المعنى
الحرفي لمصطلح "بيروقراطية" هو حكم المكاتب، وفي علم الاجتماع والعلوم
السياسية تعني تطبيق القوانين بالقوة في المجتمعات المنظمة والمستقرة، بالاعتماد
على الأنظمة واللوائح عبر سلسلة من الإجراءات الموحدة، بشكل يحقق توزيع المسؤوليات
والصلاحيات. وتعتمد المؤسسات بقطاعيها العام والخاص على البيروقراطية، بحيث تساعد
على ضمان أن يعمل الآلاف من الناس معاً بطريقة فعالة، بمعزل عن الطابع الشخصي..
لكن البيروقراطية سلاح ذو حدين؛ لذلك تحولت في الذهنية الشعبية إلى "الروتين
الممل والإجراءات المعقدة غير الضرورية، التي تؤخر المعاملات وتعقدها دون فائدة"..
فنشأ مصطلح مقابل لها هو "البيروباثولوجيا"؛ وهي في أبسط معانيها: "إساءة
استخدام البيروقراطية، من خلال التصرفات السلبية والمعيقة التي تتعلق بالموظفين
أنفسهم، حينما يفهمون البيروقراطية بطريقة خاطئة وتعسفية، لا تدرك المفهوم الحقيقي
والهدف الذكي للبيروقراطية.
والبيروباثولوجيا
هي النتائج السلبية والمشاكل الناجمة عن التطبيق غير العقلاني للبيروقراطية، بسبب الضوابط
المبالغ فيها، التي تسبب شلل المؤسسة، وعدم قدرتها على التطور والتغيير، وانعدام
قدرة الأفراد داخل البيروقراطيات على التعامل مع الأحداث غير المتوقعة، فتتحول
الإجراءات التنظيمية بدلا من كونها وسيلة لتحقيق غاية، إلى غاية بحد ذاتها،
وظيفتها تكريس الأدوار الموجودة.
تقريبا،
جميع المجتمعات في العالم تعاني من البيروقراطية (أو من البيروباثولوجيا بمعنى أدق)، ولكن في دول العالم الثالث المعاناة أكبر بكثير.. والمسألة
شديدة الوضوح، وأي مواطن يحتاج معاملة مع دائرة أو مؤسسة حكومية (أو خاصة) سيعاني
من وطأة البيروقراطية، ولديه عشرات الأمثلة:
مثلاً؛
إذا أراد مغترب ضم ابنه المولود حديثا إلى هويته، عليه أولاً إحضار عقد زواج أصلي،
ثم تصديقه من قاضي القضاة في الدولة التي يقيم فيها، ثم تصديقه من السفارة
الفلسطينية هناك، وعند دخوله الوطن، مطلوب منه تصديق العقد عند الخارجية، ثم عند
المحكمة الشرعية، ثم تقديمه للداخلية لينتظر أياما قبل إتمام معاملته.. وعند تتبع
هذا التسلسل، سنجد أن هذه الخطوات لا لزوم لها، فمن المفترض أن السلطة تعترف بتلك
الدولة، وبالتالي من المفترض الاكتفاء بالأوراق الثبوتية الأصلية الصادرة عن مؤسسة
رسمية من تلك الدولة، فلماذا قاضي القضاة، والسفارة الفلسطينية!! وفوق ذلك، طالما
أن العقد مصدق من كل ما سبق، فلماذا الخارجية والمحكمة الشرعية! هل هذه زيادة في
التحقق، أم إجراءات زائدة، كل ما تفعله مزيدا من التأخير والمصاريف والأختام!
مسألة
تصديق الأوراق والشهادات معقدة أكثر من اللازم، في كل المؤسسات التي تطلب تصديق،
والمشكلة أن الجهات التي ستصادق عليها موزعة في شتى أرجاء المدينة، ما يزيد من
التأخير والتكلفة وهدر الوقت، خاصة عندما يتغيب المدير، أو الموظف المخول، ولا يتم
توفير نائبا له.
ربما
تكون وزارتي الصحة والتربية والتعليم الأكثر تشددا في البيروقراطية، لأسباب لها
علاقة بالعدد الكبير لموظفيها، وحجم العمل المطلوب منهما.. وهذا التشدد يؤدي
أحيانا إلى إعاقة نمو العمل، وخنق المبادرات الفردية، وتعطيل الكثير من الفرص،
فمدير المدرسة مثلا لا يستطيع تنفيذ أي نشاط مهما كان صغيرا، قبل أخذ سلسلة من الموافقات،
غالبا ما تتأخر.
المحاكم
بأنواعها لديها بيروقراطية شديدة التعقيد، والمعاملات تحتاج أسابيع وأشهر قبل أن تنجز..
مثال
آخر، عندما يتقاعد موظف، سينتظر ثلاثة أشهر على الأقل قبل أن يستلم راتبه
التقاعدي، علما بأن ملف الموظف كاملا موجود لدى وزارته، ونسخة كاملة موجودة لدى
ديوان الموظفين، وأخرى لدى وزارة المالية، وبالتالي من المفترض بكبسة زر يتحول راتبه
إلى نظام التقاعد، فلماذا هذا التأخير؟
ومن
أمثلة سوء تطبيق البيروقراطية عندما تملأ نموذج معين ستجد خانة رقم الهوية مثلا
بالكاد تتسع لثلاث خانات، أو إذا طلب تعبئة الإيميل ستجد المكان المخصص لا يتسع
لكلمة واحدة، وأحيانا تجد في خانة التاريخ الرقم 19- ما يعني أن النموذج
لم يتم تحديثه منذ عقدين! فهل تصميم نموذج يتطلب عبقرية، أم مجرد انتباهة ذكية من
قبل المصمم؟
وأيضاً؛
يحتاج المواطن لساعة على الأقل لإنجاز أي معاملة بنكية، أحيانا لا يوجد في فرع
البنك سوى "تلر" واحد أو اثنين لخدمة الجمهور، وأحيانا يكون العدد أكبر،
لكن الوضع لا يتغير، لأن الموظفين مشغولون بأمور داخلية، فلماذا لا يوظف البنك عددا
إضافيا لتسريع خدمة الجمهور، علما بأن البنوك تجني أرباحا بالملايين؟
الدول
الحديثة بدأت تتبنى نظما متطورة لتقنين البيروقراطية وترشيدها؛ مثل الحكومة
الإلكترونية، واستخدام تقنيات الإنترنت وشبكات التواصل في إنجاز المعاملات (المشكلة
أن فلسطين تحتل المركز 169 عالمياً ضمن مؤشر سرعة الإنترنت)، أو النافذة الموحدة
التي تجمع كل الجهات ذات العلاقة في مكان واحد، واستخدام برامج حاسوب متخصصة لتكون
بديلا عن الأوراق، وعن الأرشيف الذي تتكدس فيه مئات الملفات. أو اعتماد اللامركزية
ومنح صلاحيات كاملة للفروع، أو تبني نظام "كايزن"، أي إلغاء كل الخطوات
غير الضرورية، واختصار بعضها، ووضع الخطوات الضرورية في إطار موحد وسريع. فلو طبقنا
هذا النظام لتخلصنا من آلاف الوظائف الوهمية، أو تحويل آلاف الموظفين إلى دوائر
أخرى تحتاج بشدة إلى كوادر إضافية (مثل مفتشو الرقابة والتفتيش في حماية المستهلك،
والتنمية الصناعية، وفي الضابطة الجمركية، والمرشدين الزراعيين، ومراقبي البيئة،
والصحة العامة، وغيرها).
الصين
شيدت مستشفى ضخم بكافة تجهيزاته خلال عشرة أيام، مثل هكذا مشروع يعتبر في بلادنا
مشروعا قوميا ينفذ لمرة واحدة، ويحتاج عشرات السنين، من الدراسات، والمخططات، واللجان،
والاجتماعات، وتجنيد أموال، والمناقصات، والإعلانات، وحضور الرئيس حفل افتتاح حجر
الأساس.. صحيح أن الصين أنجزت ذلك في ظرف طارئ، وبإمكانات خارقة لا تتوفر عندنا،
لكن جوهر القضية هو تجاوز الشكليات البيروقراطية لتحقيق إنجاز أهم.
الصورة
ليست قاتمة تماما، فلدينا استثناءات ممتازة، ينبغي الإشادة بها؛ مثلا إنجاز جواز
السفر، أو استصدار شهادة ميلاد، أو تجديد رخصة القيادة يستغرق أقل من ساعة، بلدية
رام الله لديها نظام بيروقراطي سريع ومتطور.. والأهم أن البيروقراطية في السلطة
(رغم سلبياتها) لم تصل إلى حد بروز ظواهر الفساد مثل الرشاوى، أو كما هو منتشر في
دول أخرى عديدة.
ليس
المطلوب إلغاء البيروقراطية، المطلوب فهم روح القانون، والهدف من الإجراء، والغاية
من عمل المؤسسة، في هذه الحالة سنستغني عن الكثير من الإجراءات غير اللازمة، وسنختصر
وقت وجهد المواطن.
المجتمعات
تتطور بالإنسان، لا بالشكليات..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق