أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

مايو 01، 2015

أُبـوَّة


خرج الأب وابنه في الصباح الباكر، كانت الشمس قد بزغت للتو، وقد أخذت تسير خلفهما وهما متجهان نحو الغرب. شمسُ الصباح رقيقة طيبة، لكنها في الظهيرة تغدو قاسية شريرة، وفي العصارى تعود حنونة، إلى أن تتوارى بصمت وروية خلف الأفق، لكنها لا تغيب تماما، مثل سيدة خجولة تبدل ملابسها خلف ستارة شفافة .. بعد ساعتين من المسير، ومن دون سابق إنذار تعطلت السيارة، في منتصف الطريق بالضبط، حيث لا ظل شجرة ولا خفقة جناح لطير. نزل الأب وحاول إصلاحها، ولكن دون جدوى، جلسا بداخلها يتقيان حر الشمس، وينتظران أي سيارة مارة.

المنطقة مقطوعة تماما، والهاتف النقال لا يلتقط أي إشارة، احتار الأب في أمره، وقد صار كالـمُنْبَتّ؛ لا أرضاً قَطع، ولا ظَهراً أبقى .. لم يستوعب فكرة ترك ابنه بمفرده والسير وحيداً لطلب النجدة، ولم يشأ اصطحابه معه في رحلة سيرٍ شاقة قد لا يحتمل شمسها الحارقة .. أما الانتظار فقد بدا خيارا عبثيا، ويستنزف طاقتهما، خاصة بعد أن أوشكت قنينة الماء الوحيدة أن تنفذ .. أخيراً، قرر أن يمشيا معاً، على أمل أن تأتي سيارة ما وتقلّهما، أو يصلا أي محطة بنزين، أو قرية، أو استراحة ..


مضت ساعتان من المسير المضني، والشمس تصب لهيبها بلا رحمة، العرق يتصبب منهما، وقد احمرت جلودهما وبدأت تتسلخ، أما الصغير فكان وجهه ذابلا وضامرا وصارت خطواته أبطأ فأبطأ .. حمله الأب على كتفيه، ولكن بعد أقل من عشرين مترا أنزله .. مرّت ثلاث أو أربع سيارات فقط، كانت تبطئ من سرعتها قليلا، وما أن تصل بقربهما حتى تنطلق بأقصى سرعة، وهو أمر لم يفهمه الطفل الصغير.

من شدة العطش، نسي الأب والابن لمَ خرجا هذا الصباح، وأيُّ هدفٍ كانا يقصدانه، وكل الأحلام التي كانت تداعبهما ليلة أمس، تبخرت، وصار حلمهما الوحيد شربة ماء، وظل شجرة .. كان الأب يشجع ابنه ببعض الكلمات، الآن صارت أي كلمة تجرح أحبال صوته المتعبة، وتزيد من عطشه، فواصلا المسير بصمت .. صمت ثقيل مخيف .. لا يقطعه سوى وقع خطواتهما المنهَكة ..

كان الأب يحدق في عين القدر، فيرى هلاكهما، ثم ينظر إلى آخر المدى فيرى البحر .. فيقول لابنه الصغير، ألا ترى الماء في آخر الطريق، سنصله قريبا، وحينها ستشرب بقدر ما تشاء، بل سنسبح فيه، ونروي ظمأنا .. ولكن يا أبتي، هذا سراب، وقد شرح لنا أستاذ العلوم كيف ينشأ .. ألم يقل لكم أستاذكم أنه بدون السراب سنموت من اليأس .. 

ساعة أخرى مرّت، كانت أشد وطأة، وهما يسيران بتثاقل ويصارعان الظمأ واليأس .. إلى أن وصلا شجرة وحيدة كانت تنتصب على كتف الشارع، يتسع ظلها لشخص نحيل، وعند ساقها صخرة مستديرة، تصلح للجلوس، فجلسا للاستراحة، ولشدة دهشة الأب وجد في ظل الصخرة قنينة ماء .. لم يصدق عيناه، نعم، قنينة ماء صغيرة سعة ربع لتر، ممتلئة حتى نصفها تقريبا .. هل هو ماء فعلاً ؟ كيف وصلت هذه القنينة هنا ؟ هل نسيها أحدهم ؟ هل تكفي لشخصين على حافة الموت عطشا ؟ كل هذه الأسئلة غير مهمة، ما شغل بال الأب سؤال مخيف: ماذا لو كان ما بداخلها كاز ؟

قرر الأب أن يفحص محتوى القنينة أولاً، وقال في نفسه: إذا كانت ماءاً؛ فكل قطرة منها تعادل ثروة، بل تساوي حياة بأكملها .. فتح القنينة على مهل، قرّبها من أنفه .. وجد رائحتها أطيب من عطور باريس كلها .. تأمل في لونها، تخيلها كحزمة ضوء تخترق العتمة بكل كبرياء .. حرّكها قليلا بحنيّة وخفة، فسمع أجمل موسيقى في الكون .. كان ظل الصخرة قد جنّبها الحر، فبدت باردة ومنعشة .. نقلها ليده الأخرى ثم مدّها إلى آخرها فظهرت له كأيقونة .. أيقظ جمالها الأخّاذ كل حواسة دفعة واحدة، وبدأت الدماء تتدفق في شرايينه مثل شلال أنهى فصل الجليد للتو، وانسكب بكل قوة نحو قاعه .. كان شوقه للماء لدرجة لا تصدق؛ فشعر برغبة جامحة بأن يشربها جرعة واحدة ..

عدّل جلسته على الصخرة باتجاة ظل الشجرة، ثم حمل ابنه الذي كان على وشك الاستسلام، وأجلسه في حضنه، فتح له القنينة برفق، ولقّمها في فمه الصغير، مسح شفتيه وخديه بالقطرات القليلة التي كانت تنسكب من فمه، ظل الأب يصب الماء في حلق صغيره، بتلذذ وبطء شديد حتى لا يخسر قطرة .. حتى انتهت القنينة ولم يتبقى منها قطرة واحدة .. وطوال هذا الوقت الجميل كان الأب يواصل مسح شفتيه اليابستين بلسانه المشتقق .. ومع ذلك كان قلبه قد ارتوى تماما، وقد رأى بدل السراب أطراف المدينة .. وبدأ يتذكر حلمه القديم ..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق