أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

فبراير 01، 2025

المقاومة بين زمنين

 

أشفق على الجيل الجديد من أبناء شعبنا، ليس من جهة صعوبات الواقع، وارتفاع تكاليف الحياة، ونسب البطالة وتقلص الفرص المتاحة.. وهي مواضيع مهمة لكنها تحتاج معالجات أخرى.. ما يثير حزني ما أشاهده لدى الشبان (15-30)، الذين يشكلون ثلث المجتمع؛ من حالة تيه وضياع وتشتت سواء من ناحية اجتماعية وثقافية ومعرفية، أو من ناحية وطنية.. 

لنركز هنا على الناحية الوطنية، ونحاول معرفة ماذا يريد هذا الجيل، وما هي توجهاته، ومعاييره، وأهدافه؟ وهل يمكن استشراف ولادة حركة وطنية جديدة شابة، تأتي على أنقاض القديمة؟ ولتبسيط الفكرة سنجري مقارنة بين الجيل الحالي والقديم..

تأثر الجيل القديم بما أحاط به من ظروف سياسية واقتصادية وثقافية، أبرزها النكبة واللجوء، والحرب الباردة وتداعياتها، وانتصار العديد من الثورات الشعبية العالمية (فيتنام، الجزائر، كوبا)، والمد اليساري العالمي، والقومي العربي، والخطاب الناصري، وظهور العديد من الأحزاب السياسية من مختلف الاتجاهات، والأهم: انطلاقة الثورة الفلسطينية..

تأثر أبناء ذلك الجيل بملهمين كبار؛ زعماء تاريخيين (عبد الناصر، جيفارا، غاندي، كاسترو، مانديلا..) وقادة فلسطينيين كبار (ياسر عرفات، خليل الوزير، جورج حبش..)، نضاليا: تأثروا بالعمليات الفدائية في الأرض المحتلة، والمواجهات العسكرية مع الاحتلال خاصة في لبنان، على المستوى الثقافي، تأثروا بقصائد محمود درويش وسميح القاسم، ولوحات إسماعيل شموط ورسومات ناجي العلي، وقصص غسان كنفاني، وروايات أميل حبيبي، وجبرا ابراهيم جبرا، وأغاني الفرقة المركزية والعاشقين ومارسيل خليفة وغيرهم، إلى جانب الدور الإيجابي الذي لعبته إذاعة الثورة، ومجلة "فلسطين الثورة"، و"الهدف" وغيرها.. مع حركة ثقافية وإعلامية نشطة، لعب فيها مركز الأبحاث الفلسطيني وغيره من مراكز الدراسات والبحوث دورا مهما، ليس في التحريض والتعبئة وحسب؛ بل وفي تقديم الرواية الفلسطينية بوجهها الحضاري. صحيح أن أثر هؤلاء ما زال باقيا، لكن تأثيره في الأجيال الجديدة أقل، وبعضهم لم يسمع بهم، وهذا بسبب عوامل عديدة.

أبناء الجيل الجديد ولدوا وعاشوا بعد توقيع اتفاقية أوسلو، وهذا يعني أنهم لا يحملون الكثير في ذاكرتهم القصيرة عن تجارب الانتفاضتين الأولى والثانية، ولا يعرفون إلا القليل عن فترة العمل الفدائي في الأردن ولبنان والمواجهات العسكرية مع الجيش الإسرائيلي ومعارك بيروت وغيرها. وقد تفتح وعيهم في مرحلة كانت الفصائل الفلسطينية (وفي مقدمتها حركتي فتح وحماس) قد أخذت تفقد الكثير من شعبيتها، ومن قدرتها التنظيمية وجاذبيتها على الاستقطاب، ولم تعد بنفس الدرجة من التأثير والفاعلية في الساحة الداخلية، ولم تعد تواكب التطورات المذهلة والمتسارعة التي تتبلور كل ساعة من حولها. كما كان اليسار الفلسطيني يعاني من أزمات ربما أشد، حتى فقد بريقه وقدرته على الاستقطاب.

نشأ هذا الجيل في ظل أوضاع سياسية مختلفة كليا عن المراحل السابقة، وقد تغيرت فيه المؤثرات السياسية التي كانت تفعل في المشهد السياسي العام، بل وفي بنية النظام الدولي، لدرجة يمكن القول أن بين الجيلين حدث نوع من القطع التاريخي، وتشكلت مرحلة تاريخية جديدة، منفصلة، لها خصائصها وسماتها المستقلة. ولا يقتصر القطع على البعد الزماني؛ حيث يمكن  ملاحظة مجتمعين منفصلين.

خلال العقدين الماضيين، عانى الشباب من التهميش والإهمال من قبل مؤسسات السلطة، ومن قبل الفصائل، والمجتمع المدني، فتولدت لديهم حالة من العزوف واللامبالاة تجاه المشاركة السياسية وفي الحياة العامة، وهناك جملة أسباب عمقت من هذه الحالة، أبرزها؛ غياب الأمل في التغيير بعد سلسلة من الإخفاقات والتراجع وانغلاق الأفق السياسي، وأيضا انعدام الرؤية الواضحة ليس من قبل الشباب أنفسهم وحسب؛ بل وأيضا من قبل القيادة والمؤسسات الرسمية والأهلية، وغياب البدائل المقنعة، إضافة إلى الإلحاح اليومي لتأمين متطلبات الحياة الأساسية.

هذه الأفكار خطرت ببالي قبل أيام، أثناء استماعي لأغنية "بلدنا هذي كلمتها بوجه الموت"، كلمات إبراهيم نصرالله وألحان كمال خليل، والتي ظهرت في أوج الانتفاضة الأولى، وسميت "نشيد الانتفاضة".. وتذكرت أغنية "نزلنا عالشوارع"" كلمات أسعد الأسعد وغناء وليد عبد ىالسلام.. وعشت أجواء وذكريات الانتفاضة.

كنا حينها في الجامعة، وكانت الانتفاضة العنوان الأبرز في الصحف وعلى الشاشات، وقد شكلت أهم حالة اشتباك يومي ومواجهة مباشرة مع الاحتلال انخرطت فيها كافة فئات الشعب.. كانت الهمة عالية، والمعنويات مرتفعة، مع أمل مفعم بجلاء الاحتلال ونيل الحرية.. لم يطالب أحد بوقف الانتفاضة، أو تخفيف وتيرتها، بل العكس، الجميع يدعو إلى التصعيد، ويفاخر بإطالتها وتطوير أساليبها..

أفرزت تلك الانتفاضة حالة وحدة وطنية فريدة ومتقدمة، وظهرت عشرات الأغاني الشعبية والفرق الفنية واللوحات المعبرة والصور والبوسترات والمهرجانات والعديد من أشكال التضامن والمساهمة الرمزية في الانتفاضة.. وكان تأثيرها أفضل بكثير وأكثر نجاعة من كل ما لدينا الآن من وسائل إعلامية متطورة ومنصات تواصل اجتماعي وفضائيات ومحللين وخبراء وإعلاميين.. كان خبر الانتفاضة في المحطات التلفزيونية قصيرا ومقتضبا لكنه كان كافيا لخلق صدى إعلامي وشعبي كبيرين..

وكما قال المرحوم فيصل الحسيني: لقد تمكنت الانتفاضة من تحييد سلاح الجو الإسرائيلي، وحرمت العدو من كل قدراته العسكرية الجبارة، فلم يستطع تحريك دباباته ولا أساطيله، وصار جنرالاته وجنوده أضحوكة للعالم بعد أن شاهدهم يطاردون الفتية في الحارات وفي الجبال.. وكانت خسائرنا ضمن قدرتنا على التحمل، ولم يتوقف إيقاع الحياة.. لقد قدمت الانتفاضة نموذجا رائعا في المقاومة الشعبية أبهر العالم، وجعله يتضامن مع القضية الفلسطينية، حتى أنها اخترقت المجتمع الإسرائيلي، وجعلته لأول مرة يدرك أنه يمثل دولة احتلال، وأن العالم يستنكر احتلاله وجرائمه..

اليوم، وفي ظل الحرب العدوانية الصورة مختلفة كثيرا.. رغم كثافة النيران، ومقتل مئات الجنود الغزاة، والبطولات الفردية لرجال المقاومة.. ورغم التضحيات الهائلة واستشهاد ما يزيد عن خمسين ألف فلسطيني، وجرح وإصابة ضعفهم، والتدمير المخيف الذي لحقت بالقطاع.. إلا أن الحالة الشعبية وتفاعلها مختلف..

منذ اليوم الثاني للعدوان، بدأنا جميعا نطالب بإيقاف الحرب بما في ذلك حماس.. ولم يشعر الغزيون أنهم في حالة حرب وطنية، بقدر ما شعروا أنهم يتعرضون للإبادة.. لم يعبئوا بكلمات الصمود والإشادة بثباتهم بقدر ما شعروا أنهم مرغمون على ذلك.. لقد طحنتهم الحرب، وجعلت حياتهم جحيماً، وقد صار جل همهم الوقوف في طوابير الذل، وانتظار كوبونة، والهرب من القصف، والنجاة من الموت على مدار الساعة، والبحث عن خيمة، أو كومة حطب، أو وجبة من تكية.. الشهيد الذي كان تُقام له جنازة مهيبة ملقى على قارعة الطريق وتنهش الكلاب لحمه.. لقد كانت حربا قذرة، مورست بكل خسة من قبل عدو متغطرس، حرب أكبر من طاقة أي شعب على تحملها..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق