أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يونيو 26، 2015

هل الأخلاق منشؤها الإسلام ؟


عندما نلمس من أي "أجنبي" مسلكاً أخلاقياً حميداً فإن أول ما نقوله في سريرتنا: "سبحان الله، مع أنه غير مسلم، إلا أنه على خُلُق!"، وقد يستغرب البعض قائلاً: "كيف لغير المسلم أن يتمتع بالأخلاق !"، وعندما سافر الشيخ "محمد عبده" إلى أوروبا رجع بمقولته الشهيرة "رأيت الإسلام، ولم أرَ مسلمين" ... وهذه مقولات منبعها ثقافة سائدة مفادها أن الإسلام هو مصدر الأخلاق، وبالتالي الإعتقاد بأن المسلمين هم وحدهم أصحاب الفضيلة.

وبالمثل يمكن لأتباع الديانات الأخرى الزعم بأنهم هم من ابتكر النبل والمروءة، وهنا يبرز السؤال: هل الأخلاق منبعها الأديان، أم الإنسان نفسه؟ التاريخ يجيب بأن الإسلام جاء قبل أربعة عشر قرنا، والمسيحية جاءت قبل ألفي سنة، واليهودية قبل قبل نحو ثلاثة آلاف سنة، أما إبراهيم الخليل (أبو الأنبياء) فقد وُلِد في القرن التاسع عشر ق.م. بمعنى أن الديانات السماوية لا يتجاوز عمرها الأربعة آلاف سنة في أبعد تقدير. وإذا علمنا أن عمر الحضارة الإنسانية الحديثة (المكتوبة) يتجاوز الخمسة آلاف سنة في أقل تقدير، وقبلها نحو سبعة آلاف سنة من التطور المدني الإنساني (أي بعد انحسار آخر عصر جليدي قبل نحو 12 ألف عام) في حين أن عمر الجنس البشري (الهومو سابين) يتجاوز ال 200 ألف سنة ... فهل يمكن القول أن البشر الذين بنوا العديد من الحضارات عاشوا كل تلك القرون دون أخلاق ؟!  


علماء الاجتماع يقولون: "الإنسان أقدم من الأديان"، و"الإنسان بطبعه كائن إجتماعي"، ويؤكدون بأن لكل مجتمع منظومته الأخلاقية المميزة، وأن هذه المنظومة نمت وتطورت عبر مئات السنين، حتى استقرت على شكل قيم مجتمعية وعادات وتقاليد، كان هاجسها ومحركها وضع المعايير للتمييز بين الصواب والخطأ، بهدف تنظيم حياة المجتمع على نحو يحقق له حاجاته الأساسية، ويمنع عنه اعتداءات الغير (من داخل وخارج المجتمع)، بمعنى أن منشأ أي قيمة أو سلوك أخلاقي هو لتحقيق حاجة ومصلحة، حيث أن أي مفردة سلوكية لا تتكون من ذاتها بدون غاية وحاجة، أي أن الأخلاق نفسها كانت مجرد وسيلة ولم تكن هدفا بحد ذاته، تسعى من خلالها المجتمعات لتحقيق مبادئ العدل والحريه والمساواة والحياة الكريمة، وهذه المعايير نسبية ومتحركة على الدوام، ترتبط إرتباطا وثيقا بالثقافات المتعددة للمجتمعات، وبالبيئة والظروف المحيطة، فما هو طبيعي وعادي في مجتمعات معينة، تجده مستهجنا ومرفوضا في مجتمعات أخرى، وهذه القيم يُعاد إنتاجها بعد التعديل مع كل جيل جديد، بمعنى أنه حتى في المجتمع نفسه تتغير القيم مع مر الزمان؛ فمثلاً، كانت أخلاق اليونان مرتبطة بأساطيرهم، لكن هذا لم يمنع فلاسفتهم من إنتاج قيم أخلاقية قائمة على أساس عقلي بحت, فبينما عبّر افلاطون في فلسفته المثالية عن الفضيلة والكمال، عبّر عنها أرسطو بفعل الخير والبحث عن السعادة والحب والعدل والجمال. أما اليهودية والمسيحية فقد عبّرت عن الأخلاق من خلال وصايا الإله فى تنفيذ ما جاء فى تشريعات العهدين الجديد والقديم. أما الإسلام، فقد جاء ليهذب ويكرّس ما هو موجود من أخلاق وقيم سامية كانت سائدة في حياة العرب، قال النبي الكريم "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق".

إذن, من هذا نستنتج أن الأخلاق لا ترتبط بالضرورة بالدين؛ إنما يأتى الدين ليصحح مسار الأخلاق، لأن التصور الأخلاقي أشمل وأوسع من التصور الديني؛ بل يمكننا القول أن التصور الأخلاقى هو القاعدة الأساسية التي يرتكز عليها الدين؛ الدين يسميها حلال وحرام، والأخلاق تسميها صواب وخطأ، والفرق في الحالتين أن المعايير في الدين ثابتة ومطلقة، وفي الأخلاق نسبية ومتغيرة. وعندما يتعصب رجال الدين لمنظومتهم الأخلاقية (باعتبارها قيم مطلقة)، وينصّبون أنفسهم قيّمون على الأخلاق تبرز المشكلة، لأنهم سيسعون إلى فرض منظومتهم "الأخلاقية" على الغير بالقوة، حتى لو أدى ذلك إلى إزهاق الأرواح وتقسيم المجتمع وجره إلى حرب أهلية. وقد رأينا في العديد من الدول رجال الدين وهم يمارسون الاستبداد والتسلط (وهي قيم مناهضة لأبسط مفاهيم الأخلاق)، لفرض قيمهم الاجتماعية والدينية على المجتمع، كبديل عن تلك الموجودة في الواقع. 

الإنسان عادة لا يردعه عن فعل الشر إلا مخافته من العاقبة، أي أنه لو ضمن مأمن العاقبة فلن يردعه شيء، لا ضميره، ولا خشيته من الله، لأنه سيبرر لنفسه فعلته، وربما يريح ضميره بالاستغفار والصلاة. وفي المجتمعات الدينية يدّعي المؤمنون أن تصرفاتهم الأخلاقية هي لإرضاء الله، وخشية منه؛ غير أنّ هذا القول غالبا ما يسقط مراراً وتكراراً عشرات المرات في اليوم الواحد، لأن مسلكياتهم عادة هي من أجل إرضاء المجتمع. بدليل أنهم يتصرفون باحترام ومثالية أمام الآخرين, ولكن, بمجرد انفرادهم بذواتهم يتصرفون على عكس ذلك، أي أنهم لا يتصرفون انطلاقا من أن ذاتهم أخلاقية، وإنّما خوفاً من سلطة المجتمع. وفي سياق متصل، نجد أن الفرد ينطلق في تصرفاته من نوازعه البدائية واستجابة لرغباته الذاتية حتى لو كان ذلك مخالفا لقيم الدين والمجتمع، فمثلا تجد الصائم في رمضان نزقاً عصبي المزاج ضيّق الخلق، رغم أن قيم الصوم تدعو للتواضع والرحمة وحسن المعشر ... حيث أن تأثير كيمياء الجسد طغى على القيم التي يؤمن بها.

ولا شك لدي بإن الإسلام (شأنه شأن كل الديانات) قد دعا لمكارم الأخلاق، بل أن أحد أهم أسباب البعثة هو الرقي والسمو بأخلاق الفرد والمجتمع، وقد قال الرسول الكريم: "ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حُسن الخلق"، لكن المشكلة أيضا هي أن المسلمين، وللأسف الشديد، قد نزعوا من الإسلام روحه السمحة، وحولوه إلى عصبيات طائفية، وجعلوه بمسلكياتهم مقترنا بالإرهاب والذبح والترويع والتخلف، وكل ما هو منحط.

وخلاصة القول، أن الأخلاق سمة طبيعية للبشر، نشأت وتطورت مع تطور المجتمعات الإنسانية، وكل الدساتير والقوانين والأنظمة الوضعية (وبالطبع كل الديانات) دعت للأخلاق وحثّت عليها، لذلك من البديهي أن تجد الأخلاق في أي مجتمع إنساني، وهذا لا يتعارض مع الدين، كما أنه لا يرتبط به بالضرورة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق