احتار
الناس بشأن كيفية بناء الأهرامات، ومن بين النظريات لتفسير تلك المعجزة، أنَّ من
بناها أناسٌ ذوو بأسٍ شديد، طوال القامة، لدرجة أن الرجل الواحد (أو بضعة رجال)
لديهم مقدرة على رفع حجارة الهرم، وتصفيفها على النحو الذي نراه اليوم، علما أن
عدد حجارة الهرم الواحد حوالي المليون حجر، ووزن كل حجر يبلغ 2 طن! وإذا تخلينا الصورة
يعني أن طول الشخص ينبغي أن يزيد عن العشرة أمتار، وأن وزنه سيتجاوز وزن الإنسان
العادي بعشرات الأضعاف!!
وفي
رواية شعبية مأثورة أنَّ طول آدم أبو البشر كان ستون ذراعا (27 متر)، وعرضه 25
ذراعا.. ما يعني أننا نتحدث عن عمارة سكنية مكونة من عشرة طوابق.. فأي كهف سيأويه؟
وأي هيكل عظمي يستطيع حمل هذا الوزن الضخم؟ وكم سيبلغ حجم القلب الذي سيضخ الدم في
هذا الجسد المترامي الأطراف؟ وما هو مقدار الطاقة التي سيحتاجها؟ في هذه الحالة
نستطيع تخيل حجم معدته بما يعادل حجم مطبخ مفتوح على الصالون! فأي كمية طعام ستملأ
هذه المعدة الهائلة ثلاث مرات يوميا!! ونستطيع تخيل مشيته وهو يدوس على الأشجار
كما لو أنها حشائش! وتخيله وهو يصطاد الغزلان بالتقاطها بيديه.. وهكذا..
طبعا،
أي عالم (أو حتى مبتدئ) في الطب أو في
البيولوجيا أو الإنثروبولوجيا لا بد وأن يسخر من هذا الطرح.. ومن ناحية ثانية،
جميع الآثار الأركيولوجية تؤكد بالأدلة القاطعة أن جميع مكتشفات هياكل وجماجم
وعظام الإنسان منذ أقدم العصور جميعها كانت تساوي أو أقصر من قامة الإنسان الحديث..
وكذلك مدافنهم، وكهوفهم، وبيوتهم كانت مشابهة لبيوتنا الحالية من حيث الحجم،
والمقارنة نفسها تصلح للأدوات المستخدمة. أما صورة هيكل العملاق الهائل فهي مفبركة،
ولا تنطلي إلا على السذج..
وحسب
ما يقدمه علم الأركيولوجيا، فإن أقدم هيكل عظمي شبه كامل عُثر عليه في أثيوبيا
لسيدة (أطلقوا عليها اسم الجدة لوسي) تعود إلى 3.2 مليون سنة.. وطولها بحدود المتر
ونصف.. وفي الهضبة الإفريقية، والتي يؤكد العلماء أنها مهد البشرية الأول، عثر
العلماء على آلاف الهياكل والعظام البشرية، أقدمها لا يتجاوز عمره ال200 ألف سنة.
وجميعها أصغر من حجم الإنسان الحالي بقليل.
وجميع
الحفريات والآثار المكتشفة لهياكل بشرية والتي عثر عليها في كافة أرجاء العالم
(بما فيها جماجم إنسان نيانتردال) جميعها تنتمي لأزمنة أقدمها بحدود ال200 ألف
سنة.. ما يعني أن عمر الجنس البشري الحديث (الهوموسابينس) لا يتجاوز ال200 ألف
سنة، وأنه منذ ذلك التاريخ قد أخذ شكله الحالي؛ من حيث طول القامة، وبنية الجسد،
تركيبته الفسيولوجية، وحجم جمجمته، ووزن دماغه..
العالم "جاكوب برونوفسكي"
في كتابه "التطور الحضاري للإنسان" يُقسم تاريخ الإنسان إلى قسمين
منفصلين: تاريخه البيولوجي، وفيه سرد للخطوات التي سارتها الرئيسيات العليا حتى
انتهت بالإنسان. وتاريخه الحضاري، وفيه قصة ارتقائه من قبائل للصيد وجمع الثمار
إلى صانع للحواسيب وصواريخ الفضاء. القسم الأول تطلب نحو 30 مليون عام ليصل إلى أشباه الإنسان، وسبعة ملايين عام لتتطور خلالها أشباه
البشر إلى بشر.. ثم إلى جنس "هوموسابينس" في المائتي ألف سنة الأخيرة.
القسم الثاني تضمن حكاية الإنسان
الحديث، التي بدأت خلال ال 60.000 سنة الأخيرة، وتمثل قصة حضارته ما يعادل عُشر عمره قبل التحضر (إذا اعتبرنا أن عمر التحضر الإنساني والذي بدأ في العصر
الحجري النحاسي بحدود الستة آلاف عام)؛ فالبشر قبل نحو عشرين ألف عام مثلا لم
يكونوا أكثر من مجموعات هائمة في البراري تبحث عن طعامها، لا تعرف سوى صنع الأدوات
الحجرية، وتعقُّب قطعان الحيوانات لصيدها، كما تفعل بعض القبائل البدائية الآن في
مجاهل الأمازون أو في أعماق الغابات الاستوائية، مع بعض الفروقات البسيطة. (إسحق عظيموف، قصة نشوء الإنسان).
مع أن مكتشفات أثرية عديدة تشير إلى
وجود حواضر عمرانية تعود إلى عشرة آلاف سنة ق.م، منها مثلا "تل الكرش"،
في جنوب تركيا، وعمرها 12 ألف سنة، "وتل أريحا"، وعمرها بحدود عشرة آلاف
سنة، دون أن ننسى رسومات فنية بدائية لحيوانات على جدران الكهوف أكتشفت في فرنسا
وليبيا وغيرها تعود لثلاثين ألف سنة خلت، تدل على نزعة روحانية طوطمية.. بيد أن
تلك المكتشفات ليست لحضارات ودول؛ بل لتجمعات بشرية صغيرة.. تلك التجمعات بدأت بعد
انحسار العصر الجليدي الأخير (أي قبل نحو 12 ألف سنة)، واحتاجت تلك الجماعات
البشرية التي كانت تعيش حياة التنقل آلاف السنين حتى تكتشف الزراعة وتبدأ حياة
الاستقرار.
الحضارات الحقيقية بدأت على ضفاف
الأنهار وخاصة في منطقة الهلال الخصيب، مع توسعته قليلا ليشمل أجزاء من إيران
وتركيا ومصر، (وأيضا على ضفاف أنهار الهند والصين) حيث كان النهر يوحد الأنماط
المعيشية للساكنين على ضفافه (أنماط الزراعة، وأدوات ووسائل الإنتاج، بما يسمح
بنشوء ثقافة متشابهة) ما هيأ المجال لتكون الدول المركزية، وكانت مصر أول دولة
مركزية في التاريخ، بينما مثلت الحضارة السومرية أقدم حضارة بشرية بدأت قبل
المصرية بنحو قرنين.
وكل الآثار العمرانية العظيمة (وحتى
البسيطة) تنتمي إلى عصور ما بعد التاريخ (أي ما بعد الألف الثالثة قبل الميلاد)،
مثلا الأهرامات بنيت قبل أربعة آلاف سنة ونيف، سور الصين العظيم، والبتراء قبل نحو
ألفي سنة، حدائق بابل قبل 2500 سنة.. وهذه تعتبر أقدم وأهم الآثار المكتشفة.
الحضارات الصينية والهندية وحضارات
وادي الرافدين ووادي النيل وحضارات أمريكا اللاتينية أقدمها لا تتجاوز الخمسة إلى
ستة آلاف سنة.. قبل ذلك، أي قبل اكتشاف الزراعة لم تكن حضارة.
في المسار الديني، ظلت الجماعات
البشرية تؤمن بالسحرة، لتفسير ظواهر الطبيعة حتى العصر النحاسي، وبعدها ظهرت
الآلهة المؤنثة (العصر المتريركي/ الأمومة)، ثم الآلهة المذكرة التعددية (العصر
البطريركي) في الديانات السومرية والفرعونية والكنعانية (أول ديانات أصلية)، ثم
الديانات الإبراهيمية التوحيدية، والتي بدأت بإبراهيم (1850 ق.م) في العصر
البرونزي، مرورا باليهودية في القرن الخامس ق.م، ثم المسيحية بعد خمسة قرون،
وانتهاء بخاتم النبيين محمد في القرن السادس الميلادي.
تلك محطات سريعة مثبتة بأدوات العلم،
من الضروري معرفتها لنفهم ماضينا، ونصنع مستقبلنا، بمنهج علمي تاريخي بعيدا عن
الخرافات والأساطير..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق