أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أبريل 02، 2025

هل تحتاج إسرائيل إلى ذريعة؟

 

من الظواهر اللافتة للنظر تماهي أحزاب يسارية ونخب مثقفة علمانية تقدمية وليبرالية وكوادر متقدمة في فتح مع ثقافة الإسلام السياسي بشقيه (السُـنّي والشيعي) تحت شعار دعم وتبني "المقاومة". لم يكن هذا التماهي واضحاً قبل سنوات، وربما كان مختبئا ومواربا، لكنه بعد هجمات 7 أكتوبر بات واضحا ومثيرا للتعجب، حيث ينبري قادة يساريون وأساتذة جامعات وكتّاب وصحافيون وحتى نخب رأسمالية ليبرالية للدفاع عن أطروحات حركات الإسلام السياسي (المتناقضة مع قيم التقدمية واليسار والعدالة الاجتماعية والحريات والحقوق الفردية وقضايا المرأة والمجتمع والمواطنة..)، والدفاع عن سياساتها وقراراتها المغامرة (التي تتجاهل المعادلات السياسية القائمة، وموازين القوى، ولا تقيم وزنا للخسائر البشرية وتضحيات الشعب وحجم الدمار).

لندع الشق الأول جانباً المتعلق بالأطروحات الفكرية والاجتماعية، فهذا ليس أوانه ولا مكانه، ولنناقش الأطروحات السياسية، وتأييد قرار حماس بخوض الحرب، بحجة أنَّ إسرائيل لا تحتاج الى ذرائع، وأنها كانت ستدمر غزة حتى بدون هجمات 7 أكتوبر، ويسندون تلك المقولة بأن إسرائيل تهاجم الضفة وتدمر مخيماتها التي لا توجد فيها حماس، ولم تنفذ هجمات 7 أكتوبر! فهل حقاً تحتاج إسرائيل إلى ذريعة؟

الإجابة نعم، وتاريخيا كل الجرائم والممارسات والسياسات التي اتخذتها إسرائيل كانت بناء على ذريعة، أحيانا تكون الذريعة واهية فتقوم بتضخيمها إعلاميا، وأحيانا تقوم هي باختلاق الذريعة من خلال افتعال حدث معين، وعندما تختلق الذريعة فهذا يعني أنها تحتاج إليها..

على مدى تاريخها الحافل بالجرائم كانت ردات فعل إسرائيل أكبر من الحدث نفسه، لكنها كانت تحرص على أن تبدو متناسبة مع الذريعة (أي توظيف الحدث وتضخيمه إعلاميا)، وحاولت أن تظل آلة بطشها منضبطة وفقا لسياسة الحكومة، وإلى حد ما حاولت مراعاة القانون، والأخذ بالحسبان وجود صحافة ورقابة ورأي عام محلي وعالمي، مع إعطاء "الأمن" الأولوية على حساب كل شيء..

ولم تصل في بطشها وتوحشها ولا مرة كما هو الحال الآن في عدوانها على غزة، رغم توفر ذرائع معينة، كما حصل في النكسة مثلا، حيث كانت الجيوش العربية شبه مفككة والأنظمة مهزومة، وكانت فرصتها لممارسة التهجير، وارتكاب مذابح.. وفي الانتفاضة الثانية مع سلسلة العمليات التفجيرية داخل الخط الأخضر وسقوط اعداد كبيرة من الإسرائيليين (ومنهم مدنيين).. ولاحظ الفرق في تعاملها مع الانتفاضة الأولى.. وفي حروبها الأربعة السابقة على غزة التي خاضتها بحجة الصواريخ لكن مستوى إجرامها ظل محدودا مقارنة بما تفعله اليوم.. وفي جميع محطات النضال الفلسطيني ظلت ردات فعل جيش الاحتلال في حدود المتوقع، وضمن القدرة على التحمل (وهذا لا يقلل من خطورتها، ولا يعني أنها ليست جرائم حرب).

اليوم، كل شيء تغير، ولم تعد هناك أية محددات ولا محاذير ولا ضوابط على سلوك الجيش، وقد أُطلقت يديه بالكامل لفعل كل شيء، مهما بلغ مستوى إجرامه وتوحشه.. خاصة بعد أن قام إعلام الاحتلال بضح دعاية مضخمة عن هجمات السابع من أكتوبر، وعن قوة حماس وصواريخها وجيشها وأنفاقها... إلخ.

وحتى نفهم لماذا تحتاج إسرائيل للذريعة دائماً، علينا أن نفهم طبيعتها وتركيبتها والعقلية التي تفكر بها، وكيفية اتخاذها القرار، والمحددات العام لسياساتها سواء الخارجية، أو في تعاملها مع الفلسطينيين وقضايا الصراع..

على المستوى الداخلي تحتاج إسرائيل إلى ذريعة لضرورة الحصول على موافقة وتأييد كافة مراكز صنع القرار في الدولة، أي أعضاء الحكومة، وقادة الجيش والأجهزة الأمنية، فهم ليسوا دائما على قلب رجل واحد، ويحملون الفكرة نفسها، ولديهم وجهات نظر متعددة وأحيانا متناقضة، وكلما كانت الذريعة أقوى تحصل على الإجماع، كما تحتاج الحكومة موافقة الأغلبية في الكنيست.. كما أن الذريعة مهمة لإقناع الجمهور، ومهمة لصورة إسرائيل أمام نفسها حاضرا ومستقبلا، فالذريعة حتى لو كانت مزيفة ومختلقة تظل مهمة لإراحة ضمير الجنود وأهاليهم ولتبرير ممارساتهم الإجرامية، واستمرار التوهم بتفوق إسرائيل أخلاقيا وقيميا.

على المستوى الخارجي تحتاج إسرائيل للذريعة لإقناع حليفتها الأهم (الولايات المتحدة) بدءا من البيت الأبيض، مرورا بالكونغروس وانتهاءا بكافة مراكز صنع القرار (الخارجية، البنتاغون، المخابرات، النخب الاقتصادية، الإعلام..)، وتحتاج أيضا إقناع اللوبي اليهودي وتزويده بمبررات.. كما تحتاج الذريعة لإقناع حلفائها الدوليين وقادة الدول المؤيدة لإسرائيل الذين بدورهم يحتاجون الذريعة لإقناع شعوبهم وأحزابهم ووسائل إعلامهم.. وعلى المستوى الإستراتيجي تحتاج إسرائيل للذريعة للحفاظ على صورتها التي تقدمها للعالم، ولكسب الرأي العام العالمي.

وقد وفرت هجمات السابع من أكتوبر الفرصة لإسرائيل لتقديم نفسها أمام العالم  بصورة الضحية المغدورة التي تتعرض لخطر وجودي، وتتعرض لهجوم "إرهابي" منظم فظيع وخطير، يستهدف سكانها المدنيين.. ومن أجل هذا ولتضخيم الحدث إعلاميا أعدت فيلما تسجيليا تضمن مشاهد وصفتها بالمروعة، وقد عرضته بشكل شخصي على الرؤساء والزعماء وأعضاء الكونغروس وممثلي الدول في مجلس الأمن والعديد من السفراء والمؤثرين العالميين..

وبعد سنة ونصف على بدء العدوان تبين جليّا أن ردة فعل إسرائيل أكبر وأعنف بكثير من ذريعة 7 أكتوبر، وأنها كانت تنتظر الفرصة لتنفيذ مخططات قديمة وجاهزة (الهندسة الديمغرافية، والقتل والإبادة، وتهيئة الظروف للتهجير القسري والطوعي، وغلق كل أفق سياسي قد يؤدي إلى دولة فلسطينية، وصولا إلى تصفية القضية الفلسطينية وإنهاء الصراع)..

ولم تكن إسرائيل بقادرة على تنفيذ كل ذلك لولا الفرصة الثمينة التي وفرتها هجمات 7 أكتوبر؛ فهجوم بهذا الحجم، وبتلك النتائج، مع حكومة إسرائيلية هي الأكثر تطرفا ويمينية، ومع تسخير ماكينة إعلامية لتبرير ما ستفعله، ولضمان تأييد أميركا المطلق، وموافقة بقية الأطراف الدولية المؤثرة، عملت إسرائيل على استغلال هذه الفرصة لأقصى مدى ممكن، ولم تكتف بتدمير قطاع غزة وقتل وجرح نحو مائتي ألف إنسان، وتحويله إلى مكان غير صالح للحياة، مما سيجبر نسبة عاليه من سكانه على الرحيل.

وبعد أن فتحت أبواب الجحيم، وقامت الحرب، وازداد القتل والتدمير، واعتاد العالم على المشهد، وصارت أخبار المذابح مألوفة، انتقلت بحربها إلى الضفة الغربية، وصار بوسعها تنفيذ ما كانت عاجزة عنه سابقا، بهدوء ودون ضجيج، فقد أخذت موافقة ضمنية من العالم على فعل كل ما تريد..

ثمة فرق كبير بين أن تشن إسرائيل اعتداءاتها بدون ذريعة، وأن تشنها ومعها ذريعة وحجة، وقد حولتها إلى شرعية سياسية وقانونية، وحظيت بتأييد المجتمع الدولي..

أبريل 01، 2025

الدور المزدوج للأشجار

 

عند خط الإستواء، لا وجود للفصول الأربعة، ثمة فصل واحد على مدار العام، وهناك الكائنات الحية المهيمنة على سائر المخلوقات هي الأشجار، أشجار شاهقة الارتفاع، متشابكة معاً لدرجة أن الضوء بالكاد يصل إلى قاع الأرض.. وبسبب شدة الرطوبة ظل ذلك الحزام الذي يلف الأرض منطقة لا تصلح للسكن، ليس للإنسان وحسب، بل ولسائر الثديات، فلا تجد هناك سوى الأشجار وسكانها من بعض القردة والطيور الملونة، أما على القاع فلا تعيش سوى الزواحف والحشرات وما لا حصر له من أنواع العناكب والديدان والطفيليات..

وإذا اتجهنا شمالا حتى مدار السرطان، أو جنوبا حتى مدار الجدي ستبدأ الأشجار بالاختفاء تدريجيا، إلى أن ندخل في الصحراء.. تلك البقعة تسمى إقليم السافانا، حيث تنمو الحشائش وتعيش أغلب المملكة الحيوانية.. ولقربها من خط الإستواء كانت آخر بقعة على الأرض تطالها عصور الجليد المتتالية في الأزمنة السحيقة، فظلت ملجأ الكائنات الحية وملاذها المفضل، بسبب دفئها أولا، ولأنها وفيرة بالحشائش والخيرات ثانيا..

ومع أنها بيئة مناسبة لنمو الأشجار إلا أن الأشجار ظلت متناثرة هنا وهناك، بما يوفر مساحات شاسعة مفتوحة تماما على الشمس والريح، وصار بوسع الثديات أن تتحرك فيها بسهولة، وتنطلق في هجراتها السنوية أو لمطاردة بعضها بعضاً..

ومنذ وقت مبكر ظهر هناك مخلوق ضخم، كان دوره حاسما في حراسة السافانا ومنع تمدد الأدغال وانتقال الغابة إليها، إنه الفيل، فما أن تنمو أي شجرة حتى يأتي فيقتلعها من جذورها ليلتهم أغصانها..

إذاً، غياب الأشجار لم يخلق الفرصة لظهور الحشائش وحسب، بل كان شرطا لظهور وتكاثر عموم الثديات، ومن ضمنها آخر مخلوق على سلم تطور الرئيسيات العليا، الإنسان، الهومو سابينس، الذي ظهر على مسرح الدنيا قبل مائتي ألف سنة تقريبا.

وقبل الإنسان بنحو سبعة ملايين سنة طرأ حادث جيولوجي هام على القارة الإفريقية، أدى إلى انخساف وادي "ريفت"، وصعود بعض أطرافه شيئا فشيئا لتشكل جدار كبيرا، كان هذا الانهدام الهائل قد شق إفريقيا كلها، وعلى إثر ذلك انقلب المناخ، فاستمرت الأمطار تهطل في غرب الشق، وراحت تتناقص في الشرق، والذين ظلوا غرب الشق تابعوا حياتهم الشجرية، أما الذين وجدوا أنفسهم معزولين في الشرق فواجهوا السافانا والسهول، وقد أمكن لهذا التقسيم البيئي أن يحرض نوعين مختلفين من التطور، فأجيال الغرب من الرئيسيات العليا انتهت بالقردة والغوريلا الحاليين، أما أجيال الشرق فانتهت بالإنسان، أي أن المسألة برمتها عبارة عن تاريخ التباعد.

فعندما بدأت الأشجار تختفي اضطر ساكنوها من أسلاف البشر للهبوط عنها، والتعامل مع الأرض بكل ما تطلبه ذلك من تغير عاداتهم الغذائية وأنماط معيشتهم، لتبدأ ظهورهم المنحنية بالاستقامة شيئا فشيئا..

وبالانتقال سريعا إلى آخر عصر جليدي قبل 12 ألف سنة، سنجد أن كل التجمعات البشرية التي صارت فيما بعد قرى ومدن وممالك بدأت على ضفاف الأنهار، وبعيدا عن الغابة.. فالطبيعة تنمّي أشجارا من كل نوع، بحسب البيئة، وأكثرها غير مثمرة، وعندما أطلق الإنسان ثورته الزراعية استبعد الأشجار وأبقى على أنواع معينة منها. فأينما تكون الغابات والأشجار كثيفة وعشوائية لا تصلح هناك زراعة..

ولكن، ورغم ذلك التاريخ الطويل الذي ظهرت فيه الأشجار بدور الشرير، كانت هي أساس الحياة، وشرطها، ومنبعها.. بدءا من إطلاقها الأوكسجين بكميات وفيرة غيرت من مناح الأرض ووفرت ظروف تهيؤ الحياة، وحتى وقتنا الراهن، ظلت الشجرة كائنا في منتهى الكرم والسخاء..

تستضيف الشجرة الواحدة ما لا حصر له ولا عد من كائنات حية، تتطفل عليها دون أن تئن، أو تشكو.. مع أنها وفرت لنفسها آليات دفاع كثيرة ضد الحشرات والآفات، إلا أنها ظلت بيتا آمنا لملايين المخلوقات، بدءا من الكائنات الدقيقة والفطريات التي تعيش في جذورها، مرورا بالحشرات وحتى الزرافات التي تتغذى على أوراقها، والزواحف والأفاعي والسناجب والقردة التي تبيت عليها، يُضاف إليهم قبائل بشرية ما زالت تسكن أعالي الأشجار، حتى أن الفهود تخزن صيدها على أغصانها، وليس انتهاء بالعصافير والطيور التي تضع أعشاشها عليها باطمئنان، أو تحفرها في جذوعها..

ولا يتوقف عطاء الشجرة حتى بعد موتها، فتصير أغصانها خشبا للحطابين، ووقودا للمدافئ، وأسرّة ومقاعد وأواني وهياكل للبيوت.. وحتى توابيت للموتى.. وإذا تآكلت ذابت في حضن الأرض، وصارت سمادا لأشجار جديدة، ستعطينا الهواء النقي والروائح الزكية، وأطيب الثمار..

الشجرة مخلوق نبيل، لا تفترس، ولا تؤذي، ولا تعتدي على أحد.. تضحي بنفسها، فتصبح يداً للفأس الذي سيقطعها، وظلا لمن سيحطبها.. وعندما تحترق الغابات تحفز الأجران والبذور المخبأة لتنمو من جديد..

الأشجار هي رئة الكوكب، وبدونها سنختنق.. هي زينة المدن، بدونها تصبح غابات إسمنت قبيحة.. ولكن الإنسان لم يوقف اعتداءاته على الأشجار..

قبل عصر الزراعة وظهور الحضارة البشرية، كان عدد الأشجار على كوكب الأرض يقدر بنحو 6 تريليونات شجرة.. ومنذ ذلك الحين يشهد العالم انخفاضًا كبيرًا في أعدادها، بسبب التوسع العمراني والأنماط الزراعية، وما تزال الأشجار تُقتلع من الأرض بوتيرة متسارعة حتى انخفض ذلك العدد إلى النصف. وبحسب دراسة نشرتها مجلة "Nature" يقتلع البشر نحو 15 مليار شجرة سنويًا، وكثير منها لا يُعاد زراعته. وبهذا المعدل، لن يتبقى على الأرض سوى 2.5 تريليون شجرة بحلول عام 2050.

مارس 27، 2025

تظاهرات غزة الاحتجاجية ضد حكم حماس

 

أن تزعم إسرائيل أنها تحارب حماس بلا هوادة، وأنها ستقضي عليها.. فلأنها عدو.. وأن تدعمها الإدارة الأميركية فلأنها صنيعتها وحليفتها.. وأن تنحاز إليها دول الغرب فلأنهم جميعاً يشكلون نظاما دوليا غاشما وظالما.. وأن تتواطأ معها الدول العربية وما يسمى بالوسطاء فلأنهم أضعف من مواجهة إسرائيل وأميركا، أو لأنههم لا يريدون ذلك لأسبابهم الخاصة.. هذا كله متوقع ومعروف، ومعرفته لا تشكل أي إضافة، والإقرار به لا يغير من الواقع شيئاً..   

أما أن يخرج فلسطينيون ومن داخل غزة للمطالبة برحيل حكم حماس، فهذا شيء جديد ومختلف في السياق التاريخي وفي المعاني السياسية والوطنية، ويتوجب علينا فهم أوجه الاختلافات ودلالاتها، وعلى قيادة حماس أن تتنبه لما يحدث وأن تقرأ المشهد بعناية، وتفهمه جيداً، وقبل فوات الأوان..

هذه ليست أول مرة تخرج فيها احتجاجات شعبية ضد حكم حماس في غزة، فقد ظهرت قبل الحرب بسنوات حراكات شبابية عديدة، مثل "بدنا نعيش"، و"تمرد على الظلم".. وكانت مطالبها اجتماعية، وقد جوبهت حينها بالقمع والتنكيل، ولم تتحول إلى ظاهرة شعبية رغم عدالة مطالبها، وتضامن الجماهير (الخفي والخجول) معها.. فقد تعايش أهالي غزة مع حكم حماس (رغم كل دعوات إنهاء الانقسام) نتيجة شعور عام بالخشية من عودة الاقتتال الداخلي، إضافة إلى أن الأوضاع المعيشية كانت آنذاك معقولة، وضمن القدرة على التحمل.

في الأشهر الأولى من العدوان لم يكن أحد ليجرؤ على الاحتجاج على حكم حماس، أو حتى انتقادها، ربما خوفاً من مسلحيها عند البعض، أو رهانا عليها من قبل آخرين، أو بسبب التأثر العاطفي بالخطاب الشعبوي السائد والشعارات المطروحة.. ومع استمرار الحرب ووقوع المزيد من الخسائر وسقوط الرهانات واحدا تلو الآخر بدأت أصوات عديدة هنا وهناك تنتقد حماس، وحين تجاوز عدد الشهداء الخمسين ألف، ودون أي بارقة أمل لا بحسم عسكري، ولا بوقف الحرب، ولا بتحقيق أي منجز سياسي يوازي التضحيات الغالية بدأت أصوات المعارضة ترتفع، وتتجاوز حدود غزة، ولم يعد بالإمكان التغاضي عن صوت الناس الحقيقي، الذي حجبته "الجزيرة" وغيرها طوال فترة العدوان بتهويمات دوغمائية مضللة..

بعد استئناف العدوان الإسرائيلي بهذا القدر من التوحش، وخيبة الأمل الكبيرة من كل العناصر التي تم الرهان عليها، وبدء تنفيذ مخطط التهجير أو وصوله إلى مراحل خطيرة وجدية، وانغلاق الأفق السياسي تماما، شعر أهل غزة بأن الموقف لم يعد يحتمل مراهنات، ولا مغامرات، ومستقبل غزة وفلسطين وقضيتها بات على المحك..

في أثناء العدوان تزايدت قناعات الناس بأن حماس لا تعبأ بمعاناتهم، ولا تقيم وزنا لحياتهم، ولم تبذل جهدا للتخفيف من آلامهم، بل تركتهم لمصيرهم، وبدلا من معاقبة كبار التجار ولصوص المساعدات.. لجأت لعنف مفرط لمعاقبة من اتهمتهم بالسرقات والتعديات (وهم الفقراء والأطفال).

تيار جماهيري عريض وصل إلى قناعة أن كل ما تفعله حماس (الآن بالذات) عبارة عن مقاومة انتحارية، هدفها الحفاظ على سلطة حماس واستعادة حكمها للقطاع، وبالتالي هذا ليس مشروع الشعب الفلسطيني، وليست حربه..

مع كل تلك التراكمات، صارت كل عناصر التفجير متحققة، فجاءت تصريحات بعض قادة حماس بمثابة الشرارة التي ستشعل الحريق.. وآخرها تصريح سعيد زياد الذي طالب أهل غزة بالصمود والمقاومة بالأظافر وبلحم أطفالهم..

لهذا تمثَّل أول رد فعل شعبي بتظاهرة رفعت شعارات: "من حق الأطفال أن يعيشوا بسلام"، "لحم أطفالنا ليس سلاحاً للقتال في حروبكم"، "دماؤنا ليست رخيصة".. كما كانت ردا على تصريحات سابقة لقادة حماس، اعتبرت تضحيات الشعب الباهظة وأرواح عشرات الآلاف مجرد خسائر تكتيكية، أو أوراق ضغط، وغيرها من التصريحات التي تدل على استخفافهم بالدم الفلسطيني، واسترخاصهم له، واستعدادهم للتضحية بكل الشعب (حتى آخر طفل) مقابل شعارات أيديولوجية وحزبية.. فرفعت التظاهرات شعار "نرفض نحن نموت"..

وبعيدا عن التوظيف السياسي للاحتجاجات، دعونا نضعها في السياق الطبيعي، على أنها مطالب شعبية لإيقاف الحرب، وإزاحة حكم حماس (باعتبارها الآن مبرر إسرائيل الأهم لإطالة أمد الحرب)، واعتبار الاحتجاجات خروج الناس للتعبير عن رفضهم لفكرة الموت المجاني، ودون تحقيق أي منجز وطني، وبالتالي هي مطالبة في الحياة فقط.. فهل المطالبة بالحياة انقلابا على المقاومة؟ وتساوقا مع العدو؟

التظاهرات عفوية، ولم تتلق تعليمات من أحد، وأعداد المتظاهرين ليست قليلة، وهي في تزايد مستمر، وهؤلاء يمثلون صوت المواطنين الحقيقي، فهم الذين فقدوا أولادهم وأحباءهم، وخسروا حاضرهم ومصادر رزقهم ومستقبلهم، هم أنفسهم الذين جاعوا وأكلوا علف البهائم، هم الذين احترقت خيامهم، وناموا في العراء، وتجمدت أطرافهم من البرد وتحت المطر، ومن نهشت الكلاب جثث موتاهم، ومن بحثوا عن أحبتهم تحت الردم وبين الأنقاض، هم الذين داستهم الدبابات، وقتلهم رصاص القناصة في رحلة بحثهم عن كيس طحين، ومن خرج أولادهم لجلب غالون ماء ولم يعودوا، الذين عانوا جشع التجار والسماسرة، ومن لصوص البيوت المتروكة، وتجار الكوبونات، ومن جحيم الفلتان الأمني، الذين رغم القصف ظلوا في خيامهم وبيوتهم الآيلة للسقوط وصمدوا وأفشلوا مخططات التهجير..

باختصار، هم من عاشوا ويلات حرب الإباده عاماً ونصف، كل واحد فيهم مجروح ومكلوم، ولا يحق لأحد المزاودة عليهم، أو اتهامهم بغدر المقاومة، لأنهم هم الممثل الحقيقي للمقاومة، ومن مارسها فعلياً.. وكل من هم خارج غزة لم يقدموا لهم شيئا سوى الخذلان والمتاجرة بدمهم.

في الأحوال الطبيعية يختار الشعب من يحكمه من خلال الانتخابات، أما حين يتعرض لخطر وجودي وتتهدد مصالحه فيحتج ويطالب بإزاحة من لا يريده أن يحكمه، وهذا طبيعي ومشروع.. من تفاجأ بتظاهرات غزة هم الذين غسلت الجزيرة أدمغتهم بأخبار وتحليلات منفصلة عن الواقع.. ومن غضب منها أولئك الذي استراحوا طويلا في جنة أوهامهم، فجاءت الاحتجاجات لتصدمهم بالحقيقة المرة.. أما بيان "إيدي كوهين" فهو لعبة استخباراتية خبيثة وطعنة في ظهور المحتجين، لأن اسرائيل معنية بالحفاظ على الصورة التي رسمتها للعالم أن كل أهالي غزة مؤيدون لحماس، ويدعمون "الإرهاب"، ويستحقون الموت. وهذه التظاهرات تكشف زيف الدعاية الإسرائيلية، وتسقطها..

مارس 13، 2025

نبش في التاريخ، مذبحة الخليل

 

احتل نابليون مصر ثلاث سنوات (1798~1801)، وحاول احتلال فلسطين لكن عكا أفشلت مسعاه، كان الفرنسيون يهدفون إلى قطع طريق بريطانيا إلى الهند ومستعمراتها الشرقية، فتعاونت بريطانيا مع الدولة العثمانية لاستعادة مصر، وتنصيب محمد علي باشا واليا عليها؛ الذي أدرك حينها مدى ضعف وهشاشة الدولة العثمانية، فطالب الباب العالي بأن يضم بلاد الشام إلى حكمه، ولكن السلطان العثماني كان مرتابا من طموحه وتطلعاته فتجاهل طلبه.

أدرك "محمد علي" أهمية الوحدة العضوية والتاريخية بين مصر وبلاد الشام، فجعل ابنه "إبراهيم باشا" يعد جيشاً كبيرا ويرسله إلى بلاد الشام، بما عُرف بِ"الحملة المصرية"، التي بدأت في عام 1831.

من جهته اعتبر السلطان العثماني محمود الثاني حملة إبراهيم باشا تمردا على الدولة العثمانية، وأمام عناد والي مصر أفتى السلطان العثماني بأن الأب وابنه قد خانا الدولة وخرجا عن دين الله. وأصدر فرمانا بعزل محمد علي؛ الذي واجه الفتوى والفرمان بالعنف والبطش الشديد، حتى أنه أعدم بعض مشايخ الأزهر.

بعد أن دعمت بريطانيا محمد علي بداية عادوت محاربته ومعاونة الدولة العثمانية عليه، خاصة بعد أن استقر له الحكم في مصر، وأنشأ جيشا وأسطولا قويين وبدأ يرسي دعائم دولة حديثة متطورة يمكن لها أن تستقل عن العثمانيين، وتكون البديل القوي عن "الرجل المريض".

بدات الحملة المصرية بفرض حصارها حول عكا، ومرة ثانية رفض "عبد الله باشا الجزار" الاستسلام للحملة. وبعد ستة أشهر على حصارها سقطت المدينة، فتوسعت الحملة على كامل بلاد الشام وشملت دمشق وحماة وحمص وحلب، وأطراف تركيا. ما دفع السلطان العثماني إلى طلب المساعدة من روسيا وبريطانيا وفرنسا، ليتفقوا جميعا على عقد صلح كوتاهية (أيار 1833)، وبموجبه صار محمد علي والياً على مصر والحجاز والسودان وبلاد الشام.

في البداية أعفى محمد علي وابنه إبراهيم أهالي فلسطين وبلاد الشام من بعض الضرائب، وخفف عنهم بعض الإجراءات التعسفية، مثل سوء المعاملة والابتزاز في التحصيل، ولكن هذه السياسة اللينة سرعان ما تغيرت. فأمر الباشا باحتكار تجارة العديد من البضائع، وفرض التجنيد الإجباري على السكان، ونزع منهم السلاح، وخلال تلك السنوات استغل إبراهيم باشا أهالي فلسطين في أعمال السخرة وبناء المقرات العسكرية، وما رافق ذلك من إهانة وإذلال، والأدهى من ذلك أمر بأخذ ضريبة "الفِردة" من جميع سكان الشام المسلمين، وهي تشبه الجزية المفروضة على أهل الكتاب.

ومع تفاقم الظلم والقهر اللذين تعرض لهما الفلسطينيون من جنود الباشا بدأت بوادر التمرد والثورة، وقد اتفقت العشائر على توحيد صفوفهم ورفض قرارات الوالي الجديد.

بدأت انتفاضة شعبية من جبل نابلس، تزعّمها الشيخ قاسم الأحمد، وانضم إليها آل عبد الهادي في جنين، وآل غوش في القدس ثم امتدت إلى يافا والخليل ورام الله وحتى الكرك شرقاً. حيث أعلن الجميع العصيان على إبراهيم باشا بما سمي حينها بثورة الفلاحين، التي واجهها الباشا بالقمع والتنكيل، لتندلع معارك دامية في سائر فلسطين كسب الثوار بعضها، فيما نجحت القوات المصرية في هزيمة أكثر المواقع.

حاول الباشا استمالة كبار شيوخ الثوار، ونجح مع بعضهم بالترغيب والترهيب، حتى أنه تراجع عن التجنيد الإجباري، لكن الأهالي لم يقتنعوا بهذه "التسهيلات"، وأعلنوا عن استمرار ثورتهم، وبعد وصول إمدادات إضافية من مصر تمكنت القوات العسكرية من إخضاع نابلس، وإحراق القرى التي كانت تأوي الثوار.. بيد أن الثورة اشتعلت من جديد في صفد، فتحالف الأمير بشير الشهابي (أحد أمراء جبل لبنان) مع إبراهيم باشا وتمكنوا من إخماد ثورة صفد والقضاء عليها.

وفي شهر آب 1834، شنت قوات الباشا هجومًا على الخليل لسحق آخر جيوب المقاومة، وجرت معارك عنيفة في الشوارع بين الطرفين، وانتهت بمذبحة مروعة قُتل فيها نحو 500 مدني وثائر، بينما قُتل من الجيش المصري 260 مجندًا.

 وبعد أن تمكن إبراهيم باشا أخيرا من قمع الثورة في أغلب مناطق الضفة الغربية وتخريب وتدمير ونهب القرى، اضطر الثوار إلى الفرار نحو السلط والكرك فتعقبهم وقتل العديد منهم.. وآنذاك انضمت غزة إلى الثورة فأمر إبراهيم باشا بتدمير بيوتها وقمع أهلها بوحشية.

ظل النضال قائما بين الثوار الفلسطينيين والجنود المصريين حتى تم للباشا ما أراد، فأعاد فرض التجنيد الإجباري ومصادرة الأسلحة من الأهالي، واعتقل عددا كبيرا منهم، وأعدم بعضهم ونفى آخرين، واستخدم أقسى العقوبات.

في عام 1841 عُقد مؤتمر لندن بمشاركة الدولة العثمانية وروسية وبروسيا وبريطانيا والنمسا، للحد من توسعات محمد علي، وتقليص صلاحياته، وهكذا بعد عشر سنوات قاسية ودامية انتهت الحملة المصرية وخرجت من فلسطين.

ويصف مصطفى مراد الدباغ في كتابه بلادنا فلسطين انسحاب القوات المصرية التي عادت منهكة ومهانة تعاني الجوع والعطش، وكانت غزة آخر مدينة تخليها القوات، فاستقبل الأهالي الجيش ببرود ودون أي تعاطف، وكان تعدادهم نحو 30 ألف جندي.

هذا فصل دامي من تاريخ فلسطين القريب.. في تلك الحقبة عانى السكان من قسوة وتسلط وتعسف القوات المصرية الغازية، وكانوا قبلها (وبعدها) يعانون من ظلم الحكم العثماني، ومن الضرائب، والتجنيد الإجباري، ومن سياسات الإفقار والتجهيل..

لو أن محمد علي استخدم اللين والحوار والترغيب ولم يلجأ للبطش والتنكيل والنهب، ربما تغير مصير فلسطين والمنطقة بأسرها.. لكن هذا دأب الطغاة، وذلك نهج الثوار، وتلك سُـنّة التاريخ..

في كل مرحلة كان شعب فلسطين يقاوم الظلم، ويثور على الظالم والمحتل، ويقدم تضحيات هائلة.. وكان ثقل الثورة وعنفوانها في كل مرة على كاهل الفلاحين.. ويُضاف إلى الظلم الذي وقع عليهم من ممارسات الحكام والإقطاعيين والغزاة، الظلم الذي لحق بهم من تزوير التاريخ، واقتطاع أجزاء منه، لصالح قراءات انتقائية.. فمثلا يُنسب الفضل في صمود عكا في وجه نابليون إلى أحمد باشا الجزار.. في حين أنه كان جزارا بحق أهل عكا. وهذا فصل آخر يتوجب نبشه إنصافا للحقيقة.

مارس 11، 2025

المليار الذهبي


طرح عالم رياضي أسمه "مالثوس" سنة 1830 نظرية مرعبة حول الانفجار السكاني، وخلاصتها أن عدد سكان العالم يتضاعف لوغاريتميا، بزيادة أسرع من وتيرة إمدادات الغذاء للسكان، وأنَّ العالم ما لم يبادر إلى التنبّه إلى هذه المسألة، ويلجأ إلى تنظيم النسل، فإن الحروب والكوارث والمجاعات ستكون الخيار الحتمي للبشرية.

وخلال ال 500 سنة الأخيرة تضاعف عدد سكان الأرض 14 مرة، لكن إنتاجهم الكلي تضاعف 240 مرة، وتضاعف استهلاكهم للطاقة 115 ضعف.. وما يزيد من خطورة الموقف أن الرأسمالية مورست وما زالت تُمارس بأبشع الأشكال، وقد أسست نظاما طبقيا ظالما، لدرجة باتت تهدد سكان العالم بأن يصلوا لمرحلة لا تعود فيها موارد الأرض كافية لتلبية احتياجاتهم "المتزايدة".. وعوضا عن التفكير بإيجاد حلول منهجية تضمن التوزيع العادل للموارد، وجد البعض الحل بإنقاص عدد سكان الكوكب حتى تظل الموارد كافية، الأمر الذي عُبّر عنه بنظرية المليار الذهبي.

وتزعم نظرية "المليار الذهبي"، بأن هناك قوى وأشخاص (طبعا من الطبقات فاحشة الثراء) يسعون بالفعل إلى إنقاص عدد سكان العالم بصورة كبيرة، حتى يتمتعون مع البقيّة الباقية برفاهية الحياة.. وتحدد النظرية التعداد الكلي للسكان المنوي الوصول إليه بمليار نسمة فقط.

وهي نظرية لا تختلف عن نظرية "الأرض المسطحة"، و"حراس القطب الجنوبي".. وغير ذلك من هراء نظريات المؤامرات.. ليس لأن القضاء على سبعة مليارات نسمة يحتاج حربا نووية، أو برامج تستغرق مئات السنين، وهو أمر متعذر ومستحيل، ولن يستفيد منه أحد من الجيل الحالي والقادم من أصحاب الثروات الطائلة.  

ومع ذلك، وبمعزل عن نظريات المؤامرة، بدأنا نشهد بالفعل عصر تناقص السكان، ربما للمرة الأولى منذ تفشّي مرض الطاعون في القرن الرابع عشر، والذي أدَّى إلى تناقص عدد سكان العالم بنحو الربع تقريبا. لكن الأسباب هذه المرة مختلفة؛ أبرزها الخيارات التي اتّخذها البشر، مثل تقليل عدد أفراد الأسرة، والامتناع عن الزواج، وبالتالي تراجع معدلات الخصوبة والإنجاب، ما يؤدي في نهاية المطاف إلى زيادة أعداد الوفيات على أعداد المواليد الجدد.

على كوكبنا ثمة مناطق ستتراجع فيها أعداد السكان بشكلٍ مخيف، في مقدّمتها القارة الأوروبية، وروسيا واليابان وكوريا، وكندا، حيث لم تفلح كافّة التسهيلات التي وفّرتْها تلك الدول لمواطنيها في الدفع نحو زيادة عدد سكانها.. وسينخفض تعداد السكان بدرجة أقل في أغلب بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (بسبب الوعي، ولأسباب اقتصادية)، بينما يزداد عدد سكان الولايات المتحدة مثلا (ربما بسبب تدفق الهجرة)، والصين بدرجة منضبطة.. لكن الزيادات غير المنضبطة من نصيب الهند وباكستان وبنغلاديش وأندونيسيا، وبعض الدول الإفريقية (أثيوبيا، نيجيريا، مصر..).

تشير دراسات الأمم المتحدة أنّ معدلات الخصوبة العالمية انخفضت منذ الانفجار السكاني في ستينات القرن العشرين. حيث بقيت على مدى جيلين بمستويات الإنجاب المتوسطة، ثم بدأت الانخفاض بشكل ملحوظ، ويفيد برنامج الأمم المتحدة الإنمائيّ أن سكان شرق آسيا (الصين واليابان وكوريا وتايوان) يتقلَّصون. وبما أن سكان العالم بالمجمل صاروا أكثر ثراءً وصحّةً وتعليمًا وتحضرًا، يتوقع الخبراء توالي انخفاض معدلات المواليد. وأن يستقر عدد سكان الكوكب إلى ما دون العشرة مليارات نسمة مع نهاية القرن.

لكن هذا التراجع السكاني العالمي ليس جيدا بالضرورة، خاصة للأثرياء، وتداعياته ستكون عكس نظرية المليار الذهبي، أي ضد مصلحة كبار أثرياء العالم؛ فانخفاض عدد السكان من شأنه أن يقلب الإيقاعات الاجتماعية والاقتصادية المألوفة رأسًا على عقب. فمن ناحية ستنخفض أعداد العمّال والمدخِّرين ودافعي الضرائب والمستأجرين ومشتري البيوت المستهلكين والناخبين.. وهؤلاء يشكلون السوق اللازم لأصحاب الصناعات العملاقة وفاحشي الثراء، ومن دونهم يصبح الإنتاج عالة ودون أي فائدة ويسود الكساد.. ومن ناحية ثانية حتى تزدهر أعمال "كبار الأثرياء والمنتجين" فإنهم يحتاجون رجال أعمال رياديين، وسماسرة أذكياء، ومبتكرين ومخترعين وعباقرة وعلماء ومفكرين وأصحاب نظريات وهؤلاء نسبة توفرهم ضئيلة جدا ونحتاج مليارات البشر للحصول عليهم بما يكفي لتشغيل ماكينات الإنتاج العالمي.

بالإضافة إلى ذلك، سوف يؤدّي تراجع السكان والانحدار السكاني المطوَّل إلى شيخوخة البلد الشاملة، وبالتالي إلى إعاقة النمو الاقتصادي والضغط على أنظمة الرعاية الاجتماعيّة في البلدان الغنية، ممّا يهدد إمكانية استمرار الرخاء في تلك البلدان.

الاقتصاد الحديث يوفر حلا لهذه المعضلة..

يقول نوح هراري في كتابه العاقل: لفترات طويلة من التاريخ ، وبسبب شح الموارد ولأن الاقتصاد كان بدائيا كان الصراع بين المجموعات البشرية عنيفا وبمعادلة صفرية لا تقبل الشراكة، فإذا اغتنى أحدهم فلأنه نهب الآخرين أو استغلهم، وإذا تطورت مملكة فلأنها سحقت وضمت جيرانها ونهبت مواردهم..

ويضيف: حوصرت البشرية لعصور متوالية في بوتقة الجمود الاقتصادي، وظلت الاقتصادات محدودة، والأعمال غير مزدهرة.. حتى ظهر نظام اقتصادي جديد قائم على الثقة بالمستقبل؛ هذا النظام جعل الناس تتداول سلعا متخيلة لا وجود لها في الحاضر، بنوع خاص من المال سموه "إئتمان"، أي بناء الحاضر على نفقة المستقبل، بثقة كبيرة بأن المستقبل سيوفر مزيدا من الموارد والأرباح والفرص.

مع إن نظام الإئتمان (أي الدين) كان معروفا منذ القدم، إلا أنه لم تكن لدى الناس آنذاك ثقة بالمستقبل، وكان الاقتصاد عبارة عن كعكة محدودة يجري تقاسمها بين من يملكون المال، فإذا أثرى شخص ما سيكون ذلك على حساب الآخرين، وإذا ازدهرت مدينة، مقابلها ستفقر مدينة آخرى.. ولأن الكعكة بنفس الحجم فقد كان هامش الإئتمان ضيقا جدا، وبأمد قصير لا يتجاوز السنة، لذا لم يتطور الاقتصاد. لكن النظام المصرفي الجديد سيحل هذه المعضلة، وسيحرر الاقتصاد من الجمود، فلم تعد الكعكة محدودة، وصار بالإمكان للأعمال والمشاريع المتنافسة أن تزدهر..هذا كان الحل في آخر 300 سنة تقريبا، ماذا بشأن المستقبل؟

مهما بلغ تعداد سكان العالم، بالعدالة والعلم والتعايش السلمي نستطيع الاستمرار والازدهار.. المهم أن نحيا معا بسلام، دون حروب، وأن نحترم البيئة، ونقدّر الكوكب الذي تحمّل غباءنا كثيرا..


Page 1 of 25:  12 3 4 Next Last