أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أكتوبر 08، 2025

التغيير سيبدأ من غزة

 

في بدايات تسلم الرئيس العراقي الأسبق أحمد البكر، أراد نائبه حينها صدام حسين أن يتخذ العراق موقفا داعما للفلسطينيين، فرتب لقاء سيجمع بين البكر وياسر عرفات لتقريب وجهات النظر، حين دخل صدام كان البكر غاطسا في كرسيه ملتفتا للجهة الثانية، وقبل أن يبدأ بالحديث قاله له البكر: خللي الفلسطينيين يتوحدوا أولاً بعدين نتفق، مرة يقولون العاصفة، ومرة فتح، ومرة منظمة التحرير! صدام كان مطلعا بشكل كافي على تعقيدات الوضع الفلسطيني خلافا للبكر، فشعر بالحرج، وأخذ يبسط له المعلومة بأن العاصفة هي الجناح العسكري لفتح، والمنظمة هي الإطار العام... بقية القصة غير مهمة، الفكرة هنا أن رئيس دولة تعتبر فلسطين قضيتها المركزية ولا يعرف أبسط معلومة عنها..

حين اندلعت الانتفاضة الشعبية الأولى كنا في صالة السكن الداخلي نتابع الأخبار على التلفزيون، فبدأت تظهر مشاهد المواجهات بين الشبان الفلسطينيين وقوات الاحتلال.. كانت ردة الفعل الأولى لدى قسم كبير من الطلبة الجامعيين استغرابهم من وجود فلسطينيين في فلسطين، كانوا يظنون أنّ إسرائيل طردتهم كلهم إبان النكبة..

قبل سنوات قليلة من اندلاع الحرب العدوانية على غزة، كنتُ قي عمّان في بيت عزاء، وتحول الحديث إلى الوضع الفلسطيني، وتباينت الآراء، وصرت أحاول تصحيح بعض المفاهيم الشائعة المغلوطة عن طبيعة الأوضاع في الأرض المحتلة.. وفي نهاية الجلسة تقرب لي أحدهم في الأربعينات من عمره، وبدا أنه يريد فعلا فهم حقيقة ما يجري في فلسطين، وبدأ بسؤال: شو الفرق بين الضفة وغزة؟ يعني الضفة في غزة أم العكس! تبين لي أنه يعتقد أن غزة مدينة في الضفة!

ما سبق مجرد أمثلة، ولا تمثل حالة عامة، لكنها تعطي مؤشرات أن معلومات الكثيرين ممن هم خارج فلسطين عن فلسطين متواضعة ومشوشة وغير دقيقة.. طبعا الكثيرون يعرفون أدق التفاصيل ويتابعون كل شيء باهتمام، ولكن لا نعرف النسبة بين الفريقين، ومن يمثل الأغلبية؟ المهم هنا أن الجميع يصدر أحكاما بغض النظر عن مدى معرفته، لأنه في ثقافتنا العروبية عيب أن تجلس صامتا، لا بد أن تدلي بدلوك، وأن تفتي في كل شيء، حتى لو دار الحديث عن أزمة كشمير سواء عرفت حدود كشمير وموقعها أو تعتقد أنها نوع من القماش، في كل الأحوال لازم تفتي..

المشكلة ذاتها وبنفس العقلية تظهر مع من يتابعون حرب الإبادة في غزة.. سواء من يعتقد أنها مدينة في الضفة، أو من يظن أنها دولة شاسعة، أو حتى من يعرف عنها القليل.. الكل لازم يأخذ موقف، وهذا الموقف ليس بناء على معرفة بتفاصيل الواقع وطبيعة المنطقة وخصوصيتها، ولا إنطلاقا من فهم أبسط قواعد العمل السياسي وبديهيات المقاومة والنضال، ولا حتى من منطلق الشعور الإنساني ومشاعر التضامن مع الضحايا (كما هي حال المظاهرات الحاشدة في المدن الأوروبية والعالمية مثلا)؛ في منطقتنا وحسب ثقافتنا نتخذ الموقف بناء على حفظنا نصوصا مقدسة، أو شعارات براقة (لأن العقلية العربية عموما عقلية نصوصية، النص هو المحدد الأول والأخير وهو حدود التفكير)، أو بحسب الطائفة أو الحزب أو الجماعة التي ننتمي إليها، أو نعتبرها الأقرب لنا (لأن المحدد الثاني في العقلية العربية هو الانتماء القبلي والطائفي حتى لو كان تحت سقف حزب سياسي).. بناء على هذه المعايير فقط نتحذ موقفنا الثابت الذي لا يتزحزح، حتى لو سقطت قنبلة ذرية فوق رؤوسنا!

