أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أكتوبر 06، 2025

أسئلة ما بعد الحرب

 

على مدار سنتين من حرب الإبادة واظبت جهات معينة على محاولات قمع وإسكات أي صوت معارض أو منتقد أو حتى ناصح، بحجة أننا في مرحلة حرب ودفاع ويجب التفرغ للمعركة، وعدم تثبيط المقاومة.. مع أنها ذريعة واهية، ولكن لنتجاوز الأمر، حسناً.. ها هي الحرب قد توقفت أو أوشكت، أو على الأقل تجمدت الأعمال الحربية وبدأنا بمرحلة الحصاد والتسويات والإتفاقيات.. بالتالي آن الوقت لطرح الأسئلة وممارسة النقد..

الحقيقة الأولى، وهي مشكلة كبيرة، أننا كفلسطينيين خضنا عشرات المعارك والحروب وجولات المقاومة والانتفاضات الشعبية السلمية والعنيفة، وجولات مفاوضات.. لكننا لم نجرِ مرة واحدة عملية مراجعة ونقد حقيقية وبالشكل المطلوب.. أثناء خوض المعركة نقول لنؤجل النقد إلى ما بعدها، ويأتي بعدها وننسى، ونكتفي ببعض المقالات النقدية والدراسات التحليلية التي لا يطلع عليها صناع القرار، ولا تشكّل أرضية للبناء عليها، أو مرجعية لتصحيح الأخطاء وتصويب المسيرة..

لذلك، واصلنا مسيرة الكفاح من خسارة إلى أخرى، وفي تراجع مستمر؛ لأننا افتقدنا أهم عنصر في العمل السياسي والمقاوم، وهو ممارسة النقد بحرية وجرأة ومسؤولية، فلم نتعلم من أخطائنا، ولم نطور أساليبنا، ولم نخلق عملية تراكمية صاعدة، وكان كل فصيل وكل حزب يريد أن يبدأ النضال من عنده وينتهي عنده ويتوقف عليه..

الحقيقة الثانية، وهي أشد مرارة، أصحاب القرار في الفصائل والقوى، وفي فتح والسلطة، وفي المعارضة ومن هم خارج المنظمة، ومعهم أنصارهم وأتباعهم ومؤيديهم.. لم يتعلموا دروس التاريخ، ولم يتعظوا من الخسائر، ولم يعبئوا بالتراجعات والانحدارات المتواصلة، ولم يكترثوا بتضحيات وآلام شعبنا.. بما في ذلك من ضحوا ومن تألموا ومن فقدوا أحبتهم.. هم أيضا شركاء.. ما زال كل طرف عند مواقفه ثابتا لا يتزحزح، وكأنّ الحروب وتداعيتها تجري في كوكب آخر..  ليس في هذا تعميم، لكنها إشارة إلى ظاهرة خطيرة، وهي التمسك بالآراء المسبقة، والوقوع دوما في إشكالية الانحياز المعرفي، والتحيز بلا تحفظ إلى جانب الجهة التي ينتمون إليها، أو يؤيدونها، أو للأفكار المسبقة المستقرة في أعماق العقل الباطني، وترفض أي تزحزخ، ويصعب عليها التكيف مع المتغيرات، بكلمة مختصرة: الثبات بتعصب.

للتوضيح، سأعطيكم أمثلة طازجة عن الحدث الأخير: أعلن ترامب عن مبادرة من عشرين نقطة.. عشرات الإعلاميين والكتّاب والمؤثرين رفضوها، وقالوا عنها: وصفة للاستسلام، وعودة الوصاية، وقبولها خيانة وتفريط.. بعد أيام قليلة أعلنت حماس قبول المبادرة، فجأة من كان يرفضها قبِلها، ولم يكتفِ بالقول إنها مبادرة سيئة ولكننا مجبرون على التعامل معها؛ بل صار قبولها ذكاء وعبقرية وحكمة وضربة معلم!

في السياق ذاته: انتشرت مقولة: "إن وافقت المقاومة فقد أصابت، وإن رفضت فقد أصابت، وإن واصلت القتال نحن معها، وإن توقفت نحن معها".. هذا ليس تأييداً للمقاومة، هذا إلغاء للتفكير، وتأجير العقل للآخر الذي يقرر، وما علينا سوى الإتباع والانصياع والقبول.. دون اعتراض، دون مناقشة، دون نقد، ولا مساءلة.. هذا ليس مجرد موقف سلبي، بل هو "لا موقف"، أو امتثال بمنهج ثقافة القطيع..

 مثال آخر سأقتبسه مما كتبه الصديق عامر بدران: "تم مؤخراً استخدام جُمل مثل: للحفاظ على "ما تبقى" من شعبنا.. للحفاظ على "ما تبقى" من الأرض.. للحفاظ على "ما تبقى" من بيوت.. الغريب أن جزءاً كبيراً ممن يستخدمون هذه الجُمل، هم من الإخوان أو من مناصريهم في اليسار الفصائلي والقطري. والأغرب من ذلك أنهم يقدمون أنفسهم من خلالها كحريصين ومدافعين عن الدم الفلسطيني والأرض الفلسطينية، لكنّ الأدهى هو أنهم كانوا يخوّنون ويكفّرون كل من كان يقول: للحفاظ على الشعب الفلسطيني، وعلى الأرض الفلسطينية، حين لم يكن هناك حاجة لوضع "ما تبقى" داخل الجملة".

وإذا عدنا بأمثلة إلى فترة أسبق؛ سنتذكر مقولات انتشرت في بدايات العدوان: لن يتمكنوا من اجتياح غزة برياً، أي اجتياح لغزة سيكون كارثة على إسرائيل، وسيغرق الجيش في رمال غزة.. الرهان على حزب الله ومحور المقاومة والدخول في الحرب مسألة وقت محسومة وستغير المعادلة.. سينشق المجتمع الإسرائيلي، ستنهار حكومة نتنياهو، إسرائيل لا تتحمل حرباً طويلة، سينهار اقتصادها.. ستشتعل كل فلسطين، وستزحف الشعوب العربية للحدود، ستؤدي مظاهرات المدن والجامعات الغربية إلى إجبار إسرائيل على وقف الحرب، بل وهزيمتها..  

طبعا لا شيء مما سبق تحقق.. وتحقق عكسه تماما.. ومع ذلك لم يخرج أي محلل سياسي ويقول: أعتذر كنت مخطئا.. وحتى الجمهور نسي تلك التصريحات وبدأ يبحث عن مقولات جديدة، تبرر له تلك التحليلات، أو تساعده على نسيانها.

كم مرة سمعنا أمثلة الجزائر وفيتنام ومليون شهيد.. طيب، هاتان الدولتان تحررتا، وحصدتا ثمار تضحياتهما، مع ذلك ما زلنا نستخدم تلك الأمثلة (غير المناسبة أصلا) حتى بعد تبين الفرق الفادح في النتائج، وأنَّنا لم نتحرر، بل تراجعنا..

حتى أهداف "الطوفان" التي لم يتحقق منها شيء، وصار البون شاسعا جدا بينها وبين ما وصلنا إليه، مضاف إليه خسارة 300 ألف إنسان بين قتيل وجريح ومفقود، وتهديم غزة.. بالرغم من ذلك لا أحد يتحدث عن تلك الأهداف، وصار المنجز الأهم إيقاف الحرب.. ألا يستدعي كل ذلك طرح السؤال: ماذا حققنا؟

عشرات التصريحات والتحليلات تبين أنها خاطئة، وتنم عن جهل وتعصب، أو أنها كانت موجهة لأغراض دعائية.. ومع ذلك لا ننتبه، ونتناسى، وما زلنا نصدق ونؤمن بخرافات وأوهام وشعارات براقة.. نضع الشعار ثم نقدسه، ثم نعبده..

للأسف، لن تحدث أية مراجعة نقدية ذاتية، لأننا متعصبون لأفكارنا وشعاراتنا، لأننا لا نخطئ، وإذا أخطأنا نبرر، ولا نعترف.. وإذا لم يعد بوسعنا تجاهل الخطأ، بدلا من مصارحة ذاتنا، والتركيز على معالجة أخطائنا، نبدأ بمهاجمة الآخرين.. (مغالطة رجل القش)، وكأنَّ أخطاء الآخرين تبرر لنا كل شيء! ليس هذا سوى التهرب من تحمل المسؤولية.

دماء أطفالنا وآلام شعبنا وتضحياتنا الهائلة ومستقبلنا الذي صار على المحك تستحق منا إجراء مراجعة نقدية مسؤولة وشجاعة وأمينة.. مطلوب من حماس بالذات إجراء هذه المراجعة، وأن تخبرنا بصدق وصراحة عن نتائجها.. لا نريد شعارات، ولا تصريحات للتسويق الإعلامي، ولا تحليلات شعبوية لكسب أصوات.. نريد مواجهة صادقة مع الذات. من حماس ومن الجميع..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق