أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

سبتمبر 02، 2025

براكين غيرت مسار التاريخ


في القرن السادس عشر قبل الميلاد ثار بركان ضخم اسمه "ثيرا، سانتوريني" في بحر إيجه نجم عنه موجات تسونامي اجتاحت شواطئ المتوسط، ما أدى إلى سلسلة كوارث طبيعية واقتصادية واجتماعية ساهمت في تغييرات حضارية كبرى لتلك المنطقة، وكان تأثيره المدمر على جزيرة كريت مسببا انهيار الحضارة المينوية الكريتية التي كانت مزدهرة بالتجارة والثقافة، الأمر الذي أضعفها اقتصاديًا وعسكريًا وسهّل لاحقًا سقوطها بيد الميسينيين اليونانيين.

اعتبر من أضخم الثورات البركانية في التاريخ، فقد أدى إلى انفجار هائل دفن مدينة "أكروتيري" تحت الرماد، من تداعياته إطلاق سحابة غبارية ضخمة تسببت بتغييرات مناخية، مثل حجب أشعة الشمس وهبوط درجات الحرارة، والتسبب بموجات جفاف وتدمير المحاصيل، نجم عن كل ذلك مجاعات وصراعات داخلية وغزوات بينية وصولا إلى انهيار خطوط التجارة الدولية.

خلال تلك الحقبة المضطربة بدأت شعوب تلك المنطقة بمغادرتها والهجرة جنوبا إلى مصر وليبيا وشرق المتوسط، وقد عُرفوا تاريخيا باسم "شعوب البحر"، حيث ظهروا في أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وارتبطت هجرتهم أكثر بانهيار العصر البرونزي وبداية العصر الحديدي، في ذلك الوقت كانت تحكم مصر الأسرة العشرين، في فترة اضطرابات وصراعات على السلطة، شهدت أيضاً انهيار دولة الحيثيين.

لا يوجد نقش سمّاهم "شعوب البحر"؛ وقد أطلق عليهم هذه التسمية علماء المصريات في القرن التاسع عشر، والنقوش القديمة تقول إن هذه القبائل أتت من جزر المتوسط، لكنها لا تذكر من أي بحر أو من أية جزيرة أتوا، لذلك ظل أصل شعوب البحر مجهولًا. وقد ذكرهم الملوك الثلاثة: رمسيس الثاني، وابنه مرنبتاح، ورمسيس الثالث، في نقوش على جدران معابدهم واصفة انتصاراتهم الساحقة على الغزاة القادمين من البحر الشمالي.

وصلت "شعوب البحر" إلى المنطقة كحركة هجرة ونزوح أكثر منها غزو، مع أنهم  هاجموا مصر والحيثيين، لكنهم في مدن الساحل الفلسطيني دخلوا دون حروب، واستقروا في خمس مدن رئيسة، هي: غزة، عسقلان، أشدود، عقرون، وجت، بالإضافة إلى يافا في وقت لاحق. 

يُقال أنهم هم من منح فلسطين اسمها، إذ يُظهر نقش مرنبتاح كلمة "بلست"، لكن هذا لا يعني أن أصل الفلسطينيين كلهم من جزيرة كريت، فمن وصل منهم كانوا أقلية سرعان ما اندمجت مع السكان المحليين "الكنعانيين" وصاروا شعبا واحدا؛ تحدثوا اللغة نفسها، وعبدوا الآلهة نفسها، وتركوا آثارا تعبر عن ثقافة واحدة.. وثمة رواية أخرى تقول أن جزءا من سكان فلسطين هاجروا إلى جزيرة كريت عن طريق البحر، وأقاموا فيها لفترة، وأَطلق عليهم اليونانيون اسم الفلسطينيين، ومن ثم عادوا إلى موطنهم الأصلي مثل أي شعب آخر يغادر بعض أبنائه وطنَهم لفترة، ثم يعودون إليه.

في كل الأحوال، ظهور شعوب البحر، ودخول جزء منهم إلى فلسطين شكّل بداية عصر جديد، عرف بالعصر الحديدي، الذي أتي على أنقاض العصر البرونزي، حاملا معه تغييرات تاريخية جذرية ما زالت تداعياتها حاضرة إلى اليوم.

البركان الثاني، انفجر في العام 539 ميلادي، حيث ثار بركان ضخم في إيسلندا تسبب في إطلاق ملايين الأطنان من الرماد والصخور، ما أدى إلى حجب أشعة الشمس عن أوروبا والشرق الأوسط وأجزاء من آسيا، لتكون الظروف ملائمة لانتشار المرض والمجاعة على نطاق واسع.

اعتبر علماء الجيولوجيا ذلك العام "أسوأ عام في التاريخ"، محملينه مسؤولية دخول أوروبا حقبة "العصور المظلمة"، حيث حُجبت الشمس مدة 18 شهرا متواصلة، ما تسبب في تدني درجات الحرارة وتدهور المحاصيل الزراعية وجفافها، وبالتالي حصول المجاعة وانتشار الأمراض في معظم أنحاء نصف الكرة الشمالي. كان أخطر تداعيات تلك الكارثة تفشي الطاعون الأسود، الذي تسبب بموت أكثر من نصف سكان الإمبراطورية البيزنطية، حتى الإمبراطورية الفارسية لم تسلم من تداعيات المجاعة والطاعون والقلاقل الأمنية، لدرجة أن الإمبراطوريتين تقاتلا على الموارد في حروب طاحنة.

انتشار الطاعون والمجاعة والحروب بين الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية تسبب في إفقارهما وإنهاكهما لدرجة أنهما وصلتا حافة الهاوية.. بدأت تلك الأحداث المروعة قبل ثلاثين سنة من ميلاد نبي الإسلام محمد، واستمرت تداعياتها أثناء حياته.. لدرجة أنه حين وصلت جيوش المسلمين منطقة تبوك شمال السعودية في السنة التاسعة للهجرة (630 ميلادي) وكانت تحت الحكم البيزنطي وجدت معسكراتهم فارغة وقد تركوها وآثروا الانسحاب شمالا تاركين بلاد الشام كلها غنيمة لجيوش المسلمين، الأمر الذي تم خلال عقد من الزمان.

الأمر ذاته حصل مع الفرس، تلك الإمبراطورية التي كانت في نزاعها الأخير مع الحياة، وقد استشرى فيها الفساد والفقر والمجاعات، ولم تعد قادرة على الدفاع عن أرض العراق التي احتلتها، ولا حتى عن أراضيها نفسها التي سقطت ثمرة ناضجة للقادمين الجدد.

تقول نظرية أثر الفراشة، وهي نظرية علمية فلسفية، إن كل الأشياء في الواقع المادي مرتبطة ببعضها بعضا. فإذا أزلتَ حبة رمل واحدة من مكانها ستختل الكومة كلها؛ فالأشياء الصغيرة لها تأثيرات متفاوتة على نظام أشمل وأكثر تعقيدا. وكل حدث حتى لو كان ضئيلا سيحفّز سلسلة أحداث من بعده، وفي الخيال التأملي، إذا رفرفت فراشة بجناحيها في منطقة ما قد تتسبب في إعصار في قارة أخرى.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق