيات اجتماعية لم تكن مقبولة سابقا، بمعنى أن بنية المجتمع التقليدية ضُربت، لدرجة أنه حتى بعد انتهاء الحرب سيحتاج المجتمع فترات طويلة حتى يبرأ منها.

ما يحصل في غزة الآن مرعب وخطير.. ولا تقتصر الخطورة على الفوضى والانفلات الأمني، الذي يتفاقم يوما بعد يوم، واستقواء بعض العائلات على غيرها، وظهور العصابات المسلحة، والجواسيس وتجار المخدرات.. الخطورة أنه ما من جهة رادعة، ولا توجد أية حماية للمواطنين.. مع أن حماس وحدها من يمتلك السلاح والقوة، لكن يبدو وبحسب أقوال لمواطنين أنها تغض الطرف عن سارقي المساعدات والسماسرة وتجار الحروب، إما لأنها عاجزة، أو متواطئة ومستفيدة.

كما تسعى مجموعات من حماس لإسكات أي صوت يتحدث عن تلك الظواهر السلبية والمخيفة، وبدلا من تحمل مسؤولياتها للأسف تلجأ للعنف والترهيب، فضلا عن الإرهاب الفكري ضد كل من ينتقد ويصرخ ويستغيث. وهذه تصرفات حمقاء ستجر الجميع إلى أتون الفتنة والاقتتال الداخلي.

الخطورة أن ينتقل الخلاف في الرأي من الكلام والنقاش إلى مستوى الفعل والانتقام، هذا لن يخلق سوى الكراهية والحقد والمزيد من التعصب والتشظي.. ويبدو أن بعض المتشددين من حماس قد بدؤوا مبكرا التحول إلى هذا الاتجاه، فإذا كان حالنا الآن ونحن جميعا تحت القصف الإسرائيلي، فكيف سيكون حالنا في "اليوم التالي" للحرب؟

هذا الخراب والتخريب المنهجي سيفتتح حلقة جديدة من مسلسل الصراع الأهلي، ومثل هكذا صراع هو الأخطر والأشد والأعنف، ولن يسلم منه أحد؛ من اعتدى ومن اعتدي عليه، ستتسع دوائر الانتقام، وحلقات العنف.

في الحروب والأزمات الشديدة يضعف العقل الجمعي الواعي، ويبدأ العقل الفردي المحكوم للنزعات البدائية، أي نزعة البقاء، ويصبح الحل والخلاص فرديا، على كل شخص أن ينجو بنفسه، وينحصر همه في عائلته فقط، بغض النظر عن مصير الآخرين.. الحرب تُخرج أسوأ ما في النفس البشرية، وتستفز وتستدعي نزعاتها البدائية والمتوحشة، تحت وطأة الخوف والرعب والقلق وانعدام الأمل، خاصة مع انهيار المنظومة المجتمعية، وغياب الضوابط وشيوع الفوضى.. هذه حالة متوقعة أصابت كل المجتمعات الإنسانية قديما وحديثا، وفي كل مكان.. 

طبعا كل الظواهر السلبية التي تحدثنا عنها لا تصيب جميع المجتمع، تبدأ بالشرائح الضعيفة (نفسيا، وماديا، وثقافة، ووعيا) ثم تمتد إلى بقية الشرائح.. لكن نواة المجتمع الصلبة المسلحة بالوعي والانتماء والإنسانية تظل صامدة ومتماسكة، وهي التي تعيد بناء المجتمع بعد انقضاء الأزمة وزوال التهديد..

هذا الانهيار المجتمعي بدأ يظهر بوضوح منذ مدة ليست قصيرة، لكن الإعلام يتكتم عنها، حتى لا يخدش الصورة "المثالية" التي صدّرها عن مجتمع غزة، وعن المقاومة وحاضنتها المفترضة.. ما يجري من سرقات وتعديات واستغلال وسمسرة وذل وبهدلة وإمتهان لكرامة الناس، ومن تفتت اجتماعي، وانهيار قيمي وصل حدا خطيرا لدرجة أن الجميع يخجل من ذكر الكثير من القصص، التي تبدو شاذة الآن، ولكن إن استمر مسلسل التدهور فتصبح مجرد قصص يومية..

لا شك أن إسرائيل تتحمل المسؤولية عن كل ما يجري في غزة، لأنها قوة احتلال، ولأنها هي التي شنت الحرب، ولأنها تدفع بالأمور بخطط مدروسة نحو مزيد من الانهيار والتفكك.

أوقفوا هذه الحرب العبثية قبل أن نفقد ما تبقى من إنسانيتنا..

نوفمبر 14، 2024

نضال استعراضي وخطاب شعبوي


لا شك عندي أن لهذه الحرب العدوانية أوجه عدة، وجه تتمثل فيه صور البطولة والمجد، وصور أخرى تمثل جانب المأساة والكارثة.. فثمة مقاومين مضحين وشجعان، قدّموا أرواحهم فداء مبادئهم.. ومدنيين عزل يبيتون في خيمة بائسة جائعون ويرتجفون من البرد، لكنهم ممتلئون بمعاني الأنفة والعزة.. رغم صحة ما يقال عن "الصمود الإجباري"، وأنه "لا خيار أمامهم"،  ومع ضرورة تمييزنا بين حق المقاومة ووجوبها، وممارستها بالشكل الصحيح، وبين ممارستها بنهج المغامرة غير المحسوبة، أو ممارستها على شكل إعلان الحرب..

هناك الكثير مما يمكن قوله عن تلك الصور المتناقضة، والتركيز على جانب، وتجاهل الجوانب الأخرى بتحيزات مسبقة ورؤى حزبية ضيقة.. ما أود الحديث عنه هنا جانب آخر، يمكن وصفه بالنضال الاستعراضي، أو النضال الموجه للجمهور..

جميعنا يدرك أهمية الصورة، والإعلام، والخطاب، والتصريح الصحافي، والتحدث إلى الجمهور، ورفع المعنويات.. إلخ، على أن يتسم ما سبق بالموضوعية والمصداقية، لا أن يكون مجرد بربوغاندا ودعايات سياسية وحزبية. ولتوضيح الفكرة لنطرح بعض الأمثلة:

بخصوص الحرب المحتدمة بين إيران وإسرائيل، والتي انحزنا فيها إلى جانب إيران بطبيعة الحال، تلك الحرب أخذت الشكل الإعلامي أكثر من مفاعيلها على الأرض، حيث قصف كل طرف الآخر ضمن حسابات دقيقة بحيث لا يستفزه، إلى درجة تدفعه لاستخدام أقصى قوته، وبالتالي الوصول إلى حرب كبرى.. وهذا حسن، ومفهوم ومبرر ضمن الحسابات السياسية المعقدة، ولكن لنراجع الحرب الإعلامية بين الطرفين.. إيران تهدد بحرق الكيان، وإزالته عن الوجود، فيما تهدد إسرائيل بتدمير منشآت إيران النووية والنفطية وإعادة البلد إلى العصر الحجري..

في حقيقة الأمر كان كل طرف يخاطب جمهوره تحديدا، إيران تريد من خلال تصريحاتها النارية إرضاء وإسكات شعبها وجمهورها ومؤيديها، وإيصال رسائل معنوية معينة.. وإسرائيل تريد إسكات اليمين والمستوطنين وإرواء جمهورها المتوحش والمتعطش للدماء..

الأسلوب نفسه كان يمارسه حزب الله؛ فتصريحاته الإعلامية كانت توحي بأن لديه قوة رادعة قادرة على سحق إسرائيل وضرب مراكزها الحيوية.. فهل كانت تلك التصريحات تعكس الحقيقة، أم أنها موجهة؟ الإجابة ربما أن الحزب انخرط في الحرب لإرضاء جمهوره، وخلافا لقناعات قياداته التي رأت أن الأوان غير مناسب، وأن الأمر فوق طاقته؛ لذا ظل على مدى سنة كاملة يضرب ويقصف بضربات محسوبة، وضمن قواعد اشتباك متفق عليها ضمنيا.. لنناقش لاحقا موضوع النتائج وما حصل مع الحزب وتلقيه ضربات قاتلة واغتيال قادته..

كذلك فعلت حماس والجهاد؛ خطاب إعلامي مليء بالوعيد والتهديد، ويظهر الانتصارات وتدمير الدبابات (بغض النظر عن دقة الصور والفيديوهات التي تنشرها عبر "الإعلام الحربي")، المهم أن من يتابع هذا الخطاب سيعتقد أن ما يجري عبارة عن حرب بين جيشين شبه متكافئين، وأن ضربات حماس على وشك إلحاق هزيمة عسكرية كبرى بإسرائيل.. في حين أن ما يجري على أرض الواقع مختلف كليا، والنتائج المتحققة كارثية بمعنى الكلمة.. لكنه خطاب معد بطريقة تستهدف جمهور حماس في العالم الإسلامي، وبرسائل واضحة مفادها أننا موجودون، وأي حل سياسي أو ترتيبات للمنطقة لا يمكن أن تمر إلا بموافقتنا ومشاركتنا، حتى لو أدى ذلك إلى مقتل آلاف الفلسطينيين، وأمامنا نموذج الجزائر، وما زلنا بعيدين عن الوصول إلى رقم المليون شهيد!!

والأمر ليس فقط لإرضاء الجمهور، أو امتصاص غضبه؛ فما يحصل أيضا أن الحزب أو الفصيل يصبح رهين شعاراته وأسيرا لها، ولأنها شعارات "إطلاقية"، وعمومية، عوضا عن أن يقوم بتكييفها أو مراجعتها.. يصر إعلاميا على التمسك بها وترديدها، مهما توسعت الفجوة بين الشعار وإمكانية تحقيقه، وحتى لو كان سيؤدي إلى التهلكة..

يأتي خطاب الجزيرة، وسائر المحطات الفصائلية في السياق نفسه؛ خطاب موجه للجمهور بطريقة دعائية مكشوفة.. وبالطبع يسري التعميم على سائر المحطات الفضائية والمنصات الإعلامية الأخرى ودون استثناء، كل محطة تستهدف جمهورها، وتسعى لإرضائهم وتوجيههم بحسب توجهاتها وأجنداتها.. إما تضخيم "المقاومة" والمبالغة في وصف قوتها وأفعالها.. أو تثبيط المعنويات وبث ثقافة اليأس والاستسلام. وهذا ينسحب حتى على المراسل في الميدان والمذيع في الاستوديو، اللذان سيتبادلان الأدوار لإرضاء قناتهما الفضائية، حتى لو كان ما يقوله مخالفا لقناعاته.

وأيضا الكتّاب والإعلاميين والمثقفين والمؤثرين في وسائل التواصل.. أغلبهم تنطبق عليه القاعدة نفسها: استهداف جمهور معين، وتعزيز تحيزاته المسبقة، وعلى طريقة "ما يطلبه المستمعون".. حتى أولئك الذين صمتوا ولم نسمع لهم صوتا، صمتوا لأنهم خائفون من جمهورهم، ولا يريدون إغضابهم، أو خسارتهم.. باختصار ما هو سائد خطاب شعبوي تسطيحي، وخطاب دعائي دوغمائي..

وأسوأ ما في الموضوع ذلك السوق الذي أوجدته الفضائيات، والذي استدعى زبائنه من بعض الكتّاب والمحللين والخبراء، وكأنه موسم للتكسب؛ حيث استخدمت كل محطة ثلة من الأرزقية والببغاوات الذي يقولون ما تريده المحطة، بلا موضوعية، وبلا أمانة، وبتغييب سافر للرأي الآخر..

المشكلة أن الجمهور العربي والإسلامي يعيش منذ عقود طويلة في سلسلة من الأزمات والنكبات والهزائم، في ظل أنظمة قمعية، وضمن ظروف بائسة ومهينة.. وقد وجد أخيراً مصدرا يعوضه كل بؤسه ومهانته وينسيه هزائمه، وفوق ذلك يمنحه شعورا بالعزة والكرامة ويمنحه الأمل.. وذلك المصدر هو غزة.. وبالتالي يجب أن تستمر حرب غزة، ونظل نسمع أخبار التفجيرات وقصص البطولة، وليس مهما إن كانت فعلا قصصا حقيقية، وليس مهما ما يحصل لهؤلاء الغزيين، حتى لو ماتوا جميعاً.. المشروع يستحق التضحية، ونحن بحاجة ماسة لمن يطربنا بأخبار "التفجيرات"..

وبذلك ضاعت الحقيقة، أو ضُيعت، وتفتت إلى نتف هنا وهناك، وتاهت الجماهير وتعمقت حيرتها، وتعمق انقسامها، حتى وصل الضمائر والمشاعر والوجدان، وأحيانا فقدان البوصلة الإنسانية.. والخاسر الأول هم الفلسطينيون، وبالذات أهلنا في غزة، الذين يدفعون الأثمان الباهظة من لحمهم ودمهم وخوفهم وارتعادهم وجوعهم، ومن واقعهم البائس ومستقبلهم الذي صار في مهب الريح..


نوفمبر 04، 2024

تغيير الخارطة الجيوسياسية


قبل الحرب بشهر ألقى نتنياهو خطابه السنوي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وحينها أظهر خارطة جديدة لمنطقة الشرق الأوسط زاعما أن الألوان التي عيّنها في الخارطة ستكون حدود وشكل الشرق الجديد، وأنه سيغير المنطقة، والعالم..

بالطبع مدفوعا بتوهم مرضي بأنه أذكى وأقوى من كل من سبقوه من جنرالات وقادة ورؤساء دول عظمى، زعموا جميعهم (أو أسند إليهم) أنهم سيغيرون المنطقة وفق أطماعهم ورؤيتهم الخاصة..

لنتابع بعضاً من تلك المشاريع الكبرى التي استهدفت تغيير الخارطة الجيوسياسية، على الأقل منذ خمسينيات القرن الماضي.. ونرى مصائر تلك المشاريع، والأثر الذي تركته..

في الخمسينيات حاولت إسرائيل وبدعم أمريكي (ويُقال بتفاهم مع مصر، أو رغما عنها) تهجير اللاجئين من غزة إلى سيناء وتوطينهم هناك، الأمر الذي أطلق موجة مظاهرات شعبية حاشدة تقدمها معين بسيسو وقادة آخرين أفشلت المشروع.

وكررت إسرائيل محاولتها تهجير نحو ثلاثمائة ألف لاجئ من غزة إلى سيناء وذلك في العام 1970، إلا أن موجة جديدة من الكفاح (المدني والمسلح) شهدها قطاع غزة برز فيها الفدائي زياد الحسيني قائد قوات التحرير الشعبية، والفدائي محمد الأسود "جيفارا غزة" من الجبهة الشعبية، ومجموعات تابعة لحركة فتح، وقد جوبهت بقمع عنيف، لكنها أدت إلى إفشال مخطط التهجير.

وبعد هزيمة حزيران 1967 أكملت إسرائيل احتلالها لفلسطين ومعها ثلاثة أضعاف مساحتها، وحينها ساد اعتقاد بأن المشروع الصهيوني بلغ غايته، وسحق أعدائه، وألحق بهم هزيمة نكراء، بحيث لن يجرؤ أحد بعد ذلك على مقارعة إسرائيل.. لكن نتائج النكسة لم تكن كلها سلبية، فقد شكلت حافزا لنهوض الوطنية الفلسطينية، وانطلاقة فتح الثانية، وتصعيد الكفاح المسلح، كما أن مصر وسورية خاضتا حرب تشرين بعدها بست سنوات لتغسل بعضا من عار الهزيمة.

وبعد حرب تشرين 1973 طُرح بقوة مؤتمر جنيف، والذي قيل عنه آنذاك أنه سيغير الخارطة، وأنه مؤامرة لتصفية القضية، وو..

ثم جاءت الحرب الأهلية اللبنانية، وكان الهاجس الأكبر تقسيم لبنان، أو تسليمه لإسرائيل (اتفاق 17 أيار).. ومع أن الحرب انتهت بنتائج كارثية إلا أن المخططات الكبرى التي استهدفت لبنان فشلت ولو جزئيا.

وعندما غزت القوات الأمريكية المنطقة (التحالف الثلاثيني) بحجة تحرير الكويت ونشبت حرب الخليج الأولى، كانت كل التخوفات (نتيجة أقوال المحللين) بأن أمريكا ستعيد بناء شرق أوسط جديد، وأن مؤتمر مدريد سيصفي القضية..

وبعد غزوة مانهاتن (11 أيلول) وإعلان الولايات المتحدة حربها على الإرهاب، والتي دشنتها باحتلال أفغانستان (2001)، ثم تبعتها بغزوها للعراق (2003)، قيل أيضا أن أمريكا ستعيد بناء شرق أوسط جديد..

وفي بداية ثورات الربيع العربي وبعد إسقاط عدد من الأنظمة (2011)، ساد اعتقاد متفائل بأن الشعوب العربية أمسكت بالمبادرة، وسيكون لها القول الفصل في إعادة ترتيب البيت العربي على أسس وطنية وديمقراطية.. وفي الهزة الارتدادية ساد اعتقاد معاكس بأن الدولة العميقة للأنظمة الرجعية استعادت قوتها.. وكانت سورية في عين العاصفة، وقد استُهدفت كدولة وأرض وشعب، وبدعم سخي من دول الخليج  وتفاهم مع الديمقراطيين في البيت الأبيض، وكان من المفترض أن تهيمن حركات الإسلام السياسي على المنطقة من المغرب حتى العراق، مرورا بالدولتين الأهم مصر وسورية.. وكانت "داعش" الناتج العرضي لإخفاق ذلك المخطط، والتي أزيحت من المشهد لفشلها وبشاعتها أولا، ولأنها استنفدت أغراض إنشائها، ليبدأ الغرب الإمبريالي بمشروع جديد..

 حاولت إسرائيل بشتى السبل إنهاء منظمة التحرير، أو إيجاد بديل عنها بدءًا بمشروع انتخابات البلديات (1976)، والتي أتت بنتائج معاكسة لما أرادت، مرورا بمشروع روابط القرى، والإدارة المدنية والتي لاقت الفشل ذاته.. وانتهاءً بحربها في ال82، حتى اضطرت للاعتراف بالمنظمة في أوسلو.. وبعدها بسنوات قليلة اندلعت الانتفاضة، ثم شنت إسرائيل ما عرف بعملية السور الواقي في الضفة الغربية (2002)، وقيل حينها أن إسرائيل ستضم الضفة، وستعيد ترتيب المعادلة السياسية بحسب ما تريد، وستقوض الحلم الفلسطيني..  

عشرات المشاريع الأمريكية والإسرائيلية استهدفت اللاجئين الفلسطينيين، والقضاء على المخيم، وتصفية الأونروا، وتقويض حق العودة.. بلغت ذروتها في عهد ترامب السابق، فضلا عن مشاريع التهجير مرة إلى سيناء، ومرة إلى الأردن، أو إلى كردستان، أو توزيعهم على مدن العالم.. ومع ذلك بقي ستة ملايين فلسطيني فوق أرض فلسطين. ومثلهم في المنافي متمسكون بحق العودة..

وشنت إسرائيل عشرات الحملات الأمنية ومئات عمليات الاغتيال وآلاف الاعتقالات وبأقصى درجات القمع والوحشية بهدف استئصال المقاومة، أو إنهائها، أو حتى إضعافها.. دون جدوى.. وعلى مدى سبعة عقود مارست كل ما تستطيع من بطش، وبكل الوسائل وبآلة حرب جهنمية بهدف تدجين الفلسطينيين، أو كي وعيهم، أو سحق إرادتهم.. وأيضا دون جدوى.

صحيح أن نتيجة هذا المسلسل الطويل من الحروب والصراعات والمشاريع السياسية والمؤامرات أدت إلى تراجعات متواصلة في الجانب الفلسطيني (وبالطبع في الجانب العربي، وربما أكثر)، مقابل إنجازات متتالية لإسرائيل وللمشروع الصهيوني الإمبريالي عموما.. لكن في المحصلة النهائية المشروع الصهيوني لم ينجز غايته الكبرى والأهم، ولم يهجّر الفلسطينيين، ولم ينجح في إلغاء وجودهم السياسي.. في المقابل صمد الفلسطينيون، وبقيت الأرض، وبقيت القضية محتدمة ومتقدة، بل وتزداد توهجا..

بمعنى آخر ظلَّ الصراع مفتوحا دون حسم..

صحيح أن الحرب العدوانية على غزة مؤلمة جدا، وتكبدنا فيها خسائر باهظة، ولحد الآن نتائجها كما أراد نتنياهو.. لكنها في السياق التاريخي مجرد جولة دامية، سبقتها جولات، وستتبعها جولات.. وسيفشل نتينياهو في ترتيب المنطقة كما يزعم، ولا أقول هذا من باب المناكفة، أو شعارات، أو لرفع المعنويات.. بل لأن الأطراف الداخلة في الصراع كثيرة ومتناقضة، والعوامل المؤثرة فيه متشابكة ومعقدة، ولا يملك أي طرف مهما بلغت قوته تسيير دفة الأحداث، والتحكم في مجرى التاريخ بحسب ما يريد ويشتهي..

المشاريع المطروحة ليست قدرا محتوما، وإذا كسبت القوة الغاشمة جولة فهذه مجرد لحظة جنون، لكن التاريخ ليس مجرد لحظة.. التاريخ تصنعه الشعوب الحية، والتي بإرادتها وتضامنها تكسر كل قوة غاشمة.. وأظن أن مائة عام من الصراع لم تكسر الشعب الفلسطيني، وأنه بذلك صار عصيا على الكسر.. وسيستعيد وحدته، ومشروعه الوطني، وسينتصر..

أكتوبر 25، 2024

سمتان للعقل العربي

سمتان للعقل العربي

كات العرب قديما لا يهتمون بالتوثيق، وكل ما وصلنا عنهم شفاهة؛ إما بالتواتر أو بالعنعنة، وما وصلنا منهم كان إما شعرا أو نثرا (خطابة) أو أمثلة شعبية، وهذه الأصناف الأدبية كانت إما مدحا أو ذما أو هجاء أو رثاء أو مفاخرة أو غزلا.. بمعنى أنها كانت تخاطب القلوب والعواطف والوجدان، وأقل القليل ما وصلنا على شكل حكمة، أو دراسة، أو نقد، أو بحث، أو تحليل.. أي ما يخاطب العقول ويحث على التفكير؛ فهذا النمط من الكتابة والخطاب لم يكن شائعا، باستثناء ومضات قصيرة تمثلت في الفلسفة (الفارابي واين سينا وابن رشد..) وعلم الكلام (المعتزلة) وبعض تمظهرات الهرمسية (إخوان الصفا).. وهؤلاء سرعان ما غلبهم الفقهاء وأصحاب مدرسة النقل والعنعنة وتقديس النص..

وفي تلك المراحل المبكرة كانت اللغة العربية قد بلغت أوج نضوجها، ومعها ظهر علم البديع، وتطور السجع والشعر، وظهرت محسنات لغوية إضافية كالجناس والطباق والمقابلة والمبالغة والإغراق والغلو وما يعرف بزخرف القول، فتفوق الشكل على المضمون، بل وهمشه جانباً، وصارت اللغة (كتابة وشفاهة) من أهم مكونات العقل العربي ومرجعية تفكيره، والتي أيضا صاغت التكوين النفسي والفكري والوجداني للإنسان العربي، فصار أحسن الناس أحسنهم شعرا ونثرا وفصاحة وخطابة، وصار بوسع قصيدة أن ترفع شأن قبيلة أو تحط منها.. واليوم استبدلناها بالشعار.. ومن ذلك الوقت صار ممكنا القول بأن العرب ظاهرة صوتية، وهي المقولة التي قالها بكل وضوح عبد الله القصيمي.

أما السمة الثانية فتمثلت في الأسطرة وتقديس الشخوص والرموز، فإضافة لما تناقلوه من أساطير عن عنترة والمهلهل والهلالي، والمبالغات في وصف كل القادة العسكريين من بعدهم مع إحاطتهم بهالات من التقديس ورفعهم فوق مستوى البشر (كل أفعالهم وأقوالهم صحيحة ومبجلة)، المهم هنا أن سيرة كل قبيلة أو منطقة ارتبطت باسم زعيمها الأوحد أو فارسها المغوار أو شاعرها الملهم.. الذين ابتلعوا التاريخ الاجتماعي والاقتصادي، وبذلك غابت (أو غُيبت) سير الناس العاديين وأدوارهم.. وبالتالي سار الاعتقاد أنهم غير موجودين، أو على الأقل غير مهمين.

في ثنايا هذه العقلية صار الفارس والمحارب والذي أعمل سيفه في رقاب (الأعداء) هو القوي المهاب وصاحب المنزلة الأرفع، وهؤلاء احتلوا مكانة وجدانية واجتماعية أهم ممن تم تكريمهم لسمات الكرم والمروءة، أو لرجاحة عقلهم وحكمتهم.. فبالكاد عرفنا عنهم أمثلة تُعد على أصابع اليد.

المهم هنا، أن البطل (الزعيم، أو القائد العسكري) هو الذي بيده مفاتيح الحل والربط، هو الذي يصنع الانتصار، وهو من يجلب المجد، ومن يحدث التغيير، وجرى تغييب دور العامة (الجماهير، أو قوى المجتمع المدني)..

صحيح أنه لا يجوز محاكمة الماضي بمعايير الحاضر ومحدداته ومفاهيمه، لكن ذلك الماضي ما زال مؤثرا وفاعلا في الحاضر، بالعقلية نفسها، وباللغة وأدواتها ذاتها.. فنفكر ونخطط بلغة الماضي ومفاهيمه وقيمه، ونستدعي النصوص القديمة والقوالب الجاهزة لمواجهة التكنولوجيا والعولمة وأدوات العصر الراهن..

ولحد الآن لا نتوقع التغيير أو النصر إلا بوجود القائد الزعيم، وما زلنا نستدعي قادة وأبطال الماضي لمواجهة أزمات وهزائم العصر.. وما زلنا مصممين على أن النصر سيجلبه قائد مظفر، سيكون بالضرورة نسخة عن أبطال الماضي.. 

والمشكلة أيضا أن سمات البطل ومعايير البطولة (القديمة) هي ذاتها سمات ومعايير البطولة اليوم.. البطل هو فقط من يوغل في الأعداء، ومن يقتل أكبر عدد منهم، من يعلي صوته أكثر بالخطابة والشعارات والنصوص المقدسة، بغض النظر عن مدى ملاءمتها للحاضر واستجابتها لتحدياته، ومدى فاعليتها أو أثرها، أو حتى أضرارها ولو كانت كارثية.. ولا بد أن يٌقتل حتى تتعزز بطولته!

ومع الرهان على البطل (الزعيم)، أو انتظار قدومه تعطل دور الجماهير (أو هي عطلته بنفسها) لأنها ظلت ترقب وتنتظر قدوم البطل، ولما أتى اكتفت بدور المراقبة والتفرج.. وهذا متوقع، ليس لأن الجماهير متخاذلة؛ بل لأنه تم دفعها بهذا الاتجاه وجرى تصميم فكرها وتوجيه فاعليتها لتكون بلا فاعلية، ففي حرب غزة جرى تكوين جماهير افتراضية بناء على فكرة تضخيم البطل (المقاومة)، ولما وقعت الحرب تعرضت المقاومة لضربات قاتلة، لأن القوة المتخلية لها لم تكن حقيقية، وتخلفت الجماهير عن دورها، لأنها بلعت الطعم وانطلت عليها الخديعة، فتبين أنها جماهير خاوية، وتحولت من دور الفاعل والمؤثر، إلى المتفاعل ولكن فقط على وسائل التواصل.

قديما كان كل ما هو مطلوب من البطل (زعيم القبيلة، أو قائد الجيش) أن يرتدي بزة المحارب، وأن يقف أمام صفوف الجيش ويهتف أمامهم ببعض الشعارات الحماسية، وأن يلوّح بسيفه آمرا ببدء الهجوم.. هذا كان كافيا لجلب النصر أو الهزيمة، والأمر برمته لا يحتاج سوى سحابة يوم، أو بضعة أيام، وينتهي كل شيء.. ومباشرة يأتي "اليوم التالي"..

لنتخيل مثلا لو أن خامنئي أو أردوغان أو السيسي أو أي قائد بأفضل المواصفات جمع جيشه ووقف أمامه ولوح بمسدسه آمرا بتقدم الجيش نحو العدو لتحرير فلسطين.. رغم سذاجة الصورة وسريالية المشهد إلا أن الكثير ما زال معتقدا أنه هذا هو الخيار الوحيد للتحرير وجلب النصر وإنهاء حقبة من الهزائم امتدت على مدار ألف سنة!

ألف سنة ونحن خارج سياق تطور التاريخ، وعلى هامش الحضارة، بدون أي فعل، سوى الكلام ولوك الكلام واجترار الماضي والتغني بأمجاد الغابرين.. ألف سنة ونحن نصنع أبطالا افتراضيين، لأن هذا فقط ما ينسجم مع ثقافتنا وطريقة تفكيرنا..

لم نصدق يوما أن البطل هو من يحقن دماء شعبه.. ومن يؤسس نظاما تعليميا حداثيا.. ومن يبني مؤسسة صحية متطورة.. ومن يؤسس حكما رشيدا قائما على النزاهة والعدالة والتعددية واحترام الحريات.. من يعلي من قيمة الإنسان.. من يخترع شيئا مفيدا للبشرية.. أو من يجترح نظرية فلسفية أو علمية..

ولم نقتنع يوما أن البطل الحقيقي القادر على إحداث التغيير والنهوض وجلب النصر.. هو الشعب، المجتمع المدني، العقول، والنخب.. لكن هذا الشعب وكل الشعوب العربية، سُحب البساط من تحتها وتحولت إلى متفرج.

لهذه الأسباب، وغيرها، وصلنا إلى هذه المرحلة المزرية.. 

أكتوبر 21، 2024

دمعة على غزة


كانت غزة أول حاضرة فلسطينية حملت اسم فلسطين منذ القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وظلت محافظة على فلسطينيتها رغم تقلب الحكام والغزاة، وبعد النكبة كانت الحاضنة الأهم للهوية الفلسطينية، ومنها خرجت معظم قيادات الثورة، ومنها انطلقت انتفاضة الحجارة..

قبل الحرب العدوانية بسنوات طويلة وبسبب الحصار الظالم لم تكن ظروف قطاع غزة جيدة، بل طالما وُصفت بالصعبة والمأساوية، حيث كانت مستويات الفقر والعوز والبطالة قد بلغت مستويات قياسية، إلى جانب انقطاع الكهرباء وأزمات الوقود والغاز وتلوث المياه، وتفشي الأزمات الاجتماعية، فضلا عن القمع البوليسي، الأمر الذي دفع بنحو 300 ألف مواطن غزي لهجرة القطاع والبحث عن حياة أفضل في أرض الله الواسعة، العشرات منهم قضوا نحبهم غرقا أثناء مغادرتهم ما اعتبروه جحيما لا يُطاق..

ومع ذلك، فإن كل تلك الظروف المأساوية لا تُقارن بالجحيم المنصب فوق رؤوس الغزيين الآن الذين باتوا يحنون بشوق إلى تلك الأيام، ويتمنون عودتها.. فعلى الأقل كان لكل مواطن بيت أو حتى شبه بيت، بجدران وسقف تحميه من قيظ الصيف وأمطار الشتاء، فيه شبابيك وأبواب، وحمّام، ومطبخ، وبعض الأثاث.. بل كانت هناك منازل فخمة وفلل وعمارات حديثة وأبراج شاهقة، وشوارع واسعة مشجّرة، وأزقة وحارات، وأضواء، وأسواق، ومقاهي ومطاعم وشركات ومؤسسات وورش ومصانع، وشاطئ جميل، وشاليهات وحدائق وبساتين ومزارع.. تقريبا كل شيء..

كانت حياة بسيطة ووادعة بالنسبة لأغلب السكان، وصعبة بالنسبة لآخرين؛ لكنها على الأقل حياة.. ورحلة كفاح وصمود، ومحاولات لقهر الصعاب، مع أمل كبير بغدٍ أفضل..

زرت غزة في العام 1997، أي قبل الانتفاضة، وقبل الحروب، كانت آنذاك في عصرها الذهبي، وفي ذروة صعودها ونهضتها العمرانية، كانت الكهرباء 24 ساعة، والمعابر مفتوحة، ونسبة البطالة لا تُذكر، والأسواق تعج بالناس، والمخيمات مثل خلايا النحل، والمشاريع تتدفق على القطاع بلا انقطاع.. كان الرهان على غزة بأنها ستكون سنغافورة، أو أقل قليلا..

ستمر على القطاع تحولات دراماتيكية ومفجعة: ما أسمته حماس "الحسم العسكري"، وسيطرتها الكاملة على القطاع، وحروب إسرائيل العدوانية، والتي كانت في كل مرة تدمر وتخرب وتترك وراءها آلاف الضحايا بين شهيد وجريح ومعاق..

في العام 2019 زارت زوجتي خلود قطاع غزة، وعادت مبهورة ومندهشة من فرط فتنتها، ومن قدرة الغزيين على صنع الجمال وحب الحياة رغم قسوة الظروف، تحدثت طويلا عن البحر والمخيم والأسواق والناس، وعن تفاصيل كثيرة رأت فيها مواطن الجمال.. لدرجة أني حاولت بشتى السبل الحصول على تصريح لزيارة غزة..

العشرات من الأصدقاء في رام الله وغيرها زاروا القطاع وعادوا بانطباعات إيجابية، عادوا بدهشة المحب لما شاهدوه من تحديات الغزيين لظروفهم القاسية، وعلى تجاوز شروط الحصار الجائرة، وتحويلها إلى مشاهد تنبض بالحياة، وبالألوان، وتعد بمستقل أفضل..

كان المجتمع الغزي يكافح بضراوة وبعبقرية للتغلب على واقعه المرير، ولشق مسارات نحو مستقبل مشرق، لم يكن تكيفه مع شروط الحصار استسلاما، بل كانت مواجهة مفتوحة وشجاعة وعلى كافة الجبهات: مشاريع شبابية واعدة، بناء، إصرار على الحياة، تحايل على الفقر، تمسك بالهوية الفلسطينية، وتصعيد للمقاومة.. وبموازاة ذلك اهتم الغزيون بمسارات العلم والتعليم، فكانت نسبة حملة الشهادات الأكاديمية العليا من أعلى النسب في العالم، ولم يهملوا مسارات الفنون والآداب والإبداع..

فقد ظهرت كوكبة من الكتّاب والشعراء والإعلاميين والفنانين التشكيليين، إلى جانب النشطاء والمؤثرين، مع حراك مجتمعي نشط، ومبادرات خلاقة في شتى المجالات، بما فيها الموسيقى والغناء، وقد برز الفنان محمد عساف، وجمال النجار، وظهرت العديد من الفرق الموسيقية الشبابية مثل فرقة "فوزي وتوتي"، وفرقة "صول باند"، وفرقة "الطائر الجارح"، و"خطأ مطبعي"، و"دواوين"، وغيرها، حتى أن إحداها اشتركت في برنامج "Arab got talent"..

ومن جهة أخرى، ولمواجهة هذا النمو والتطور المجتمعي دأبت مجموعات دينية متطرفة على خلق مسارات معكاسة، فمثلا ظهرت "واحة الوعظ والإرشاد" ومركزها جنوب غزة، لتنشر إعلانات متكررة تحت عنوان: "ماراثون التائبين وقوافل العائدين"! كما أقامت إحدى الجماعات المتشددة حاجزا على أحد شوارع القطاع، لتوقيف مركبات النقل العمومي والتأكد أن النساء لا يجلسن بجانب السائق، وأن المسافة بين الذكور والإناث كافية في المقاعد الخلفية! وقام بعض المشايخ بمضايقة ومطاردة وتهديد الفرقة الموسيقية، وشاهدنا "حملات الإيمان"، و"شرطة الأخلاق"، والبعض حوّل المساجد إلى مقار حزبية، وظهرت عشرات الجمعيات التي تعمل تحت اسم جمعيات خيرية، أو لجان الزكاة، أو دور أيتام، أو مراكز تحفيظ القرآن الكريم.. مثل جمعية ابن باز، ومعهد ابن تيمية، ومجلس الدعوة السلفية، جمعية أهل السنة، وغيرها، وهي مراكز تتبع إما السعودية أو قطر أو الإمارات، وهي دول بينها مشاكل وصراعات سياسية، لكنها تتفق فيما بينها على نشر الفكر المتزمت.. وعلى إلهاء الناس بقضايا فرعية وهامشية، وحرف البوصلة عن القضية الأهم..

ومع ذلك، ظلت غزة مواظبة على إيقاعها الوطني والإنساني الجميل، وفي هذا السياق، من أكثر المشاهد المؤثرة فيديو لمئات الطالبات في طابور الصباح وهن يؤدين حركات رياضية على إيقاع أغنية غزة غزة، وفيديو تخريج طلبة جامعيين يرقصون وهم في غاية الفرح، يغنون للوطن، ممتلئون بالحياة، مقبلون عليها بكل الفرح والنشاط والحيوية.. تداعبهم أحلام الغد، ومشاريع المستقبل، واختبار دروب الحياة، وفرصها، وصورة مثالية عن العالم ومدنه وجرزه وشواطئه.. هذه المدرسة وتلك الجامعة قصفها الاحتلال مع عشرات المدارس والجامعات الأخرى، ومن نجت تحولت إلى مركز إيواء، وهؤلاء الطالبات وأولئك الخريجون ومعهم خمسون ألف إنسان قُتلوا ظلماً وعدواناً.. مع مليوني إنسان ذُبحت أحلامهم، ومشاريعهم، وتهمدت بيوتهم، ومن نجا من الموت عليه أن يتكيف مع نمط حياة جديد في خيام النازحين، بين الطوابير وأكوام الردم وتحت القصف.. فقط ليعيش يوما آخر.. يوم جديد لا يعرف (ونحن أيضا لا نعرف) كيف سيكون شكله..

نام الغزيون في ليلة السابع من أكتوبر وهم لا يدرون أنهم يلقون نظرة الوداع الأخيرة على مدينتهم التي ألفوها وأحبوها.. فقد دمر شيطان التوحش الهمجي الصهيوني الأمريكي كل شيء.. ولكنه سيعجز عن هزيمة الرُّوح الفلسطينية الإنسانية.. وسيعجز عن تدمير روح غزة..

غزة لا تستحق دمعة واحدة؛ بل أنهر من الدموع والدماء..