المحدد الثالث هو التفكير العاطفي، وعدم إدراك المسافة بين الشعار والواقع، بين الفكرة والتطبيق، بين الهدف البعيد وما هو متاح، بين الأيديولوجيا والسياسة، بين الحق وإمكانية ممارسة هذا الحق.. هذه معضلة التفكير لدى أغلب الفلسطينيين، وهي ما بدأت غزة تتخلص منها.. وهذا ما أود الوصول إليه.

في قطاع غزة، ومن أهم تداعيات حرب الإبادة تشكُّل حالة وعي فكري وسياسي وإنساني لدى أبناء القطاع، وأظن من مختلف الأجيال، ولن أقول مختلف الشرائح والطبقات لأنه لم تعد هناك شرائح ولا طبقات، صار الكل تحت وطأة القصف والنزوح والمأساة.. هذه المأساة الكارثية أحدثت الصدمة المطلوبة والناجمة عن كل حرب.. حدثت فقط في غزة، وبدرجة أقل في الضفة لأن الناس ذاقوا مرارة الحروب وكل ما ينجم عنها من أهوال، وأدركوا بفعل التجربة القاسية معانيها وفظاعتها، واكتشفوا مدى ضحالة وتخلف وطوباوية الشعارات التي كانت مطروحة قبل الحرب.

أكتب هذا لأني متابع حثيث لكل ما يجري في غزة، مع إني لم أتشرف بزيارتهها سوى مرة واحدة، لكن لدي آلاف الأصدقاء الغزيين ممن يكتبون مشاعرهم وأفكارهم يوميا وأقرا كل ما يكتبون، لذا يمكني الزعم أني مطلّع بقدر كافي، وبناءَ على ذلك استشرف الصورة القادمة من غزة..

أهلنا في قطاع غزة باتوا متقدمين بمراحل في الوعي عن غيرهم، وأكثر نضجا.. وعلينا ألا ننسى أن غزة هي التي حملت وحمت اسم فلسطين بعد النكبة حين كان الضياع والتيه الخيار الأقرب والمطروح بقوة.. في تلك الحقبة خرج من أزقة غزة أبرز مؤسسي الثورة، كما من مخيماتها اندلعت الانتفاضة الأولى، على أرضها وفوق رؤوس أهلها انصبت نيران أطول وأعنف حرب إبادة.. فكما كانت أم البدايات، ستكتب الخاتمة..

ولأنَّ لكل محنةٍ وجه آخر يمنح الفرصة، سيلتقط أهلنا في غزة هذه الفرصة، لإرجاع قضية فلسطين لموقعها الطبيعي: قضية الشعب الفلسطيني، بوصفها قضية تحرر وطني، وإنساني.. بعيدا عن الشعارات، وعن الخزعبلات، دون ارتهان لمحاور، ودون مؤتمرات وعد الآخرة، ولا عقلية أصحاب الأخدود، ودون أحزاب أيديولوجية، دون انقسام، بقرار وطني مستقل، لا ينتظر إملاءات من قطر ولا من تركيا ولا من إيران، ولا من أحد..

رغم الجراح والآلام، ستعود قضية فلسطين إلى سيرتها الأولى: قضية تشبه شعبها، وتريدهم أحياء فوق أرضها، مفعمون بالأمل والحيوية، يكتبون ويحلمون ويبنون، ويخترعون، يفكرون بعقولهم وضمائرهم وإيمانهم بحقهم في الحرية والاستقلال، وبناء دولة عصرية حداثية تحترم مواطنيها، يناضلون بتصميم وشجاعة وفق إستراتيجية وطنية توحّد الجهود وتضع القضية على أجندات العالم وضمن حساباته من منطلق الحق والعدالة.

الانطلاقة الجديدة والأهم في مسيرة النضال الوطني ستبدأ الآن ومن غزة تحديدا.. ولكن بأدوات وأساليب وعقلية مختلفة، أكثر نضجا وحكمة..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق