أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أبريل 09، 2025

صناعة الرأي العام في الأردن


من يتابع وسائل الإعلام، خاصة منصات التواصل الاجتماعي سيلاحظ بسهولة أنَّ جميع الآراء المؤيدة لحماس بلا تحفظ تكاد تكون محصورة في أهلنا في الأردن.. يقابلها موقف رافض ومنتقد لأهلنا في غزة.. مع استثناءات في الأماكن الأخرى بين تأييد متحفظ أو انتقاد معين أو اختلافات في الرأي هنا وهناك..

قد يكون التفسير البسيط والأولي لهذه الظاهرة في المثل الشعبي: "اللي إيده في المي مش زي اللي إيده في النار"، ولكن بالغوص أكثر في الظاهرة سنجد تفسيرات أعمق وأدق..

لنبدأ في السؤال: لماذا في الأردن بالذات جميع المظاهرات التي خرجت كانت تأييدا "للمقاومة"، ونصرة لحماس؟ تحمل صور قادة حماس وتهتف لرموزها.. ولم نسمع هتافا ولم نشاهد يافطة تستشعر بآلام ومعاناة الغزيين، أو تشير إلى محنتهم الإنسانية، أو تدعو لإيقاف العدوان.. خلافا للتظاهرات العالمية التي كانت استنكارا لجرائم إسرائيل، مع دعوات لوقف الحرب وإدخال المساعدات، والتركيز على الجانب الإنساني للمأساة!

لماذا الرأي العام في الأردن يكاد يكون متفقا وبالإجماع على أن ما يحدث في غزة ليست حرب إبادة بل مقاومة ضد الاحتلال؟ وأن حماس هي التي تقود وتمثل هذه المقاومة، مع يقين لا يتسرب إليه الشك بأنَّ هذه المقاومة ستهزم إسرائيل في القريب العاجل، مع تقبل تام لفكرة فناء أهل غزة جميعهم مقابل انتصار حماس، ولا بأس بفناء أهل الضفة وتدميرها كما حدث في القطاع، وأنّ كل هذه الخسائر في الأرواح والبنية التحتية خسائر عادية ومقبولة، وأنَّ أهل غزة منذورون للحرب، ومستعدون للفداء، وسعداء بتضحيتهم بحياتهم وممتلكاتهم ومستقبلهم.. وأن من ينادي بوقف العدوان، أو ينتقد "المقاومة"، أو يشير إلى حجم الخسائر.. إما خائن أو مرجف!

طبعا، مثل هذه الآراء تحملها شرائح اجتماعية عديدة في معظم بلدان الدنيا (ليس في الأردن فقط)، لكن في كل البلدان والمجتمعات ستجد تبايناً في الآراء وتعدداً في وجهات النظر.. بينما في الأردن تكاد لا تسمع إلا صوتا واحداً، وأي صوت مخالف، سيكون خروجا عن الإجماع، سيتم نبذه ومقاطعته واتهامه بالعمالة والتطبيع والجبن..

ومن الواضح أن مجمل هذه الآراء والشعارات شعبوية، شكلت تيارا شعبويا هيمن على المجتمع بشكل يفوق سائر المجتمعات الأخرى.

وهذه ظاهرة غريبة وتستحق الدراسة، ولا أزعم أني أمتلك إجابات شافية.

بتحليل سمات وخصائص الشعارات والآراء التي يحملها النشطاء والمؤثرون في الشارع الأردني، سنجد أنها شعبوية وسطحية، وذات صبغة عاطفية، متأثرة بإرث حقبة الستينيات وشعاراتها، وبالخطاب الديني الغيبي بل ومبنية عليه، وتعتمد على الحمولة الوجدانية والعاطفية المتقدة للشعب الأردني تجاه فلسطين والمقدسات ومشاعر العداء ضد الاحتلال..

وبغض النظر عن إمكانية تفنيد العديد من تلك الشعارات بقليل من التعقل والتفكير، ما يعنينا هنا محاولة فهم كيفية نشأتها، وجذورها التاريخية والسياقات السياسية والاجتماعية التي أحاطت بظروف تشكلها..

إذا اعتبرنا أن الكتلة السكانية الأكبر تتركز في العاصمة والمدن القريبة منها، سيكون مفيدا لفهم الظاهرة دراسة تطورها السيسيولوجي، ولأن نطاق المقال لا يحتمل التوسع سأكتفي بالإشارة إلى أن تلك المدن طرأ عليها تغير ديمغرافي كبير بعد النكبة 1948، بسبب تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين، الذين حملوا الجنسية الأردنية، وصاروا جزءا طبيعيا من التركيبة السكانية، التي ضمت أيضا مجموعات سكانية من منابت وأصول مختلفة، شكلت معاً ما بات يُعرف بالمجتمع الأردني والهوية الأردنية.

التغييرات الأخرى (وهي مهمة أيضا) حدثت خلال العقود الخمسة الأخيرة؛ بعد الحرب الأهلية اللبنانية، وبعد حرب الخليج الأولى والثانية، وبعد ثورات الربيع العربي، حيث تدفقت أعداد كبيرة من جنسيات مختلفة، وعودة نسبة من المغتربين، الأمر الذي ظل يغير من الطبيعة الديمغرافية، ومن الطابع المعماري والمديني والمجتمعي لتلك المدن، بحيث نمت وتطورت بصورة عشوائية وعلى شكل قفزات لا تتناسب مع التطور الثقافي العادي كما يحدث في سائر المجتمعات.. لأنها لم تكن مهيأة لامتصاص واستيعاب تلك التطورات. دون أن نغفل عن حقيقة ضعف السياق الثقافي المدني أصلا لعمّان مقارنة مع عواصم عريقة مثل بغداد ودمشق والقاهرة وغيرها من الحواضر العربية..

وهذه المدن نمت في ظل أزمات اقتصادية متتالية (أو هي أزمة اقتصادية مزمنة) نجم عنها بطالة وفقر ومناطق مهمشة وما يشبه العشوائيات، أدت إلى استشراء ظواهر سلبية مثل أعمال النصب والاحتيال، والتحايل على المجتمع والنظام، وظهور عصابات ومجموعات خارجة على القانون.. وهذه الحالات ظلت ظواهر معزولة ومحدودة ومنبوذة، وعلى هامش المجتمع. لكن الظاهرة الأخطر والأشمل كانت ظاهرتي التدين الشكلي، والتطرف؛ وهما نتاج الأزمة الاقتصادية ومناخات القمع والاستبداد ومظاهر الفساد وضعف العدالة الاجتماعية.. وأي مجتمع يختبر تلك الظروف سيتشكل لديه عقل جمعي شبه مغلق، تحفز نزعاته البدائية، وتثير فيه مشاعر الخوف والقلق، فيبدأ البحث عن خلاص متوهم يخفف من حدة الأزمة، ويريح الناس بشعارات غيبية فضفاضة منفصلة عن الواقع، ومثل هكذا مجتمع يفتقر للتفكير النقدي الحر، ويقمع أي استقلالية في الأفكار والتوجهات لدى الأفراد، وسيعتبرهم خارجون عن الإجماع (خروج عن ثقافة القطيع).

بصورة عامة، تلعب الأحداث والصراعات دورا أساسيا في تشكيل وعي المجتمع، وإنضاجه وتطويره، فبعد أن يتعرض للضغط المباشر ويعاني من أهوال الحروب ومن صدماتها يغدو تفكيره أكثر واقعية وعقلانية.. ولحسن الحظ لم يتعرض المجتمع الأردني لحرب أهلية، ولم يخضع لاحتلال مباشر ولا لحصار مطبق، ولم يخض حربا حقيقية، وظل ينعم بالأمن، وأحيانا يستفيد من الأزمات والحروب التي نشبت في كافة الدول المحيطة به.

في حقبتي الخمسينيات والستينيات شهدت الساحة الأردنية ظهور ثلاث تيارات سياسية؛ الإسلامية، والقومية، واليسارية، وقد نشطت أحزابها بشكل كبير واستقطبت أعدادا لا بأس بها من الناس.. ورغم أفول نجمها وتراجع شعبيتها إلا أنها ظلت حاضرة ومؤثرة بأيديولوجيتها وخطابها وشعاراتها، لدرجة أن المظاهرات ظلت تردد الشعارات القديمة ذاتها بعد كل تلك العقود، وبالرغم من كل التغييرات العميقة التي ضرب المنطقة والعالم.

بالإضافة لأثر الأيديولوجيات التقليدية، ثمة مؤثر آخر ما زال حاضرا ومؤثرا، وهو مناخ عقود من الأحكام العرفية واستبداد المخابرات، فرغم التحول الديمقراطي والحياة الحزبية والانتخابات وأجواء الحرية التي يعيشها الأردن الآن، ما زالت العقلية الأمنية حاضرة ولو بصورة كامنة في اللاوعي، سواء لدى الجماهير والأفراد، أو في المؤسسات والأحزاب.

العامل الآخر، وربما الأهم، الذي ساهم في صياغة الرأي العام الأردني هو الإعلام.. سنوات طويلة ظل الأردنيون خاضعون تماما للإعلام الرسمي، إلى جانب الإعلام المجتمعي الذي ظل محتكرا بيد جماعة الإخوان المسلمين، سواء بالصحف والمجلات (التي كانت تطبع في مصر والكويت)، أو بمنابر المساجد ودور القرآن والجمعيات الخيرية والمؤسسات التابعة للجماعة، كان الإعلام الإخواني نشطا ومؤثرا بصورة عميقة لدرجة يمكن القول بأن العقل الجمعي الأردني تمت صياغته على يد الإخوان، خاصة إذا أضفنا إلى ماسبق هيمنة الإخوان على وزارة التربية لعقود طويلة، وإشرافها على المنهاج التعليمي، كل هذا دون منافس، فكل الأصوات والأحزاب والتيارات الأخرى كانت مقيدة ومقموعة، أو ظلت هامشية ونخبوية.

وفي الموضوع الذي نتناوله هنا، يمكن إضافة تأثير قناة الجزيرة، والتي هي الأداة الإعلامية الأهم لجماعة الإخوان، والأكثر شعبية في متابعة ما يجري في غزة من حرب إبادة وتهجير.. وقد تابعت الجزيرة كل ما بدأه إعلام الإخوان منذ نشأتهم، ولكن بأدوات وتقنيات أحدث وأكثر تأثيرا..

وما يجدر ذكره هنا أن النظام السياسي الأردني وجماعة الإخوان ظلا في حالة تعايش وتناغم وتخادم وتبادل مصالح منذ أربعينيات القرن الماضي، وحتى اللحظة. (كما هي الحالة مع قطر الآن).

هذا التعايش أو التخادم استفاد من الطرفان: استفادت الدولة حيث لجأت للجماعة كحليف إستراتيجي في مواجهة الأزمات السياسية والاقتصادية التي ألـمّت بالبلد طوال العقود الماضية (لا تنخدع بالخلافات الشكلية بين الطرفين)، حيث كانت الجماعة تخلق الرأي العام الموالي أو المحايد، أو تصرفه باتجاه قضايا أخرى (بعضها مهم، وبعضها غير مهم)، المهم هو امتصاص نقمة الشارع وحرف البوصلة عن القضايا الأهم (الحرية، العدالة، المشاركة السياسية، الكرامة الوطنية، حقوق المواطَنة..).. أما الجماعة فكانت تستفيد بكسب المزيد من الشعبية والحضور السياسي، والفوز في الانتخابات..

ومن أبرز تجليات ظاهرة "الإسلام السياسي" وخطابه، ظاهرة "التدين الحزبي"، والتي تؤثر على المجتمع بظهور "التدين الشكلي"؛ والتدين الشكلي يزدهر عادة في المجتمعات الضعيفة، التي تحكمها نظم استبدادية، وفي بيئات الفقر والجهل، حيث البطالة والشعور بالتهميش والدونية والقهر العجز عن المواجهة.. وهنا يبدأ عمل أحزاب الإسلام السياسي، التي ستستغل تلك البيئة لاستخدام الدين كأداة سلطوية لإعادة هندسة المجتمع، والتحكم بالأفراد، وكورقة ضغط في الصراعات السياسية، ووسيلة للظفر بالسلطة.. وتدريجيا يصبح التدين عند الكثيرين عبارة عن طقوس اجتماعية، أو عادات فردية، دون التزام حقيقي بجوهره ومضامينه، والاكتفاء بالمظاهر الخارجية.

وعند وصول الفرد والمجتمع إلى "التدين الشكلي"، ستحدث تغيرات نفسية ومسلكية وتمظهرات اجتماعية عديدة، أبرزها: تقديم الفرد تنازلات شخصية للمجتمع، مثل تقييد حريته الشخصية للتكيف مع المجتمع (المتدين) من حوله، وبالتالي تقييد حرية تفكيره، أو إلغائه عقله، ولا أقصد هنا التسليم بالغيبيات، بل المقصود تأجير عقله لرجل الدين (وفي الحالة التي نتحدث عنها سيؤجر عقله للخطباء والمؤثرين والإعلاميين)، الذين سيفكرون عنه، وفي المحصلة سيتحول من إنسان حر، محلق، مبدع إلى سجين للجماعة، أو للسلطة السياسية التي تسيره بصفته عضوا فيها (الجماعة، أو الطائفة، أو الحزب)،  ليفقد فردانيته وخصوصيته وتميزه لصالح الجماعة والمجتمع والسلطة، أي بعبارة أخرى تحوله من فرد حر مفكر إلى شخص منقاد، وجزء من قطيع.

والتدين الشكلي يفرز الحالات المتطرفة والمتزمتة والمتعصبة، لأن التشدد سيكون الأداة التعويضية عن الشعور بالدونية والعجز والقهر المسلط على المواطن من قبل الدولة والمجتمع. التشدد والتزمت يمنح الشخص الضعيف والمهزوز والمهزوم والمقهور شعورا طاغيا بالقوة، وتعوضه عن كل مركبات النقص التي يعاني منها.

 وإلى جانب التعصب والتشدد وتعبيرا عنهما سيلجأ هذا المواطن المقهور إلى الطائفة (ولأن الأردن لم يعرف الطائفية كما عرفتها دول الجوار) كان اللجوء إلى العشيرة.. لكن العشيرة قد تجد له حلا لمشاكل معينة، وتعوضه عن قدر معين من القهر، وتوفر له قدرا من الأمان.. لكنها ستعجز عن توفير أهم ما ينقصه: الشعور بالعزة والكرامة الوطنية والقومية.. فالعشيرة والمجتمع والدولة ومجموع الدول العربية عاجزة عن مواجهة إسرائيل، ومهزومة تاريخيا وحضاريا، وعاجزة عن تحقيق أي نصر ولو كان بسيطا.. ومن هنا صار الحل الأمثل إيجاد بقعة ما توفر له هذا الشعور، وتمنحه حالة من النشوة والعزة (حتى لو كانت متخيلة)، وهذا المكان كان بالصدفة قطاع غزة. كما كان قبلها عراق صدام حسين في حربه مع الغرب الاستعماري. وكما كان قبلها عبد الناصر، أو بعده حسن نصر الله، وأي زعيم أو حالة تمارس المواجهة وتخوض المقاومة بالنيابة عن جماهير الأمة العاجزة والمقموعة والغارقة في همومها الخاصة.

لذلك، كان من البديهي تأييد الحالة التي تمثلها غزة، طالما أنها تعوض الشعور بالهزيمة والقهر، وتمنح ذلك الشعور بالكرامة، ويجب ألا تتوقف هذه الحالة، حتى لو أبيدت غزة عن بكرة أبيها!

وهكذا لم يعد "التدين الشكلي" مجرد وسيلة الأفراد للتحايل على الذات وعلى الآخرين، بل صار أداة تعويضية تعفيهم من عذاب الضمير، ومن الشعور بالعجز، وتمنحهم شعورا متخيلا بالنصر والكرامة..

والتحليل السابق لا يخص الأردن فقط، ولا "الإخوان المسلمين" وحدهم، بل أجده ينطبق أيضا على أحزاب اليسار والحركات القومية والليبرالية التي أيضا تعرضت لهزيمة وانتكست وعجزت عن تحقيق أهدافها، وأصابها التكلس والخواء، ووجدت فيما يحدث في غزة أداة تعويضية عن هزيمتها وعجزها..

فمن الظواهر اللافتة للنظر تماهي أحزاب يسارية ونخب مثقفة علمانية تقدمية وليبرالية وكوادر متقدمة في فتح مع ثقافة الإسلام السياسي بشقيه (السُـنّي والشيعي) تحت شعار دعم وتبني "المقاومة". لم يكن هذا التماهي واضحاً قبل سنوات، وربما كان مختبئا ومواربا، لكنه بعد هجمات 7 أكتوبر بات واضحا ومثيرا للتعجب، حيث ينبري قادة يساريون وأساتذة جامعات وكتّاب وصحافيون وحتى نخب رأسمالية ليبرالية للدفاع عن أطروحات حركات الإسلام السياسي (المتناقضة مع قيم التقدمية واليسار والعدالة الاجتماعية والحريات والحقوق الفردية وقضايا المرأة والمجتمع والوطنية والمواطنة..)، والدفاع عن سياساتها وقراراتها المغامرة (التي تتجاهل المعادلات السياسية القائمة، وموازين القوى، ولا تقيم وزنا للخسائر البشرية وتضحيات الشعب وحجم الدمار).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق