أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

مايو 13، 2019

اعتذار عائض القرني



إذا كانت تصريحات عائض القرني واعتذاره للشعب السعودي عن أخطائه السابقة هي توبة من ناحية دينية، فليس لأي منا الحق في قبول توبته أو رفضها، فهذا شأن رب العالمين.. إما إن كان اعتذاره موجها للناس عن أفكاره السابقة، التي حسب قوله أضرت الشباب المسلم.. فلنا هنا كلام كثير..

مبدئيا، من حق أي داعية أو مفكر أو فيلسوف التراجع عن أفكار سابقة، أو تغييرها، أو تطويرها، أو حتى الانتقال إلى فكر جديد، مختلف ومناقض لما كان عليه.. بل إنّ هذا شيء حسن، ودليل شجاعة ونضج فكري، وهي مسألة شخصية، من صميم اختيار الإنسان الحر.. ولدينا عشرات الأمثلة لمفكرين كبار بدلوا أفكارهم، وأجروا مراجعات جريئة لفلسفاتهم ومعتقداتهم، ومنهم من تحول من دين إلى آخر.. على سبيل المثال: روجيه غارودي، ومنير شفيق، وناجي علوش، وحسن الترابي، وراشد الغنوشي.. لكن مشكلة هؤلاء الذين يتنقلون من فكر إلى آخر، أنهم في كل مرة يصرون وبتعصب، على أن فكرهم يمثل الحقيقة المطلقة.. وأنهم على الجانب الصائب دائما، بيقينية أحسدهم عليها..

المثقف الجيد والحقيقي هو المثقف القلق، الذي يشك حتى في أفكاره، ويبحث دوما عن الحقيقة، بمنهاج محايد، دون تعصب.. وحين يؤمن بفكرة ما، أو بعقيدة معينة يظل إيمانه بها نسبيا، باعتبارها تحتمل الصواب والخطأ.. وحتى لو اطمئن قلبه إليها، سيظل عقله قلقا..

نرجع إلى عائض القرني؛ أشهر الدعاة السلفيين، وأحد رموز فتاوى التطرف في السعودية، وأبرز منظري الوهابية..

اعتذر القرني عن الأخطاء التي بدرت منه خلال فترة نشاطه ضمن "تيار الصحوة"، وعن التشدد والتعصب، وبعض الفتاوى التي اعتبرها مخالفة للقرآن والسنة.. إلى هنا كل شيء تمام، ولكن، هل سيعتذر عن السنوات التي أضاعها دون أن يختبر سماحة الإسلام الوسطي، المعتدل؟ هل سيعتذر للأجيال التي تربت على أفكاره، فحرمها من كل ما هو جميل؟ هل سيعتذر لأصحاب المواهب ممن حـرَّم عليهم الفنون بأنواعها؟ هل سيعتذر عن تحريمه الغناء، والتمثيل، والموسيقى، والنحت، والتصوير؟ هل سيتعذر للنساء اللواتي حـرَّم عليهن قيادة السيارة عقودا طويلة؟ هل سيعتذر للسعوديات عن قوانين الأحوال الشخصية التي كبلتهن بالقهر والتمييز، وجعلت منهن مواطنات درجة ثالثة؟ تحت دعاوى شرعية باطلة؟ هل سيعتذر عن تحريمه الحفلات والفرح والأجواء البهيجة؟ هل سيعتذر (هو والعديد من أقرانه) عن الكثير من الفتاوى الغريبة والمستهجنة والتي لم تكن تتفق مع المنطق والعقل والذوق الإنساني، ولا مع صحيح الإسلام؟ هل سيعترف صراحة بأن كل تلك التحريمات ليست من الإسلام بشيء، وإنما هي نتاج الفكر الوهابي الصحراوي المتزمت؟

هل سيعتذر للشباب العربي الذين أرسلهم للموت في أفغانستان، وسورية، والعراق والشيشان؟ هل سيعتذر لهم لأن المجاهدين الأفغان الذين كان يمدحهم جاءت طالبان فكفرتهم؟ أم لأن جهادهم كان لصالح الأمريكان؟ بعد أن تبين أنها حرب أهلية قذرة؟ هل سيعتذر للعراقيين لأنه كان أحد دعاة ومروجي الفتنة الطائفية؟ هل سيعتذر للسوريين بعد أن دمر بلدهم بفلول المجاهدين، والدواعش والإرهابيين؟ الذين ضلّلهم بفتاوى وتحريضات طائفية، ومعه رفيقه العريفي؟

هل سيعتذر معلمه بن باز عن فتوى استقدام الجيوش الأمريكية لتدمير العراق؟ وهل سيقتنع قبل ذلك بأن الأرض كروية؟

كيف سيعتذر لمن زرع في عقولهم التطرف والتعصب، وغرس في قلوبهم الكراهية والبغضاء حسب عقيدة الولاء والبراء الوهابية؟ وما قيمة اعتذاره أمام طوابير المتطرفين والمنغلقين واليائسين والإرهابيين والانتحاريين؟ الذين أنتجهم فكره المتزمت..

هل اعتذر القرني لأنه راجَعَ أفكاره، فاكتشف فسادها، وبُعدها عن وسطية وتسامح ورحابة الإسلام؟ أم لأنَّ النظام في السعودية تغير، ولم يعد خطابه القديم، وأقرانه من الوهابيين، متوافقا مع خطاب بن سلمان اليوم؟ وبالتالي على كل فقيه أن يدوزن خطابه كل مرة حسب هوى السلطان.

ثمة ملاحظتين أخيرتين حول اعتذار القرني، الذي قال فيه: "أنا الآن مع الإسلام المعتدل المنفتح على العالم الوسطي، الذي نادى به سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، والذي هو ديننا". مضيفاً: "الأعداء الحقيقيين للأمة الإسلامية هم إيران، وقطر، وتركيا". الملاحظة الأولى: أنه اعتذر للمجتمع السعودي فقط، ولم يعتذر لعموم العرب والمسلمين. والثانية أنه نسي إسرائيل عند ذكره أعداء الأمة..

بقي في الجراب قول أخير: إذا كان هدف حركة الصحوة الإسلامية، التي نشأت في السعودية أواخر السبعينات، "إيقاظ الناس من الغفوة".. فهل أيقظتهم فعلا من غفلتهم؟ هل أيقظت فيهم إنسانيتهم؟ هل وضعتهم على سكة التطور والتقدم؟ هل حلت شيئا من مشاكلهم؟ أم أنّ جل ما فعلته التشدد في تقديم الدين، والتزمت في فهمه، والتعصب في تطبيقه، حتى أخرجت ظاهرة التطرف والإرهاب، وأساءت أول ما أساءت للإسلام نفسه!

القرني لم يكن يمثل نفسه فقط، فقد كان جزءا أساسيا من تيار، كان ركنا مهما في حركة، كان يقول ما تدعو إليه جماعته.. ويفسر الدين من وحي أدبيات الأيديولوجية الوهابية، ما يعني أن هناك عشرات غيره من مشايخ ودعاة الوهابية، لا نعلم إذا كانوا يوافقون على توبة القرني؟ أم سيعتبرونه خارجا عن الجماعة؟

قد يكون الرجل صادقا في مراجعاته، ومنسجما مع نفسه؟ وتلك تحسب له.. وقد يكون مجبرا على ذلك، وقد يكون ما فعله نوعا من النفاق، والتكيف مع رغبات السلطان.. وتلك تحسب عليه.. قد يكون مثله العشرات، ممن انحازوا للنظام، وكيفوا فتاواهم مع السعودية الجديدة.. أو ممن عارضوا، وتمسكوا بأفكارهم القديمة.. في كل الأحوال، ما حدث يُسقِط القداسة عن الفكر الوهابي السلفي، وينزله من عليائه السماوي، إلى مكانته الدنيوية؛ كفكر بشري يحتمل الصح والخطأ، واجتهادات لأناس عاديين، لا يتمتعون بأي قداسة.. وبالتالي علينا جميعا أن نتوقف مطولا، ونعيد التأمل والتفكير في كل المنظومة الدينية والفقهية والفكرية التي أنتجها الإسلام السياسي في العقود الخمسة الأخيرة..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق