أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أكتوبر 08، 2014

فرانكشتاين في بغداد


ذات يوم خريفي في أواسط الثمانينات، كنتُ ماراً بالقرب من باب المعظّم، في شارع فرعي هادئ، يكاد يخلو من المارة، وكأنه منعزل تماما عن محيطه المزدحم في قلب بغداد، وفجأة وجدت نفسي أمام مشرحة مدينة الطب، كان رجلان أحدهما يرتدي زي ممرض يتبادلان حديثا صاخبا ضاحكا، وما أن دخل الممرض قاعة المشرحة، تاركا بابها مفتوحا حتى استل سكينا طويلا وبدأ بشق الجثة الممدة على المنضدة أمامه .. أشحتُ بوجهي عن المنظر المرعب، ولأيام متواصلة وأنا أرى كوابيس المشرحة، حتى صرت أتجنب المرور من هذا الشارع المشؤوم.

وغير بعيد عن المشرحة، يقع حي "البتاوين"، المحاذي لشارع السعدون، أُنشئ في بدايات القرن الماضي ليكون أحد الأحياء الراقية في وسط العاصمة، كان أغلب سكانه من اليهود، قبل أن يتم ترحيلهم لفلسطين في زمن نوري السعيد، ثم أصبح ذو أغلبية مسيحية، لكنه ظل شاهدا على التعايش السمح بين الأديان الثلاث. في الثمانينات كان حيا للمصريين والسودانيين، وكنت أتجنب دخوله، نظرا لسمعته السيئة في الفوضى والإهمال .. وشيئا فشيئا، في زمن الحصار، ومع تراخي قبضة الدولة، وانتشار الفوضى الأمنية صار مرتعا للعصابات المسلحة، وأوكار البغاء، والإتجار بالبشر والمخدرات، واللصوص، والفارين من العدالة .. إلى أن أتى الاحتلال الأمريكي جالبا معه موجات الفرز الطائفي، فصار ملاذاً للفقراء والمهجّرين والغرباء من كل قطر، الذين لا هوية لهم، ولا انتماء للمكان.



لم أتوقع حينها، أنني سأزور المشرحة من جديد، وسأشاهد بدلا من جثة واحدة أكواماً من الجثث، وأنني سأتجول في "البتاوين"، وأدخل بيوتها وأزقتها، وألتقي عتاة الإجرام، وأمراء الحرب، وصناع المفخخات والأحزمة الناسفة .. لا بل سأختبر الخوف من مجرم خطير لا يتأثر بالرصاص، ولا يموت، مجرم من نوع جديد، مصنوع من بقايا وأشلاء الضحايا والمجرمين .. ولكني سأجوب "البتاوين" وبغداد بأكملها بصحبة الروائي العراقي المبدع "أحمد سعداوي" في روايته المميزة التي فازت بالبوكر لهذا العام "فرانكشتاين في بغداد".

شخصية "فرانكشتاين" ابتدعتها في الأصل البريطانية "ماري شيلي" في أعقاب الحرب العالمية الأولى، في رواية حملت ذات الاسم، وهو عالم وطبيب قام بصنع إنسان قبيح المنظر مشوه الخلقة، لكنه كان في البداية طيباً ولطيفاً ومحباً للخير، ولا يؤذي أحداً. وبسبب تخوّف الناس من شكله وشعورهم بالإشمئزاز لمجرد رؤيته أخذوا يعاملونه بفظاظة وقسوة، وحتى الأطفال كانوا يرمونه بالحجارة، لا لشيء إلا لأنه قبيح، ونتيجة لكل ذلك تحول ذلك الطيب إلى وحش وشرير، إلى مخلوق يكره الجنس البشري الذي اضطهده، ويسعى للانتقام منه، بدءً بالعالم "فرانكشتاين" الذي صنعه وتخلى عنه.

رواية "السعداوي" تتحدث عن أهوال الحروب، وما تولده من رعب وقهر، وما تفرزه من ظواهر سلبية، تأتي على الإنسان، وتسلبه روحه، وتخرج منه أسوأ ما فيها، ثم تفتت المجتمع، بلا رحمة، وبدون ضمير.

أبطالها: "هادي العتاك"؛ وُلد إنساناً قذراً، يسكن في خرابة تدعى خرابة اليهود، يبيع ويشتري الأشياء القديمة، يساعده شاب لطيف كان يشاركه السكن، لكنه انفصل عنه بعد زواجه، يسوقان مع بعض عربة يجرها حصان، وفي إحدى المرات، يموت صديقه بانفجار، وعندما يذهب "هادي العتاك" إلى المشرحة لاستلام جثة صديقه، يفاجأ بأنه لا جثة، إنما هناك أشلاء مبعثرة لضحايا مجهولين، فيقول له الحارس بلا مبالاة، اجمع ما تشاء من قطع الغيار وكوّن لك جثة، وخذها لتدفنها.

"أم دانيال"؛ عجوز آثورية، فقدت ابنها الشاب الذي كان يهوى الموسيقى، بعد أن قاده "أبو زيدون" للعسكرية، ليقضي نحبه في الحرب. بعد فترة وجيزة من غيابه، فتحت الأم التابوت، وجدت فيه بقايا متناثرة من أثره، لكنها ترفض تصديق نبأ موته، وتمضي بقية حياتها وهي تنتظر دخوله من الباب. ظلت "أم دانيال" ولآخر الرواية متمسكة بالأمل، كان كل ما حولها يتداعى، وهي صامدة، تكلم صورة قديس يمتطي حصانا ويتهيأ لطعن تنين. ولكنها لأنها تكره الحرب؛ قصَّتْ وجه القديس، وأبقت على الصورة مجوفة، يظهر فيها جسده بزي المحارب ورمحه الطويل، وعندما غادرت الحي، هي و"أبو أنمار" انهار فيه كل شيء دفعة واحدة.

العميد "سرور"، ضابط يطمح لأن يصبح وزيرا للدفاع، كان يقود فرقة للاغتيالات السرية، تحت غطاء دائرة المتابعة والتعقيب، التي تحقق في جرائم التفجيرات. وهو صديق لإعلامي بارز من الأنبار يدعى "السعيدي"، يملك مجلة، يحررها الصحافي الشاب القادم من مدينة "العمارة" في الجنوب "محمود السوادي"، والذي بدوره يسجل قصة المخلوق المسخ "فرانكشتاين" ويبيعها لأحد المؤلفين.

القصة ترُوى على لسان "هادي العتاك" في مقهى عزيز المصري، حيث كان رواد المقهى يتعاطون معها على أنها مجرد حكاية شعبية طريفة من خيالات سِكّير وكلاوجي (نصّاب)، لكن العميد سرور ومعاونيه المنجمين كانوا يصدقون كل حرف منها، ويتابعون أثر المجرم السفاح الذي تُنسب إليه معظم جرائم بغداد.

القصة جرت في واحدة من أحلك فترات بغداد، في سنة من أسوأ سنينها على الإطلاق (2005)، حين كان لا يخلو يوم من تفجير سيارة مفخخة، أو حزام ناسف لانتحاري يائس، وكان عمال النظافة يعثرون على الأرصفة وفي الحاويات يوميا على نحو مائتي جثة مجهولة، وعليها آثار تعذيب. يسرد "سعداوي" أحداث قصته الرهيبة بمنتهى الواقعية، بالأسماء الأصلية للشوارع والأزقة والمحلات والفنادق، لكنه فجأة يأتي بمخلوق أسطوري، كأنه انبثق من تحت الردم، لكن القارئ سيصدق ذلك، وسيتعاطى معه كما لو أنه إنسان حقيقي من لحم ودم. لم يعطِ الكاتب للمخلوق المسخ اسما معينا، وأسماه "الشِّسْمه"؛ فهو لا اسم له، لكنه يحمل اسم أي عراقي (كاظم، محمود، عبد الحسين، عمر، حنا، كاكا ..).

هذا الكائن الخرافي الذي لا شكل محدد له، صنعه "هادي العتاك" بيديه، حين أخذ أشلاء متفرقة من المشرحة على أنها جثة صديقه القتيل، ثم استهوته فكرة جمع أشلاء ضحايا التفجيرات ولصقها ببعض لتكوين جثة متكاملة، لكي يدفنها بشكل لائق فيما بعد. لكن "العتاك" ما أن يضع الأنف الكبير الذي حصل عليه من آخر تفجير في ساحة الطيران، ليكمل الجثة، حتى تدب فيها روح حارس الفندق الذي قضى نحبه في تفجير آخر.

هذه الجثة، أو المجرم "إكس" أو "فرانكشتاين" خلاصة ضحايا يطلبون الثأر لموتهم المجاني، حتى تهدأ أرواحهم، ويرتاحوا، وقد ضعت لنفسها هدف الانتقام من قاتليها، أي إحقاق عدالة الشارع من خلال الثأر للضحايا الذين يكونوها، إذن، هي مخلوق للإنتقام والثأر لأجزائها المكونة من أطياف الشعب العراقي، وهي في مهمة "نبيلة" من الضروري أن تنهيها قبل أن تذوب وتتفكك أجزاءها، وترجع لسيرتها الأولى .. مجرد أطراف وإرب لميتين في طريقها نحو التحلل.

لكن الرجل المسخ الذي خاطه "العتاك"بدايةً من بقايا جثث الضحايا الأبرياء، سرعان ما صارت أجزاءه تتفكك وتتكسر؛ فكلما انتقم من قاتل كلما سقط جزء من جثته، ولكي يستمر وينتقم، كان يعوضه بغيره، حتى أصبح يحمل فيما يحمل أعضاء مجرمين، فأصبح مجرماً قاتلاً متمرساً، يسير ويقتل، بل ويقتات على القتل.
أخذ "الشِسْمه" أو فرانكشتاين، يبرر لنفسه جرائمه، بحاجته لقطع غيار من القتلى، ولأن كل إنسان بداخله مجرم وطيب في آن معاً، لم يكن يميز بين القاتل والضحية، وصار يلم من أجزاء المجرمين القتلة الذين يقتلهم، حتى صار مجرما مثلهم، ثم صار سوبر مجرم، ولا أحد يستطيع وقفه. وبهذا المعنى صار كل عراقي مسؤول عن تغذية وتكبير هذا المجرم، وصار شريكا في الجُرم. وإذا كان "الشِّسْمه" مجرد وحش خرافي، فإن الحقيقة الكبرى أن من يقتل ويفجر ويغتال ويقطّع الناس أشلاء هم العراقيون أنفسهم، والضحايا هم أنفسهم الجناة .. والوحش الحقيقي الذي تلبّسهم هو الكُره، والحقد، والخوف من الآخر، والرغبة بالانتقام. والغول الحقيقي الذي يفتك بالجميع هو الفكر الطائفي، الذي ما أن خرج من القمقم حتى صار وحشا كاسراً، يقتل ويدمر بلا تفكير، وبلا رحمة. إنه حلقة العنف التي ما أن تُفتتَح ختى يستحيل إغلاقها. إنها كرة الثلج التي تكبر وتكبر وتحطم كل شيء بطريقها.

المفاجأة أن "العتاك" يصاب بانفجار وتتشوه ملامحه فيصبح مسخاً هو الآخر، وهو ما يدعو الحكومة للقبض عليه ونشر صوره في كل مكان على اعتبار أنه "الشِسْمه". ربما كان هذا انتقام المسخ من صانعه. وهنا يغلق أحمد السعداوي روايته بنهاية تحتمل مختلف التفسيرات. نهايات غير متوقعة أبداً، لكنها بعد ذلك تبدو حتمية على نحو لا يقبل الجدل.

الرواية شيقة إلى أبعد حد، ممتعة أدبيا، لكنها على المستوى الإنساني تثير الرعب، وتؤكد على أنه في كل مدننا وقرانا "فرانكشتاين" سيخرج علينا في أي لحظة، سيقتلنا جميعا بلا رحمة .. بل أننا وبكل غباء وعنجهية سنزوده بكل أسلحته وعتاده، وما يحتاجه من ذخيرة ..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق