أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

مايو 31، 2025

حديث ذو شجن


في يوم خريفي من العام 1986، كنت أجلس بجوار أبو هادي، وهو سائق باص على خط أبو غريب – العلاوي في بغداد، وقد نشأت بيننا شبه صداقة كافية لتبادل بعض الأحاديث الجانبية، كان ينتظر امتلاء الباص بالركاب، وأنا مندمج مع صوت فريد الأطرش في أغنية "أضنيتني بالهجر"، فقال لي بصوت تملؤه الحسرة: "عندي حوالي ميت كاسيت لفريد وعبد الوهاب وناظم الغزالي.. بس حرامات، ماكو واهس أسمع شي".. قالها بنبرة حزينة، فأردتُ مواساته فقلت: ليش عمي أبو هادي؟ والله الدنيا بخير، والأغاني حلوة.. فقال: يا خير يا بطيخ! إنت ما شفت الخير أيام ما كنا خوش أوادم..

كانت الحرب مع إيران في ذروتها آنذاك، تلك الحرب التي حصدت أرواح 1.5 مليون إنسان، ثلثهم من شباب العراق.. لم أعرف هل كان أبو هادي يشكو تداعيات الحرب الحزينة؟ أم بطش النظام؟ فقد بدأ الباص يمتلئ بالركاب، وصار أكثر حذرا في كلامه، حتى انتهى بقوله: خليني ساكت أحسن..

ما زلت أتواصل مع أصدقائي العراقيين، يقولون إنهم يحنون لتلك الأيام بحلوها ومرها ورغم قسوتها.. يقولون إنهم كانوا عايشين، بفرح ورضا نسبي.. كان الأمن مستببا، والطائفية محشورة في قمقمها، والفساد مدان محارَب.. مرت على العراق عشرية سوداء تبدل فيها كل شيء، وللأسوأ، من لم يسحقه الفقر، طحنه الفساد، أو قتلته ثارات الحقد الطائفية.. وما زال العراقيون يكافحون لبناء وطن جديد.

قبل عدة سنوات، كنت مع زوجتي خلود في رحلة إلى مصر، صعدنا برج القاهرة الشهير، وجلسنا في المقهى نطل على النيل والبيوت ومصر القديمة والحديثة، كنا مأخوذين بسحر المشهد.. فأتى النادل يسألنا عن طلبنا، فقلت له واحد قهوة وواحد كباتشينو.. فنظر نحونا باستغراب واستنكار، وقال: كابتشينو إيه يا بيه؟ حضرتك جاي برج القاهرة، عشان تشرب كبتشينو مكنت تشربها في بيتكم! فقلت له طيب عاوزنا نشرب إيه؟ فقال مبتسما انتو لازم تنبسطو وتكيفو.. وعلى حساب المحل، هجيبلك قنينة منكر وحتة حشيش وشغلّك أم كلثوم.. فتبادلنا الضحكات، واعتذرت له عن المنكر والحشيش وأثنيتُ على مقترح أم كلثوم، وبالفعل بدأت الست تصدح بألف ليلة وليلة.. ولما رأى "انبساطنا" تقرب منا وأخذ راحته بالكلام: يا سلام على زمن الست.. أم كلثوم هي اللي خلتنا نوقف على رجلينا بعد النكسة، لما كنا نمشي في الشارع مصدومين والواحد بكلم نفسه وشاعر بالضياع والخوف.. كنا مش عارفين نعمل إيه.. وبعدها عملنا حرب الاستنزاف، وعبرنا القنال يوم ستة أكتوبر (مش سبعة)..

في لبنان كانت الحرب الأهلية في أوجها، الكتائب والانعزاليون بدعم من نظام الأسد، في مواجهة القوى الوطنية اللبنانية ومعها فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، وكانت إسرائيل تقصف بيروت، وتغتال القيادات، وتجتاح الجنوب، حتى وصلت ذروة اعتداءاتها في اجتياح 1982.. طوال تلك السنوات الثقيلة والأليمة والمفجعة (على جميع الأطراف) لم تتوقف الحياة في بيروت، بكل ما أمكن من بهرجتها وفرحها وموسيقاها وحفلاتها.. كان الجميع يحاولون اقتناص ساعة فرح من وسط الأحزان، وكلٌ على طريقته.. من وسط مأساتنا خرجت فرقة العاشقين، وأحمد دحبور، وسميح شقير، ومارسيل خليفة، وأغاني العاصفة، ومديح الظل العالي لمحمود درويش، وقصائد عز الدين المناصرة، وعلي فودة..

منذ نحو سنتين يتعرض أهلنا في قطاع غزة لحرب إبادة وتهجير.. وبعيدا عن دعايات الجزيرة ومحللوها الأشاوس، فإن ما يحدث حقيقة على الأرض قصف وتقتيل وحرق وتدمير وتجويع ونزوح قسري وخيام مهترئة، وطوابير، وحرمان وخوف وسرقة مساعدات وغلاء فاحش وفقر وهوان وانهيارات مجتمعية رهيبة..

وتلك نتيجة متوقعة لمسار متراكم من الأخطاء الكارثية، حتى وصلنا حدود الانكسار؛ فالأرواح المتعبة والجائعة والخائفة واليائسة لا تقوى على حمل المثل العليا، وليس بوسعها فرض شروط المنتصر.. سيصبح كل همهم تأمين رغيف الخبز، ولا أحد يلومهم على ذلك، فتلك حاجات الإنسان الطبيعية والأساسية.. "ومش ناقصين مزايدات".

في الأمثلة التي ذكرتها أعلاه، وفي كل الحقب السابقة، رغم التضحيات والعذابات والخسائر.. فإن السمة التي تجمعها هي "الأمل".. الأمل بغدٍ أفضل، الأمل بتغيير الأوضاع.. ذلك الأمل قهر كل تلك الأحزان وذللها، فقد اقترن بالإيمان الحاسم بإمكانية إحراز النصر، أو إنجاز الأهداف الوطنية العليا.. ولو إُنجزت بحدها الأدنى.. سيكون أمل آخر بإمكانية المراكمة عليها وتحقيق ما هو أكثر وأفضل..

كيف وصلنا إلى هذه المرحلة؟ وكيف تبخر الأمل؟ وصار مجرد حلم طوباوي؟ كيف صارت أقصى أمانينا ومنتهى غاياتنا أن تتوقف الحرب.. تتوقف حتى يتمكن الناس من دفن موتاهم، ومن ترميم خيمهم، ومن التقاط أنفاسهم، ومن تأمين وجبة حقيقية خالية من المعلبات، وجبة لا تحتاج الوقوف ساعات في طوابير أمام التكية، أو الهجوم على شاحنات المساعدات، وجبة غير مغمسة بالدم..

كل ما نحتاجه الآن هو عودة الأمل..

هذا الأمل لن يأتِ من تلقاء نفسه.. سيأتي حين نعترف بأخطائنا، ونقيّم تجربتنا، ونجري نقدا جريئا أمينا لكل مراحلنا السابقة، وحين يتحمل كل طرف مسؤولية أفعاله واجتهاداته ومواقفه.. ونبدأ بالتغيير الحقيقي..

لقد جربنا كل الطرق: الكفاح المسلح، والعمليات الفدائية، والانتفاضات الشعبية، والمفاوضات، والسياسة، والدبلوماسية، والمحاكم الدولية.. كما جربنا العمليات الانتحارية، وحرب الصواريخ والأنفاق، والكتائب المسلحة.. فوصلنا إلى هذه الحالة المزرية.. لأننا خضنا تجاربنا متفرقين، أحزاب وفصائل، وكل طرف يعتقد يقينا أنه الأصح، ويحارب الآخرين ويخــوّنهم.. خضنا تجاربنا بدون رؤية إستراتيجية موحدة، ومتفق عليها، وملزمة للجميع.. إستراتيجية وطنية لا تتبع أجندات خارجية وتنظيمات وجماعات دولية ومحاور إقليمية.. إستراتيجية فلسطينية مشتركة يكون همها الأوحد فلسطين، وشعبها وقضيتها.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق