قبل سنوات
تشرفتُ بإدارة ندوة سياسية خاصة لمناقشة القضايا المتعلقة بحركة
المقاطعة العالمية لإسرائيل، نظّمها معهد السياسات العامة برام الله، شارك فيها ممثلين
عن القوى والفصائل وحركات المقاومة
الشعبية، من بينهم "محمود نواجعة" المنسق العام ل BDS، وقد كنتُ منحازا لحركة الBDS،
لدرجة أن الدكتور "محمد عودة" رئيس المعهد عاتبني على تركيزي عليهم أكثر
من سائر القوى. كما نشرتُ مقالا عن الحركة مشيداً وداعماً، باعتبارها جزءا من استراتيجية
المقاومة الشعبية المدنية التي تمتد جذورها إلى بدايات التجربة النضالية
الفلسطينية.
مع تقديرنا لهذه الحركة الرائدة، ولدورها
الفاعل في المقاومة ومناهضة سياسات الاحتلال العنصرية، وأثرها الكبير في الساحة
الدولية، إلا أنها بدأت تعاني مؤخرا من أمراض الفصائلية، وأخذت تتصرف كحزب، وصارت
تستخدم معاييرها سيفا ضد أي جهة سياسية تختلف معها، أو تتعارض مع سياسات قطر! فضلا
عن إدعاءها تمثيل الكل الفلسطيني، وتنصيب نفسها قاضيا على أي تحرك فلسطيني.
وحتى لا نعطي فرصة
للمزايدة، يجدر معرفة أن ال BDS لم تتأسس على فكرة نفي إسرائيل، أو تحرير
فلسطين، فهي تدعو لمقاطعة إسرائيل وعزلها وفرض عقوبات عليها، بسبب سياساتها
الاحتلالية والاستيطانية والعنصرية.
في بيانها غير
الموضوعي وغير العادل تهجمت على الكاتب والمناضل عصمت منصور، بسبب لقائه مع ابرهام بورغ.. كان يمكن أن تكتفي باستنكار
اللقاء كما فعلت مع د. مصطفى البرغوثي حين عانق شلومو بن عامي، لكنها استخدمت لغة
تحريضية وتخوينية. وهذا ليس التناقض الوحيد في سلوك الحركة.
في العام الماضي
دعت الحركة لمقاطعة فضائيات العربية والحدث وسكاي نيوز، بدعوى "مساهمتها في
تبرير المجازر ضد شعبنا، والدفاع عن المنطق الاستعماري الإسرائيلي، وتبنّي الرواية
الصهيونية..". لدينا تحفظات عديدة على تلك المحطات، وندرك أنها ليست بريئة،
ولديها أجندات.. لكن السؤال لماذا التركيز على تلك المحطات، وتجاهل كلي للجزيرة؟!
تلك الفضائيات ركزت
على الكارثة الإنسانية في غزة، ووفرت مساحة إعلامية بديلة عن تغطية الجزيرة الأحادية
المتطرفة التي عملت على تضخيم القدرات المسلحة لحركة حماس، ومنحت مساحات مطلقة
لسعيد زياد والدويري وغيرهم للمزايدة على أوجاع الشعب الفلسطيني وبيع الوهم عن
الانتصارات والمواجهات العنيفة، وجر القضية الوطنية إلى رهانات خاسرة أوصلتنا إلى
هذه النكبة.
وإذا كان اللقاء مع
أي إسرائيلي تطبيعاً، فلماذا لم تشر الحركة بوضوح وصراحة للدور الكبير والمشبوه
الذي لعبته الجزيرة في هذا المجال؟ وهي أول قناة استضافت إسرائيليين! وأكثر قناة
تستضيف متحدثين إسرائيليين! وهي التي أدخلت الإسرائيلي إلى كل بيت عربي، وجعلته
مقبولاً ومسموعاً، ومنحته فضاء مفتوحاً لتبرير جرائمه، لدرجة أن المواطن العربي
بات ينتظر المتحدث الإسرائيلي ليتأكد من دقة معلومة، أو ليستوضح أمراً ما!
في لقائه مع بورغ،
أجرى عصمت محاكمة لإسرائيل، وجعل بورغ يعترف بأن إسرائيل ترتكب جرائم ضد الإنسانية،
وتمارس الإبادة الجماعية، واصفا قادتها بالشياطين.. داعيا إلى إقامة دولة
فلسطينية.. فهل من مصلحة إسرائيل أن يخرج
من بينهم صوت يدينهم على منابر أعدائهم؟
مشكلة الBDS
أنها عوضا عن تركيزها على أهدافها النبيلة والمهمة (عزل إسرائيل ومقاطعتها وفرض
عقوبات عليها) انصب اهتمامها على موضوع التطبيع.. وهو مصطلح فضفاض يحتاج إلى إعادة
قراءته بتروي.. خاصة وأنه يقوم على فكرة غير دقيقة مفادها أن التطبيع مصلحة
إسرائيلية، وإسرائيل مهتمة بجر الدول والشعوب العربية للتطبيع.. وفي حقيقة الأمر
الصورة ليست كذلك.
من يفهم طبيعة المشروع الصهيوني سيدرك أن التطبيع يتناقض مع طبيعة إسرائيل
بوصفها دولة استعمارية واستيطانية وعنصرية، ترفض التحول إلى دولة عادية طبيعية، فإسرائيل
لم تحدد حدودها الجغرافية والسياسية، لأنها دولة توسعية، وتعتبر نفسها دولة لليهود
فقط، وتمثل يهود العالم، والقوة القهرية هي معيارها ولغتها الأهم.
ولأنَّ إسرائيل دولة عنصرية اعتادت أن تنظر للدول والشعوب العربية بتعالٍ
وفوقية، وتراهم مجرد أعداء يتوجب عليها إخضاعهم، وقد كرست نفسها دولة غيتو، أو
قلعة مسادا معزولة عن محيطها.. وهذا كله يتناقض مع القول بقابليتها أو حتى برغبتها
في التطبيع مع الآخرين، لأن ذلك يعني فقدانها ثيمتها الأساسية وسمتها الأهم ككيان
عنصري، ويفقدها مقولتها الأبرز بإدعاءها أنها واحة الديمقراطية في محيط التخلف
والاستبداد، وأنها متفوقة حضاريا وتكنولوجيا و"أخلاقيا" على دول
الإقليم، ويعني تخليها عن حال الاستثناء التي تتمسك بها، والتي تعتبرها بمثابة
قيمة مضافة لها، دونا عن دول المنطقة الطبيعية.
إسرائيل رفضت التطبيع مع مواطنيها الفلسطينيين، والتيار اليميني الصهيوني
الحاكم فشل في التطبيع مع سائر مكونات المجتمع الإسرائيلي، وبنظرة تاريخية سريعة
سنجد أن إسرائيل رفضت التطبيع مع الدول العربية التي عقدت معها معاهدات سلام، ولم
تبذل جهدا حقيقيا للتطبيع، باسثناء حركات استعراضية شكلانية أرادت من خلالها إجراء
لقاءات مع سياسيين وإعلاميين ومثقفين فلسطينيين وعرب لتقول للعالم ولشعبها أنها
دولة عادية وغير عدوانية ولا أحد يعاديها باستثناء المتطرفين!
تدرك إسرائيل أن التطبيع علاقة تبادلية تتطلب تنازل الطرفين، وينطوي على
استحقاقات سياسية، لا تريد تقديمها، أولها وأهمها الانسحاب من الأراضي المحتلة،
والاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة، لذلك رفضت
معاهدة السلام العربية والتي من بنودها التطبيع.. ورفضت تنفيذ مخرجات مؤتمر مدريد
حتى في مساره العربي الذي يتضمن التطبيع.
ورفضت التطبيع مع الفلسطينيين، مع إن اتفاق أوسلو يدعو في نهاية المرحلة
الانتقالية لإنهاء النزاع وتطبيع العلاقات، لكنها عملت كل جهدها لتقويض أوسلو منذ هيمنة
اليمين على الحكم، وما زالت تواصل الاستيطان والهيمنة على حياة الفلسطينيين بدلا
من التطبيع معهم، وها هي تشن حرب إبادة على غزة، لقتل وتشريد سكانها.
وتدرك أيضا، وربما هذا أهم أن التطبيع يعني في نهاية المطاف اندماج المجتمع
الإسرائيلي في محيطه العربي.. ولأن المجتمع الإسرائيلي أصغر وأضعف بكثير من
المجتمع العربي سكانيا وتاريخيا وحضاريا وثقافة ولغة وأدبا وفنا ومستقبلا... سيعني
هذا حتما هضمهم وتذويبهم من قبل المجتمع العربي بخطوات بطيئة وحثيثة حتى لو لم
يقصد العرب ذلك، بما يعني اضمحلال وذوبان الإسرائيلي، وهذا كله على عكس قيم وأهداف
ومبادئ الصهيونية. لذا وجب التمييز بين التطبيع السياسي الرسمي الذي يخدم إسرائيل،
وبين التطبيع بمفهومه العميق وبعيد المدى الذي لا تريده إسرائيل.
إسرائيل لا تريد ولا يهمها التطبيع، وهي غير مؤهلة للتحول إلى دولة عادية.
التطبيع عندها، يعني فقط الهيمنة على دول الجوار، وتعميم نموذجها كدولة دينية طائفية
في المنطقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق