من الظواهر
اللافتة للنظر تماهي أحزاب يسارية ونخب مثقفة علمانية تقدمية وليبرالية وكوادر
متقدمة في فتح مع ثقافة الإسلام السياسي بشقيه (السُـنّي والشيعي) تحت شعار دعم وتبني
"المقاومة". لم يكن هذا التماهي واضحاً قبل سنوات، وربما كان مختبئا ومواربا،
لكنه بعد هجمات 7 أكتوبر بات واضحا ومثيرا للتعجب، حيث ينبري قادة يساريون وأساتذة
جامعات وكتّاب وصحافيون وحتى نخب رأسمالية ليبرالية للدفاع عن أطروحات حركات الإسلام
السياسي (المتناقضة مع قيم التقدمية واليسار والعدالة الاجتماعية والحريات والحقوق
الفردية وقضايا المرأة والمجتمع والمواطنة..)، والدفاع عن سياساتها وقراراتها المغامرة
(التي تتجاهل المعادلات السياسية القائمة، وموازين القوى، ولا تقيم وزنا للخسائر
البشرية وتضحيات الشعب وحجم الدمار).
لندع الشق الأول
جانباً المتعلق بالأطروحات الفكرية والاجتماعية، فهذا ليس أوانه ولا مكانه،
ولنناقش الأطروحات السياسية، وتأييد قرار حماس بخوض الحرب، بحجة أنَّ إسرائيل لا
تحتاج الى ذرائع، وأنها كانت ستدمر غزة حتى بدون هجمات 7 أكتوبر، ويسندون تلك
المقولة بأن إسرائيل تهاجم الضفة وتدمر مخيماتها التي لا توجد فيها حماس، ولم تنفذ
هجمات 7 أكتوبر! فهل حقاً تحتاج إسرائيل إلى ذريعة؟
الإجابة نعم،
وتاريخيا كل الجرائم والممارسات والسياسات التي اتخذتها إسرائيل كانت بناء على
ذريعة، أحيانا تكون الذريعة واهية فتقوم بتضخيمها إعلاميا، وأحيانا تقوم هي
باختلاق الذريعة من خلال افتعال حدث معين، وعندما تختلق الذريعة فهذا يعني أنها
تحتاج إليها..
على مدى تاريخها الحافل
بالجرائم كانت ردات فعل إسرائيل أكبر من الحدث نفسه، لكنها كانت تحرص على أن تبدو
متناسبة مع الذريعة (أي توظيف الحدث وتضخيمه إعلاميا)، وحاولت أن تظل آلة بطشها منضبطة وفقا
لسياسة الحكومة، وإلى حد ما حاولت مراعاة القانون، والأخذ بالحسبان وجود صحافة
ورقابة ورأي عام محلي وعالمي، مع إعطاء "الأمن" الأولوية على حساب كل
شيء..
ولم تصل
في بطشها وتوحشها ولا مرة كما هو الحال الآن في عدوانها على غزة، رغم توفر ذرائع
معينة، كما حصل في النكسة مثلا، حيث كانت الجيوش العربية شبه مفككة والأنظمة
مهزومة، وكانت فرصتها لممارسة التهجير، وارتكاب مذابح.. وفي الانتفاضة الثانية مع
سلسلة العمليات التفجيرية داخل الخط الأخضر وسقوط اعداد كبيرة من الإسرائيليين
(ومنهم مدنيين).. ولاحظ الفرق في تعاملها مع الانتفاضة الأولى.. وفي حروبها
الأربعة السابقة على غزة التي خاضتها بحجة الصواريخ لكن مستوى إجرامها ظل محدودا
مقارنة بما تفعله اليوم.. وفي جميع محطات النضال الفلسطيني ظلت ردات فعل جيش
الاحتلال في حدود المتوقع، وضمن القدرة على التحمل (وهذا لا يقلل من خطورتها، ولا
يعني أنها ليست جرائم حرب).
اليوم،
كل شيء تغير، ولم تعد هناك أية محددات ولا محاذير ولا ضوابط على سلوك الجيش، وقد
أُطلقت يديه بالكامل لفعل كل شيء، مهما بلغ مستوى إجرامه وتوحشه.. خاصة بعد أن قام
إعلام الاحتلال بضح دعاية مضخمة عن هجمات السابع من أكتوبر، وعن قوة حماس
وصواريخها وجيشها وأنفاقها... إلخ.
وحتى نفهم
لماذا تحتاج إسرائيل للذريعة دائماً، علينا أن نفهم طبيعتها وتركيبتها والعقلية
التي تفكر بها، وكيفية اتخاذها القرار، والمحددات العام لسياساتها سواء الخارجية،
أو في تعاملها مع الفلسطينيين وقضايا الصراع..
على المستوى
الداخلي تحتاج إسرائيل إلى ذريعة لضرورة الحصول على موافقة وتأييد كافة مراكز صنع
القرار في الدولة، أي أعضاء الحكومة، وقادة الجيش والأجهزة الأمنية، فهم ليسوا
دائما على قلب رجل واحد، ويحملون الفكرة نفسها، ولديهم وجهات نظر متعددة وأحيانا
متناقضة، وكلما كانت الذريعة أقوى تحصل على الإجماع، كما تحتاج الحكومة موافقة الأغلبية
في الكنيست.. كما أن الذريعة مهمة لإقناع الجمهور، ومهمة لصورة إسرائيل أمام نفسها
حاضرا ومستقبلا، فالذريعة حتى لو كانت مزيفة ومختلقة تظل مهمة لإراحة ضمير الجنود
وأهاليهم ولتبرير ممارساتهم الإجرامية، واستمرار التوهم بتفوق إسرائيل أخلاقيا
وقيميا.
على المستوى
الخارجي تحتاج إسرائيل للذريعة لإقناع حليفتها الأهم (الولايات المتحدة) بدءا من
البيت الأبيض، مرورا بالكونغروس وانتهاءا بكافة مراكز صنع القرار (الخارجية،
البنتاغون، المخابرات، النخب الاقتصادية، الإعلام..)، وتحتاج أيضا إقناع اللوبي
اليهودي وتزويده بمبررات.. كما تحتاج الذريعة لإقناع حلفائها الدوليين وقادة الدول
المؤيدة لإسرائيل الذين بدورهم يحتاجون الذريعة لإقناع شعوبهم وأحزابهم ووسائل إعلامهم..
وعلى المستوى الإستراتيجي تحتاج إسرائيل للذريعة للحفاظ على صورتها التي تقدمها
للعالم، ولكسب الرأي العام العالمي.
وقد وفرت هجمات السابع
من أكتوبر الفرصة لإسرائيل لتقديم نفسها أمام العالم بصورة الضحية المغدورة التي تتعرض لخطر وجودي، وتتعرض
لهجوم "إرهابي" منظم فظيع وخطير، يستهدف سكانها المدنيين.. ومن أجل هذا
ولتضخيم الحدث إعلاميا أعدت فيلما تسجيليا تضمن مشاهد وصفتها بالمروعة، وقد عرضته بشكل
شخصي على الرؤساء والزعماء وأعضاء الكونغروس وممثلي الدول في مجلس الأمن والعديد
من السفراء والمؤثرين العالميين..
وبعد سنة ونصف على بدء العدوان تبين جليّا أن ردة فعل إسرائيل
أكبر وأعنف بكثير من ذريعة 7 أكتوبر، وأنها كانت تنتظر الفرصة لتنفيذ مخططات قديمة
وجاهزة (الهندسة الديمغرافية، والقتل والإبادة، وتهيئة الظروف للتهجير القسري
والطوعي، وغلق كل أفق سياسي قد يؤدي إلى دولة فلسطينية، وصولا إلى تصفية القضية
الفلسطينية وإنهاء الصراع)..
ولم تكن إسرائيل بقادرة على تنفيذ كل ذلك لولا الفرصة
الثمينة التي وفرتها هجمات 7 أكتوبر؛ فهجوم بهذا الحجم، وبتلك النتائج، مع حكومة إسرائيلية
هي الأكثر تطرفا ويمينية، ومع تسخير ماكينة إعلامية لتبرير ما ستفعله، ولضمان
تأييد أميركا المطلق، وموافقة بقية الأطراف الدولية المؤثرة، عملت إسرائيل على
استغلال هذه الفرصة لأقصى مدى ممكن، ولم تكتف بتدمير قطاع غزة وقتل وجرح نحو مائتي
ألف إنسان، وتحويله إلى مكان غير صالح للحياة، مما سيجبر نسبة عاليه من سكانه على الرحيل.
وبعد أن فتحت أبواب الجحيم، وقامت الحرب، وازداد القتل
والتدمير، واعتاد العالم على المشهد، وصارت أخبار المذابح مألوفة، انتقلت بحربها إلى
الضفة الغربية، وصار بوسعها تنفيذ ما كانت عاجزة عنه سابقا، بهدوء ودون ضجيج، فقد أخذت
موافقة ضمنية من العالم على فعل كل ما تريد..
ثمة فرق كبير
بين أن تشن إسرائيل اعتداءاتها بدون ذريعة، وأن تشنها ومعها ذريعة وحجة، وقد
حولتها إلى شرعية سياسية وقانونية، وحظيت بتأييد المجتمع الدولي..