أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يونيو 17، 2025

ففتي ففتي

 

"ففتي ففتي" تعني القسمة مناصفة.. وسأستخدم هذا المصطلح مجازا لتحليل أسباب هزائمنا وإخفاقاتنا المتتالية..

لو استعرضنا تاريخ الصراع العربي الصهيوني، سنخلص بنتيجة في غاية الوضوح، تدعمها عشرات البراهين، وهي أن مشروع الغرب الاستعماري، والمشروع الصهيوني الإمبريالي (إسرائيل) في تقدم مستمر، يحقق الإنجازات، ويطور قدراته، ويرسخ أقدامه، يخوض حربا تلو حرب، صحيح أنه يخسر ويتأذى في بعضها، إلا أنه في المجمل منتصر.. في المقابل الوضع الفلسطيني والعربي والإسلامي والعالم الثالث عموما في أسوأ حالاته، في تراجع مستمر، ويتلقى الضربات والصفعات، ويهبط من قاع إلى قاع..

ليس فيما تقدم ذكره أي دعوة لليأس والإحباط أو جلد الذات، أو الدعوة للاستكانة والاستستلام، بل هو مجرد تشخيص لواقع يراه الجميع، ودعوة للتفكير في أسبابه وحيثياته، لعلنا نجد طريقا للخلاص، ونضع أقدامنا على بداية سكة الانطلاق نحو أفق جديد..

من وجهة نظري المتواضعة أن أحد أهم أسباب انتصارات المشروع الإمبريالي الصهيوني هو اعتماده على التخطيط الإستراتيجي، بما يشمل تقدير الموقف، وقراءة الواقع بدقة، وجمع البيانات، وتحليل المعلومات، وإعداد الخطط والبدائل والسيناريوهات المحتملة، والاستعداد المادي (تكنولوجيا وصناعيا واقتصاديا وعسكريا وتقنيا.. إلخ)، ولكن، جميع ما سبق يمثل 50% من توفير عوامل النجاح، أما ال50% الباقية فتعتمد على غباء الخصم.. نعم غباء الخصم..

لو قمنا بدراسة تحليل عوامل نجاح جميع المخططات والمؤامرات والحروب والاغتيالات والعمليات العسكرية واحتلال دول ومناطق وإسقاط أنظمة وتغيير حكومات وأعمال التدمير وافتعال حروب أهلية وإدارة الصراعات المحلية والإقليمية وكل ما يخطر ببالك، وما حدث خلال المائة سنة الأخيرة ضد الأمة العربية والإسلامية ستتأكد أن العدو اعتمد بشكل كبير على غباء الخصوم.

الخصوم هم نحن: قيادات وزعامات ومؤسسات وميليشيات ومحللين وجماهير..

أما الغباء؛ فيشمل: العناد والعنجهية والتهور والاستهتار، الفساد بأنواعه، الاستبداد والتفرد بالحكم، التخبط والارتجال وانعدام التخطيط، الرهانات الخاطئة والحسابات المتسرعة، ضيق الأفق، التفكير بالتمني والعواطف، العقلية الطائفية والماضوية، التعصب والانغلاق، قمع الأصوات المعارضة، وتغييب الكفاءات المتخصصة، ضعف التفكير العلمي والمنهجي والعمل المؤسساتي..

سأذكر مثالين فقط لتوضيح الفكرة؛ العراق وإيران.

وحتى لا نعود إلى الماضي البعيد، لنبدأ من 2/ آب 1990، عندما احتل العراق جارته الكويت، ونشبت أزمة وحرب الخليج الأولى، التي مثلت نقطة الانعطاف الكبرى والأهم خلال الأربعة عقود الماضية، والتي من بعدها فرطت المسبحة، وكل ما حدث لاحقا تأسس على تلك اللحظة التاريخية، أو بعبارة أُخرى على تلك الخطوة الغبية التي افتتحت عصرا جديدا.

وبعيدا عن التحليل السياسي سأورد مقتطفا من مذكرات حسن عبد الرحمن (سفيرنا في واشنطن): "رتبنا لقاء غير رسمي لياسر عرفات مع الرئيس السابق جورج بوش الأب في بيته في هيوستن سيحضره فقط جيمس بيكر. استقبلنا الرئيس استقبالًا مُهذبًا برفقة زوجته التي جاءت وسلّمت علينا وقالت: "أعددت كعكًا من صنع يدي، وسأُقدمه لكم مع الشاي". شكرها ياسر عرفات، ثم بادر إلى تقديم هدية لها عبارة عن جاكيت مطرز تطريزًا فلسطينيًا، ثم جلسنا في صالون دائري. أحسست للحظة بأن الجو ينقصه الدفء، وخاصة أن ذلك كان أول لقاء بين عرفات وبوش، بعد أن كانا خصمين خلال حرب العراق والكويت.

تحدث بيكر عن لقائه مع وزير الخارجية العراقي طارق عزيز في 12 كانون الثاني 1991، في الاجتماع التاريخي الذي حظي باهتمام العالم كله، وقد تقدم بيكر بورقة مختصرها أنه إذا انسحب العراق من الكويت تنتهي الأزمة، لكن طارق عزيز رفض استلام الرسالة، وتركها على الطاولة في الفندق، يقول بيكر: "بصراحة، أنا كنت سعيدًا بذلك، لأننا كنا قد التزمنا للدول العربية والعالم كله أنه إذا انسحب صدام حسين، لن نمسّ قواته، ولكن إذا لم ينسحب سندمرها، وكنا نخشى أن يقبل صدام بالانسحاب، ويحتفظ بقواته كاملة كما دخلت الكويت، وبالتالي سيظلّ يهدّد سلام المنطقة وأمنها، لذلك، فإن كل ما كنا نتمناه قد حصل؛ لأن الكابوس بالنسبة إلينا كان أن يقبل صدام بالانسحاب".

إيران كررت أخطاء العراق حرفيا، ولا أقصد فقط ما يتعلق بالمفاوضات وتصلب موقفها.. الأخطاء بدأت قبل ذلك بكثير.. بدأت بمسار التركيز على بناء قوة عسكرية ضخمة، وتسخير كل مقدرات الدولة للجيش والحرس الثوري وفيلق القدس، والمشروع النووي، والتصنيع العسكري وخوض الحروب، وبناء وتمويل ودعم ميليشيات موالية لها، والإنفاق عليها، وتغذية الصراعات والتورط بها.. هذا المسار كلف إيران ترليونات الدولارات، وأزهق ملايين الأرواح، واستنزف قدرات الدولة والمجتمع، وكان على حساب مسارات التطور والتنمية الأخرى.. وبعد عقود وسنوات وجهود جبارة انهار كل شيء خلال أسابيع.

تحدثت سابقا عن إشكالية الإنفاق غير العقلاني على التسليح وصفقات الأسلحة والتصنيع العسكري.. والخطأ القاتل في فهم مصطلح "القوة"، بحصرها فقط في القوة العسكرية، ومواجهة العدو في مجال وحيد ومركزي، هو الحروب والسلاح، وهو المجال الذي تتفوق فيه إسرائيل بشكل خارق، والمجال المفضل لها، الذي تبرع فيه، والذي من أجله زُرعت في المنطقة.

لو أسقطنا هذين المثالين على تجربتي حزب الله وحماس، وعلى كل تجاربنا الكفاحية الوطنية والقومية سندرك أحد أهم أسباب هزائمنا وفشلنا المزمن.. وربما نعرف كيف تمكنت إسرائيل من اختراق كل منظومة "محور المقاومة" لدرجة مثيرة للشفقة.. والاختراق ليس فقط بتجنيد الجواسيس.. هناك اختراقات أخطر وأهم بكثير..

سأنهي بمثال آخر: منذ أن تسللت العصابات الصهيونية إلى بلادنا وحتى قيام الكيان، كانت تعمل بتوصية مفادها: "لا تمسوا شيئين: عرض النساء وكل ما يتعلق بالدين ورموزه، لأنهما كافيان لإيقاظ الشعب ودفعه لمواجهتنا وإفشال مخططاتنا..".

ما فعله الغرب الاستعماري الإمبريالي الصهيوني أنه بنى مخططاته وخططه بناء على فهمه لعقلية الرجل الشرقي، وأولويات المجتمع.. وهذا ما يتوجب علينا فهمه وإدراكه والاشتغال عليه بشجاعة ووعي قبل أن نفكر بمواجهة عدونا عسكريا وبصواريخ تتعدد أسماءها ومدياتها ولا تمنحنا سوى فرحة مؤقتة وقصيرة ثم نبكي بعدها طويلا.. وسلامة فهمكم.

يونيو 13، 2025

ما هذا الصوت الغامض؟!


من هذا الذي يوقظك في الصباح الباكر؛ إصحَ، تأخرت؟ تأخرت على ماذا؟ حتى أيام العطل والجمعة يوقظك من عز نومتك، بينما هو نفسه يأتيك آخر الليل، وأنت مهدود حيلك، ونفسك تنام بسرعة، يأتي ويطيّر النوم من عينيك؟

من الواضح أني لا أتحدث عن المنبّه في الصباح، ولا أقصد الهموم والأفكار التي تبقيك يقظا طوال الليل.. أسأل عن ماهيّة ذلك الصوت الغامض الذي يهمس في أذنيك، ويتحدث معك طوال الوقت.. حتى حين تنام، وتظن أنه نام معك أيضا، يقتحم أحلامك ويحيلها إلى كوابيس تشبه فيلم رعب رديء الإخراج منخفض الميزانية، وفجأة يستيقظ ويوقظك معه ويذكّرك بشخص مات أو انقطعت أخباره قبل عشر سنوات.. أو يذكّرك بموقف محرج تمكنتَ من نسيانه بشق الأنفس.. أحيانا يستعرض قائمة ديونك ومواعيد كمبيالاتك ويتفقد حاجاتك، ويذكرك بكل ما ينقصك، بإلحاج شديد وإزعاج لا يتوقف مع تذكير شامت بأنك لا تملك شيئا، وأن مواردك نفدت.. وأحيانا يفعل العكس، يلهيك بأحلام اليقظة، ويسافر بك إلى جزر المالديف، وينسيك كل همومك..

 أثناء التفكير (وهذا لا يحدث مع الجميع) يطرح عليك الأسئلة الصعبة، وبمجرد أن تعيد النظر في المسلّمات وتبدأ في التوصل إلى استنتاجات خطيرة يختفي ذلك المحاور لتبقى غارقا في واحتك المريحة متعايشا بسلام مع أفكارك القديمة.. هو أكثر من يحذرك من مغادرة أرضك الصلبة ويخيفك من مغامرة مغادرتها.. ولكنه أحيانا (لدى البعض القليل) يبقيك قلقا ومتوترا ودائم التساؤل والبحث، ولن يسكت حتى تطأ قدميك أرضا جديدة، بأفكار وتصورات مختلفة كليا.. وقد يعاود إزعاجك من جديد، فتلك طبيعته القلقة.  

 وإذا كنت تراجع نفسك وتقيّم أعمالك وأقوالك، وبحاجة إلى نصيحة صادقة لا تجامِل يهرب ذلك الصوت سريعا ويتركك في أوهامك.. أو بالعكس يبدأ بتقريعك وبهدلتك ولومك حتى تكره نفسك..  

هل ذلك الصوت الغامض هو أنا شخصياً؟ أم النصف الثاني من شخصيتي؟ أم هو شخص آخر؟ هل هو شيطان، أم ملاك؟ لو كان شيطانا لأمرني بالشر دوماً، ولكنه أحيانا يأمرني بما هو خير ومفيد.. ولو كان ملاكي الحارس فلماذا يبرر لي سوءة أعمالي، ويجمّل لي أخطائي، ويخفف من وطأة أعمالي الشريرة؟ إذاً هما صوتان يتناوبان ويتصارعان في داخلي، أحدهما صديق طيب، يريد لي المنفعة، والثاني شرير يحثني على المشاكل وارتكاب الأخطاء، ويدعوني للتهور.. ولكن من أين أتيا؟ ولماذا يحتلان دماغي؟ وهل بوسعي طردهما معاً، وإسكاتهما نهائيا؟ وإذا نجحت فعلا في التخلص منهما، فهل سأعاني من الوحدة والسأم؟ وربما استدعيهما للإقامة في دماغي من جديد!

ذلك الصوت الخفي هو الضمير.. إجابة سهلة ومتوقعة.. ولكن ما هو الضمير؟ كيف يمكن رصده؟ وفي أي مختبر يمكن تحليله؟ وبأي وحدة قياس نحسب مقداره وكميته ودرجته ونسبته؟؟ وهل هذا الضمير نشأ معي، ونما وتطور وتغيرت شخصياته كما حدث معي بيولوجيا ونفسيا وإدراكا؟ بمعنى إذا كنتُ غبيا فهل هو غبي مثلي؟ وإذا اشتغلت على نفسي بالقراءة والتأمل والتعلم.. فهل يفعل مثلي؟ ما فائدته إذاً؟   

لماذا يغيب الضمير في الأوقات الحرجة؟ ولماذا يكون جيدا مرة، وسيئا مرات؟ وهل يختلف من شخص لآخر، تبعا لتربيته وثقافته وخلقه.. وبالتالي فإن الضمير كلمة مبهمة ومطاطية، أو حتى لا معنى لها..

إذا استبعدنا مصطلح "الضمير"، فهل ذلك الصوت هل هو عقلك الواعي؟ أم عقلك الباطن؟ أم روحك؟ أم شخصيتك الأصلية التي تشكلت في الطفولة المبكرة؟ هل هي الروح، أو النفس، أو الوعي، أو الإدراك، أو الأخلاق... وتلك جميعها مكونات غير مادية، وغير مرئية، وغير محسوسة، ويصعب على العلم قياسها، وإثبات وجودها.. لكنها حتما موجودة.. أو أنَّ الإنسان اختلقها لغرض في نفسه!

إذا وقفتَ أمام المرآة، أو التقطت لنفسك صورة "سيلفي"، سترى الكائن الوحيد لذي تملكه ملكية خالصة، والذي سيعيش معك إلى الأبد.. ذلك الكائن، هو أنت.. ربما تسأل نفسك: من أنا؟ حينها سيخرج ذلك الصوت وربما يلفت انتباهك إلى تجاعيد جديدة شقت أخاديدها على خديك، أو يشير إلى سواد تحت جفنيك، أو يقول لك ألوان ملابسك غير متناسقة، وربما العكس يبدأ بمديح طلتك البهية، ويجعلك تصدق أنك أذكى شخص على الكوكب.. فتنفرج أساريرك..

أحيانا تقول لنفسك: أشعر بالخجل من نفسي، أو "زهقان حالي"، أو أكره حياتي.. والسؤال هنا: من الذي خجل من الآخر؟ من الذي ملَّ، وكره، وأحبّ؟؟ هل انفصلت عن ذاتك، وانشققت إلى نصفين، وصار كل نصف يكلم الآخر، ويبوح له بمشاعره؟؟

ما هو ذلك الصوت؟ لا تتعجل في الإجابة، لأنه ببساطة هو أنت في المحصلة؛ هويتك، وشخصيتك، وأسلوب تفكيرك، وأولوياتك.. لا شك أن للإنسان شخصيات متعددة، ومركبة، ومتعايشة معاً في آن واحد.. فتطغى إحداها على الأخرى في لحظة ما، ثم تختفي في لحظة أخرى، وهكذا.. وعيك لذاتك يتغير مع السنين والتجارب، وهذا وضع طبيعي.. وربما تعاني من انفصام في الشخصية، أو تعيش بشخصية مزدوجة، أو بشخصيات متعددة، أو يسكنك نظيرك الفضائي.. وهذه حالات مرضية غالبا.. إذا استثنينا الإجابات الجاهزة لا أحد يعرف يقينا..

مثل تلك الأسئلة تغيب عن بالنا معظم الوقت، أو نتجاهلها، مع أنها أسئلة مبسطة وربما ساذجة، وأقرب للهذيان، لكنها أسئلة مهمة، فنحن نحتاج أن نعي حقيقة وجودنا، ونتعرف على دواخلنا بشكل حقيقي.. وهذه مسألة صعبة، وتحتاج شجاعة..


يونيو 04، 2025

متاهة المفاوضات

 

تستخدم إسرائيل المفاوضات لكسب الوقت، وللتغطية على أهداف أبعد بكثير من موضوع التفاوض، وهي بارعة في هذا التخصص، فعلت ذلك في مفاوضاتها مع منظمة التحرير، واستغلت المفاوضات كغطاء لتمرير مخططاتها الاستيطانية والتوسعية وفرض الحقائق على الأرض في الضفة الغربية، وها هي تعيد اللعبة ذاتها في مفاوضاتها غير المباشرة مع حماس، تستغلها لإطالة أمد الحرب، وتحقيق المزيد من المنجزات، وتغيير خرائط المنطقة، بل إنها جعلت منها أداة من أدوات الحرب والقتل والتشريد.. وجعلت جميع الأطراف الأخرى (حماس، الشعب الفلسطيني، الأمة العربية، دول العالم..) جميعهم يقفون في وضعية المتفرج وفي انتظار نتائج جولات المفاوضات، لا يفعلون شيئا سوى الترقب والرجاء أن تنتهي المفاوضات بهدنة وإعلان وقف إطلاق النار.. بينما الاحتلال يواصل القتل والتدمير.

مشكلة حماس أنها تعتقد أن الرهائن الإسرائيليين هم ورقة ضغط قوية ومؤثرة في مجرى التفاوض.. وهذا نابع من اعتقادها أن إسرائيل في عدوانها تستهدف القضاء على حماس.. وأن الستين ألف قتيل فلسطيني هم مجرد أضرار جانبية..

في الحقيقة أن إسرائيل لم تشن الحرب بهدف القضاء على حماس (قبل الحرب وعلى مدى سنوات كانت تسمح بتمرير الأموال القطرية لدعم حماس)، ولم تشنها بهدف استرداد الأسرى.. هذا ما يقوله إعلامها الرسمي وما تسوقه الجزيرة، وهو مجرد تضليل ودعاية انطلت على الكثيرين، لقد بات واضحا ما هي أهداف إسرائيل الحقيقية من العدوان: التخلص من عبء السكان في القطاع، لتغيير الميزان الديموغرافي، من خلال قتل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، وتهجير من تبقى منهم (إما قسريا أو قسريا ولكن تحت مسمى الهجرة الطوعية)، والإسراع في مخططها الاستيطاني التوسعي التهويدي في الضفة الغربية (تحت غطاء الحرب، وضجيجها الإعلامي، وبحجة 7 أكتوبر)، وتغيير خارطة الشرق الأوسط الجيوسياسية، والتخلص من كل المخاطر الأمنية المحتملة (حزب الله مثلا) لتضع نفسها في المكانة الجديدة ضمن الخارطة الأوسع، وفي سياق ترتيبات نظام دولي وإقليمي جديدين، بحيث تتربع على قمته، وتكون لها اليد الطولى، والكلمة النهائية..

وقد خسرت في سبيل تحقيق هذه الأهداف ما يربو على ال400 قتيل (منذ 8 أكتوبر)، ومليارات الدولارات، وضحت بسمعتها في العالم، وخسرت صورتها التي طالما سعت لتكريسها كضحية، وممثلة ليهود العالم، وجزء من الحضارة الغربية.. لم تقدم تلك الخسائر من أجل عشرات الرهائن، وهي غير مستعدة لخسارة أثمن فرصة تاريخية تحصل عليها طوال تاريخها، وهي فرصة تهجير الفلسطينيين، والقضاء على حلم الدولة الفلسطينية، بل وعلى الكيانية الفلسطينية والهوية السياسية التي تجسدها منظمة التحرير، باختصار فرصتها الذهبية لتصفية القضية الفلسطينية، وتحويلها إلى مجرد عبء إنساني على العالم، ومشاريع إعمار للدول المانحة والشركات العابرة للقارات..

لذلك، حتى لو أسفرت المفاوضات عن هدنة، فإنها لن توقف الحرب (ستكون بصور وأشكال أخرى)، ولن تتوقف عن المضي في تحقيق أهدافها الإستراتيجية، ونحن كفلسطينيين سننشغل كثيرا في تداعيات الحرب، سنحتاج سنوات طويلة وثقيلة للتعافي من آثارها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية.. قد ننجر إلى حرب أهلية، أو إلى فوضى أمنية، ونرتد إلى زمن العشائر والميليشيات المسلحة (وإسرائيل تخطط لذلك، وتسعى إليه).

لو كانت حماس تقاتل فعليا، بمعنى أنها تمتلك أدوات حقيقية للردع، أو للدفاع عن النفس، أو لإجبار العدو على مسار معين، أو لدفعه للتراجع، أو إبطاء تقدمه، أو إحباط مساعيه لقلنا لها وبكل قوة واصلي الحرب.. وكل الشعب معك.. لكنها حقيقة لا تمتلك شيئا من هذا كله.. بل إن وجودها بحد ذاته (ووجود الرهائن) هو الذريعة الأساسية لإطالة أمد الحرب، ودون أن تدفع إسرائيل أي ثمن سياسي، فهي في الإعلام الغربي تقاتل "منظمة إرهابية".

بالعودة إلى موضوع المفاوضات، في هذه الحرب، والأربعة حروب السابقة لم تخض حماس أية مفاوضات سياسية، كانت بعد كل حرب تفاوض على قضايا مطلبية وآنية (مطار، ميناء، مساحة الصيد البحري، عدد الشاحنات، ودخول مساعدات، فك الحصار، المعابر..)، وفي هذه الحرب العدوانية تفاوض فقط على إنهائها، وبالشكل الذي يضمن بقاءها (كحركة)، ويسمح لها بالعودة إلى الحكم بطرق خلفية بعد ذلك.. وطالما أن إنهاء الحرب لمصلحة الشعب الفلسطيني (وهو بالتأكيد لمصلحته) فلماذا خاضت حماس الحرب من الأساس؟ ولماذا خاضتها بصفتها جيش، وعلى شكل حرب، مع دعاية إعلامية تصورها كقوة عملاقة وجبارة لديها كتائب مسلحة، وألوية، وصواريخ، وأنفاق!!

في الواقع لم تخض حماس مفاوضات سياسية، ولا يمكنها ذلك، لأن الطرف الآخر (الإسرائيلي والأميركي) لا يراها جهة سياسية، بقدر ما يراها في أحسن الأحوال تهديد أمني.. ولأن دول العالم وهيئاته ومنظماته الرسمية لا تعترف بحماس كجهة سياسية، تمثل الفلسطينيين، وبالتالي سقف المفاوضات محدود، ولهذا بذلت حماس كل جهدها للدخول مع أميركا كطرف، على أمل أن تعترف بها، وأن تسمح لها ضمن صفقة غير معلنة بالعودة إلى حكم غزة، مدركة مصلحة إسرائيل وأميركا من وراء ذلك، أي بتثبيت الانقسام وتكريسه للأبد، لأن الانقسام أضمن طريقة لوأد حلم الدولة الفلسطينية. وبذلك تكون إسرائيل قد حولت "التهديد الأمني"، إلى فرصة وأداة لتحقيق أهدافها بعيدة الأمد.

لكن نتنياهو لن يستطيع فعل ذلك، ببساطة، لأن اتهامات خصومه السياسيين ستطيح به وتنهي مستقبله، اتهامه بدعم حماس (قبل الحرب)، والسماح بتمويلها، والتغاضي عن أنشطتها، وعن تنامي قوتها.. وبالتالي هو معني الآن (ومن خلال الحرب) لإظهار أقصى مدى ممكن من البطش والقسوة والإجرام لتبرئة نفسه من تلك التهم، ولإثبات أنه هو من حارب حماس، وهو من قضى عليها.

إذا تعاملنا بشجاعة وصدق ووعي وطني مع معطيات الحرب ونتائجها الكارثية، بمعنى أن يتحمل كل طرف مسؤولياته بعيدا عن الخطابات الشعبوية والشعارات والغيبيات، وأدركنا أن انسحاب حماس من المشهد لا يعني أبدا نهاية المقاومة، ولا يعني تصفية القضية، ولا يعني "صبرا وشاتيلا" جديدة، فالمذابح تحصل يوميا منذ 18 شهر (بوجود حماس وأسلحتها)، يمكن حينها أن نجترح حلا سياسيا للخروج من هذا المأزق بأقل قدر ممكن من الخسائر، أي بما يضمن بقاء الشعب فوق أرضه وإحباط مخطط التهجير.. عدا ذلك، سندفع ثمنا غاليا، وحينها سنفقد كل الخيارات.

مايو 31، 2025

حديث ذو شجن


في يوم خريفي من العام 1986، كنت أجلس بجوار أبو هادي، وهو سائق باص على خط أبو غريب – العلاوي في بغداد، وقد نشأت بيننا شبه صداقة كافية لتبادل بعض الأحاديث الجانبية، كان ينتظر امتلاء الباص بالركاب، وأنا مندمج مع صوت فريد الأطرش في أغنية "أضنيتني بالهجر"، فقال لي بصوت تملؤه الحسرة: "عندي حوالي ميت كاسيت لفريد وعبد الوهاب وناظم الغزالي.. بس حرامات، ماكو واهس أسمع شي".. قالها بنبرة حزينة، فأردتُ مواساته فقلت: ليش عمي أبو هادي؟ والله الدنيا بخير، والأغاني حلوة.. فقال: يا خير يا بطيخ! إنت ما شفت الخير أيام ما كنا خوش أوادم..

كانت الحرب مع إيران في ذروتها آنذاك، تلك الحرب التي حصدت أرواح 1.5 مليون إنسان، ثلثهم من شباب العراق.. لم أعرف هل كان أبو هادي يشكو تداعيات الحرب الحزينة؟ أم بطش النظام؟ فقد بدأ الباص يمتلئ بالركاب، وصار أكثر حذرا في كلامه، حتى انتهى بقوله: خليني ساكت أحسن..

ما زلت أتواصل مع أصدقائي العراقيين، يقولون إنهم يحنون لتلك الأيام بحلوها ومرها ورغم قسوتها.. يقولون إنهم كانوا عايشين، بفرح ورضا نسبي.. كان الأمن مستببا، والطائفية محشورة في قمقمها، والفساد مدان محارَب.. مرت على العراق عشرية سوداء تبدل فيها كل شيء، وللأسوأ، من لم يسحقه الفقر، طحنه الفساد، أو قتلته ثارات الحقد الطائفية.. وما زال العراقيون يكافحون لبناء وطن جديد.

قبل عدة سنوات، كنت مع زوجتي خلود في رحلة إلى مصر، صعدنا برج القاهرة الشهير، وجلسنا في المقهى نطل على النيل والبيوت ومصر القديمة والحديثة، كنا مأخوذين بسحر المشهد.. فأتى النادل يسألنا عن طلبنا، فقلت له واحد قهوة وواحد كباتشينو.. فنظر نحونا باستغراب واستنكار، وقال: كابتشينو إيه يا بيه؟ حضرتك جاي برج القاهرة، عشان تشرب كبتشينو مكنت تشربها في بيتكم! فقلت له طيب عاوزنا نشرب إيه؟ فقال مبتسما انتو لازم تنبسطو وتكيفو.. وعلى حساب المحل، هجيبلك قنينة منكر وحتة حشيش وشغلّك أم كلثوم.. فتبادلنا الضحكات، واعتذرت له عن المنكر والحشيش وأثنيتُ على مقترح أم كلثوم، وبالفعل بدأت الست تصدح بألف ليلة وليلة.. ولما رأى "انبساطنا" تقرب منا وأخذ راحته بالكلام: يا سلام على زمن الست.. أم كلثوم هي اللي خلتنا نوقف على رجلينا بعد النكسة، لما كنا نمشي في الشارع مصدومين والواحد بكلم نفسه وشاعر بالضياع والخوف.. كنا مش عارفين نعمل إيه.. وبعدها عملنا حرب الاستنزاف، وعبرنا القنال يوم ستة أكتوبر (مش سبعة)..

في لبنان كانت الحرب الأهلية في أوجها، الكتائب والانعزاليون بدعم من نظام الأسد، في مواجهة القوى الوطنية اللبنانية ومعها فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، وكانت إسرائيل تقصف بيروت، وتغتال القيادات، وتجتاح الجنوب، حتى وصلت ذروة اعتداءاتها في اجتياح 1982.. طوال تلك السنوات الثقيلة والأليمة والمفجعة (على جميع الأطراف) لم تتوقف الحياة في بيروت، بكل ما أمكن من بهرجتها وفرحها وموسيقاها وحفلاتها.. كان الجميع يحاولون اقتناص ساعة فرح من وسط الأحزان، وكلٌ على طريقته.. من وسط مأساتنا خرجت فرقة العاشقين، وأحمد دحبور، وسميح شقير، ومارسيل خليفة، وأغاني العاصفة، ومديح الظل العالي لمحمود درويش، وقصائد عز الدين المناصرة، وعلي فودة..

منذ نحو سنتين يتعرض أهلنا في قطاع غزة لحرب إبادة وتهجير.. وبعيدا عن دعايات الجزيرة ومحللوها الأشاوس، فإن ما يحدث حقيقة على الأرض قصف وتقتيل وحرق وتدمير وتجويع ونزوح قسري وخيام مهترئة، وطوابير، وحرمان وخوف وسرقة مساعدات وغلاء فاحش وفقر وهوان وانهيارات مجتمعية رهيبة..

وتلك نتيجة متوقعة لمسار متراكم من الأخطاء الكارثية، حتى وصلنا حدود الانكسار؛ فالأرواح المتعبة والجائعة والخائفة واليائسة لا تقوى على حمل المثل العليا، وليس بوسعها فرض شروط المنتصر.. سيصبح كل همهم تأمين رغيف الخبز، ولا أحد يلومهم على ذلك، فتلك حاجات الإنسان الطبيعية والأساسية.. "ومش ناقصين مزايدات".

في الأمثلة التي ذكرتها أعلاه، وفي كل الحقب السابقة، رغم التضحيات والعذابات والخسائر.. فإن السمة التي تجمعها هي "الأمل".. الأمل بغدٍ أفضل، الأمل بتغيير الأوضاع.. ذلك الأمل قهر كل تلك الأحزان وذللها، فقد اقترن بالإيمان الحاسم بإمكانية إحراز النصر، أو إنجاز الأهداف الوطنية العليا.. ولو إُنجزت بحدها الأدنى.. سيكون أمل آخر بإمكانية المراكمة عليها وتحقيق ما هو أكثر وأفضل..

كيف وصلنا إلى هذه المرحلة؟ وكيف تبخر الأمل؟ وصار مجرد حلم طوباوي؟ كيف صارت أقصى أمانينا ومنتهى غاياتنا أن تتوقف الحرب.. تتوقف حتى يتمكن الناس من دفن موتاهم، ومن ترميم خيمهم، ومن التقاط أنفاسهم، ومن تأمين وجبة حقيقية خالية من المعلبات، وجبة لا تحتاج الوقوف ساعات في طوابير أمام التكية، أو الهجوم على شاحنات المساعدات، وجبة غير مغمسة بالدم..

كل ما نحتاجه الآن هو عودة الأمل..

هذا الأمل لن يأتِ من تلقاء نفسه.. سيأتي حين نعترف بأخطائنا، ونقيّم تجربتنا، ونجري نقدا جريئا أمينا لكل مراحلنا السابقة، وحين يتحمل كل طرف مسؤولية أفعاله واجتهاداته ومواقفه.. ونبدأ بالتغيير الحقيقي..

لقد جربنا كل الطرق: الكفاح المسلح، والعمليات الفدائية، والانتفاضات الشعبية، والمفاوضات، والسياسة، والدبلوماسية، والمحاكم الدولية.. كما جربنا العمليات الانتحارية، وحرب الصواريخ والأنفاق، والكتائب المسلحة.. فوصلنا إلى هذه الحالة المزرية.. لأننا خضنا تجاربنا متفرقين، أحزاب وفصائل، وكل طرف يعتقد يقينا أنه الأصح، ويحارب الآخرين ويخــوّنهم.. خضنا تجاربنا بدون رؤية إستراتيجية موحدة، ومتفق عليها، وملزمة للجميع.. إستراتيجية وطنية لا تتبع أجندات خارجية وتنظيمات وجماعات دولية ومحاور إقليمية.. إستراتيجية فلسطينية مشتركة يكون همها الأوحد فلسطين، وشعبها وقضيتها.


مايو 28، 2025

لماذا تتعثر مفاوضات الهدنة؟

 عشرات الجولات التفاوضية بين حماس وإسرائيل انتهت بالفشل، وفي كل مرة توافق حماس على الشروط التي يضعها المفاوض الإسرائيلي فيأتي الرفض من قِبل نتنياهو، ثم تأتي جولة جديدة وتنازلات جديدة وأيضا دون طائل.. الشرط الأهم لحماس والذي يرفضه نتنياهو هو الإعلان عن وقف الحرب.. أما شروط نتنياهو فهي كما يظهر في الإعلام: سحب السلاح، وخروج القيادات، وتسليم كافة الرهائن..

إذن، الفجوة بين الطرفين كبيرة، إسرائيل في وضع المتفوق، وأميركا منحازة بالكامل لصالح إسرائيل، والوسطاء يضغطون على الطرف الأضعف (حماس)، وهذا أحد أسباب تعثر المفاوضات.

في تقارير صحافية عديدة ظهر أن قطر تعيق التوصل لاتفاق، وأنها تعمدت إفشال المبادرة المصرية، وضغطت على حماس لتجاوز مقررات القمة العربية ومبادرتها، من خلال فتح قناة اتصال بين حماس وممثلين عن الإدارة الأميركية.. ودوافع قطر أنها تريد الاستئثار بالدور الإقليمي، وإحباط أي مسعى مصري أو سعودي أو إماراتي في سياق التنافس على الرضا الأميركي، أو لأغراض أخرى ستكشفها الأيام في وقت ما.

الغريب أن وقف الحرب تحول من هدف إلى شرط تفاوضي.. والفرق بين الطرحين كبير جدا؛ فعندما يضع المفاوض شرط وقف الحرب، فهذا يعني أن له أهداف أخرى ولكن تحقيقها يشترط وقف الحرب ثم البحث عن تلك الأهداف.. والأغرب أن تتمسك حماس بشرط توفر تعهد إسرائيلي وضمانات أميركية لوقف الحرب.. وحماس نفسها تدرك تماماً أن إسرائيل لا تلتزم بأي تعهد، وأميركا لا تضمن شيء.. ولدينا عشرات الأمثلة والبراهين. فحتى لو تعهدت إسرائيل وضمنت أميركا من الذي سيمنع إسرائيل من اسئتناف العدوان، واختراع مبررات جديدة والعودة للحرب؟ فلماذا التمسك بهذا الشرط الوهمي؟ هل السبب قلة خبرة سياسية؟ أم هنالك أسبابا أخرى ستتكشف لاحقا؟

ثمة إجماع بين المحللين أن نتنياهو لا يريد وقف الحرب؛ لأن ذلك سيجره إلى المحكمة بتهم الفساد، وسيفتح ملف الإخفاق في السابع من أكتوبر، ومحاكمة نتنياهو على سلوكه السياسي في تسيير وصول الأموال القطرية لحماس على مدى سنوات طويلة.. وهذا يعني نهايته السياسية ودخوله السجن تحت وطأة الاتهامات التي يحاول التملص منها متحصنا بمكانته الوزارية.

من وجهة نظري هذا الطرح صحيح نسبيا، ولكنه فخ إعلامي وقع فيه الكثيرون، وجرى تضليل الرأي العام به، لدرجة أن العالم بات يعتقد أن مشكلة التطرف والجنون والإجرام ليست في إسرائيل (بوصفها مشروع استعماري توسعي عنصري)، بل المشكلة في شخص نتنياهو، الذي إذا تخلصنا منه سنحصل على حمائم سلام.. حتى نتنياهو نفسه استخدم هذا التضليل من خلال إدعائه أنه تحت التهديد المستمر من قبل بن غفير وسموترتتش، ما يعني أنه رجل سلام، لكن بعض وزرائه متطرفون!

الحقيقة أن طبيعة المشروع الصهيوني هي المعضلة الكبرى بغض النظر عن اسم رئيس حكومتها، والمعضلة الثانية أن حكومة نتنياهو الحالية هي خلاصة توجه يميني قومي ديني متطرف بدأ يتغلغل في بنية الدولة ومؤسساتها وجيشها منذ سبعينيات القرن الماضي، وقد وصل هذا اليمين إلى ذروته الإجرامية بهذه الحكومة.. وهذه الحرب العدوانية هي أثمن فرصة يحصل عليها اليمين الإسرائيلي، الذي سيستغلها أبشع استغلال، وسيتسنفدها بالكامل، ولن يتوقف حتى يبلغ غايته..

وإذا ما مورست ضغوطات دولية أو أميركية على إسرائيل، أو طرأ تغير في المشهد الإقليمي، أو انتزعت منها كل مبررات الحرب، ومسوغات استمرارها وأُجبرت على إيقافها فهذا سيعني نهاية مشروع اليمين الإسرائيلي، وليس مجرد نهاية مستقبل نتنياهو.. فانتهاء الحرب سينجم عنه تغيرات جذرية في داخل الكيان، وستجري انتخابات، ومن شبه المؤكد أن تؤدي إلى تشكل نخبة سياسية جديدة في إسرائيل، وقد تتأزم التصدعات الداخلية في المجتمع الإسرائيلي (كما كانت تسير بتسارع رهيب في السنة التي سبقت الحرب).

لنأتي إلى الجهة المقابلة. فكما أن نتنياهو وحكومته تتشبث بكل قوتها بالسلطة والحكم، فإن حماس في شرطها وقف الحرب، ورفضها تقديم تنازل لصالح السلطة الوطنية أو منظمة التحرير، أو تسليم الملف لجامعة الدول العربية، فهي مصرة على بقائها في الحكم، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ولن توافق على أية شروط قد تؤدي إلى انتهاء حكمها، أو الإقرار بفشل مشروعها.

وكما كتب الدكتور تيسر عبد الله: "حماس لا تمثل دولة مؤسسات منتخبة تقوم على تداول السلطة، إن سقطت يقوم بدورها غيرها؛ فالانتخابات معطلة منذ 18 سنة. ولا هي حركة لها قاعدة شعبية عريضة تستمد بقاءها من دعم شعبي عريض وواسع؛ ولكنها حزب سياسي مغلق له أهدافه وارتباطاته الإقليمية. وأكثر قوتها تستمدها من الخارج وليس من الداخل: فهي مرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين الدولية التي توفر لها الفتاوى والدعم المعنوي والمالي. ومرتبطة بقوى إقليمية مثل قطر التي تمنحها جميع منصاتها الإعلامية والدعائية. ومرتبطة بإيران التي تعتبرها أحد أهم أذرعها.. وقبول حماس لأي صفقة لا تضمن بقاءها في الحكم هي نهاية مادية حقيقية لها ضمن التوازنات الفلسطينية الداخلية. وهزيمة لمشروع الإخوان المسلمين في غزة، آخر قلاعهم في المنطقة بعد انتهائهم في مصر والأردن وسائر الدول المجاورة. وهي نهاية المشروع الإيراني في المنطقة بعد تفكك حزب الله، وتبدل النظام في سوريا. وهو فشل للمنظومة السياسية والإعلامية القطرية التي دعمت الحركة بكل الوسائل منذ أكثر من عقد ونصف من الزمان. ولذلك من غير المسموح لحماس أن تخرج من الحرب صفر اليدين".

جميعنا يعرف أن إسرائيل دولة مارقة ومجرمة، ولا تتورع عن ارتكاب أبشع المجازر بحق المدنيين.. أما حماس فعلى لسان قادتها قالت: "إن الضحايا المدنيين مجرد خسائر تكتيكية"، "التضحية الحقيقية هي في صفوف القيادة، وليست في الشعب"، "أهلنا في غزة ورقة ضغط، ولا بأس أن يستشهد مائة ألف منهم"، "سنقاتل بدماء أطفالنا"، "جاهزون لأن نُقتل عن بكرة أبينا، حتى آخر طفل فينا، وأن نُحرق نساء وأطفالا كما حُرق أصحاب الأخدود"، "إن دماء الأطفال والنساء والشيوخ لا أقول تستصرخكم؛ بل إننا نحتاجها لتوقظ فينا روح الثورة والعناد"، "الشهيد يُعاد إنتاجه".. مع أمثلة فيتنام والجزائر وقصة المليون شهيد.. في المحصلة الشعب، المدنيين هو وحدهم من يدفع الثمن غالياً..

في هذه المفاوضات لا قيمة للوقت، ولا قيمة للدماء والأرواح التي تزهق كل ثانية. وكل طرف يريد أن يخرج منتصرا ولكن بعد مسح قطاع غزة عن وجه الأرض.