أطلقت حركة
فتح شرارة الثورة الفلسطينية في ال65، معتمدة بشكل أساسي على نهج الكفاح المسلح،
وسط اعتقاد جازم بأن الثورة المسلحة والحرب الشعبية طويلة الأمد هي الأسلوب الحتمي
والوحيد لتحرير فلسطين، مع اهتمامها بضرورة إبراز الهوية السياسية للشعب الفلسطيني
وما يقتضي ذلك من نضال على مختلف الصعد السياسية والإعلامية والدبلوماسية
والثقافية والاجتماعية، إلا أنها ظلت تعتمد نهج بناء الخلايا المسلحة وممارسة
العمليات الفدائية.. فخاضت في سبيل ذلك عشرات العمليات العسكرية والمواجهات
المباشرة مع الجيش الإسرائيلي والتي بلغت ذروتها في معركة اجتياح بيروت 1982.
بعد سنوات من
انطلاقتها أدركت فتح أن نهج الكفاح المسلح ليس الأسلوب الوحيد، بل إنه غير قادر
على تحقيق الغاية منه، خاصة بعد اصطدامها بالواقع العربي والدولي وتعقيداته، فصار
الكفاح المسلح من وجهة نظرها أحد الأساليب الناجعة في إثارة انتباه العالم للقضية
الفلسطينية، وفي عملية التعبئة الشعبية والتحشيد وتعزيز الانتماء وإبقاء جذوة
المقاومة وانتقالها من جيل إلى جيل، وإبقاء القضية الفلسطينية حاضرة في الأجندة
الدولية، ومنع الكيان من الاستقرار، ومنع الأنظمة العربية من الإنابة والتمثيل
ورفض وصايتها على الشعب الفلسطيني وقضيته.
من ناحية
عملية حقق الكفاح المسلح حتى ذلك الحين بعض أهم أهدافه: تحويل اللاجئين إلى مقاتلين،
وغسل عار النكبة بالثورة، وفرض القضية الفلسطينية على سلم أولويات العالم، وانتزاع
اعتراف عربي وعالمي بمنظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، وبالتالي
تكريس الهوية السياسية للشعب الفلسطيني لتكون النقيض المركزي والأهم للمشروع
الصهيوني..
في العام 1974
تبنت منظمة التحرير برنامج النقاط العشر، محدثة بذلك تحولا نوعيا في الفكر السياسي
ونهج المقاومة، مستبدلة هدف التحرير الكامل بهدف الاستقلال وإقامة الدولة المستقلة
وانتزاع حق تقرير المصير.
وفي العام
1982 مثّل الخروج من بيروت نقطة انعطاف تاريخية أُخرى في الفكر السياسي الفلسطيني
وتحديدا في نهج الكفاح المسلح، حيث بدأت فتح تتحول عنه تدريجيا إلى نهج المقاومة
الشعبية والنضال السياسي، دون أن تتخلى عنه رسميا، لكن ثقل النضال الفتحوي بدأ
يتركز في الأرض المحتلة في مجالات العمل الجماهيري والنقابي والإعلامي، والذي شكل
الأرضية لاندلاع الانتفاضة الشعبية الأولى 1987، والتي تعد أفضل شكل نضالي مارسه
الفلسطينيون حقق إنجازات بالغة الأهمية.
الخوض في
تحولات الفكر السياسي الفلسطيني يحتاج نقاشا مستفيضا، سنركز هنا على فكرة الكفاح
المسلح، الذي وصل أزمة تاريخية أخذت تستفحل أكثر فأكثر على مدى العقود الماضية، وعناوين
تلك الأزمة تمثلت في خروج الثورة من لبنان، وبالتالي فقدانها آخر نقطة ارتكاز،
وقبل ذلك وأثنائه كانت مشكلة انعدام الدعم اللوجستي (حصار دول الطوق)، وتشتت
البيئة الجماهيرية الحاضنة، ثم أتى انهيار
المنظومة الاشتراكية وهزيمة العراق (1991) وانقسام العالم العربي إثر حرب الخليج..
ما يعني فقدان الدعم العربي والعالمي (الهزيل أصلا)، والتحولات العميقة في بنية
النظام الدولي من ناحية استفراد أمريكا في العالم، وانتهاء الحرب الباردة، وأفول
حركات التحرر العالمية، وانحسارها، وبدء ما سمي "مكافحة الإرهاب"..
في الخلاصة
وصل الكفاح المسلح طريقا مسدودا، وبات غير مجدٍ سياسيا بقدر ما صار عبئا على
الجماهير..
هذه الحقيقة أدركتها فتح من تجربتها السابقة والطويلة، وأدركت أن خيار
الكفاح المسلح لم يعد ممكناً، ولا يستطيع الفلسطينيون مواصلته بالشكل السابق لأسباب
موضوعية وذاتية؛ فكان خيار أوسلو وقيام السلطة، بهدف التوصل إلى تسوية تفضي إلى
دولة مستقلة دون دماء، أو على الأقل بقدر معقول من التضحيات، مع العمل والتركيز
على هدف تثبيت الفلسطينيين على أرضهم، وبقائهم في وطنهم من خلال خلق أسباب ومقومات
الصمود المتمثلة في بناء المؤسسات والمشاريع التي تخدم المواطن الفلسطيني.
هذا المشروع الفلسطيني انقلب عليه اليمين الإسرائيلي مبكرا، وما زال يواصل
العمل على إفشاله، وإنهاء السلطة أو إضعافها بالحد الأدنى لأنها ترى فيه العدو
الحقيقي الذي تخشى أن يتحول إلى دولة مستقلة.
مشكلتنا الأزلية
كفلسطينيين ليس لدينا مشروع وطني شامل تـُجمع عليه كافة القوى والفصائل، وكل فصيل
لديه رؤيته ومشروعه المنفصل، وارتباطاته وتحالفاته الخارجية، وفوق هذا لا نـُجري
مراجعات نقدية لتجاربنا السابقة، ولا نتعلم منها.. لذا حصل الانقسام، وجاءت حماس
بمشروعها "المقاوم" بمعزل عن الإجماع الوطني، وببداية جديدة شكّلت قطيعة
عن المراحل السابقة، ولكن بالأساليب والأدوات التي تبين أنها غير مجدية، وبحاجة إلى
تبني أدوات وأساليب جديدة بناء على التجارب السابقة.. وأقصد خيار الكفاح المسلح
والذي تبنته بأشكال غير معهودة في تجارب حركات التحرر العالمية، والذي تمثل بإعلان
الحرب والمواجهة عبر تشكيلات مسلحة شبه نظامية طرحتها إعلاميا أمام العالم بصورة
جيش. فجاءت النتائج بالصورة التي رأيناها جميعا.
استبدال
الكفاح المسلح بأساليب أُخرى لا يعني إسقاط خيار المقاومة، أو الاستسلام والخنوع..
فالمقاومة الوطنية مفهوم شامل وواسع ومتعدد الخيارات والأدوات.. وعلينا إعمال عقولنا
بتبني الخيارات المناسبة التي لا تجر علينا المزيد من الانكسارات والمزيد من
التضحيات بلا طائل..
المهم أن نعي أن
التعلم من تجاربنا لا يعني أن شعبنا ميدان تجارب..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق