أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يوليو 30، 2014

خبراؤنا الإستراتيجيون


بعد احتلال العراق للكويت (آب 1990) ونشوب ما عرف حينها بأزمة الخليج، وكانت تلك بدايات عصر جديد للإعلام العربي تميز بالتقارير الإخبارية المصورة والمراسلين الصحافيين الذين ينقلون الصورة من الميدان واستضافة المتحدثين والخبراء، في تلك الآونة كان الإعلام العربي (خصوصا المؤيد لصدام) يستضيف يوميا عشرات الخبراء الإستراتيجيين، الذين صوروا للعالم أن الجيش العراقي هو رابع أقوى جيش في العالم، ووعدوا الجماهير العربية بمفاجآت ستدهش قوات التحالف، وستجعله يرتد خائبا مدحورا.
وطوال شهر كامل كانت بغداد تتلقى الضربات الجوية المتلاحقة، وتحصي قتلاها وخسائرها، فيما نفس الخبراء يصبّرون السادة المتفرجين بالحرب البرية، مؤكدين أنها ستكون الفيصل القاسم التي ستهزم  جيوش المعتدين.

وتكرر نفس السيناريو الإعلامي في حرب الخليج الثانية، حيث كان "سعيد الصحاف"، آخر وزير للإعلام في عهد صدام حسين، يؤكد أن المعركة الفاصلة ستكون على مشارف بغداد، وظل يعد "العلوج" بالهزيمة، حتى صاروا على بعد أمتار من مكتبه، ما يذكّر بالمذيع المصري الشهير "أحمد سعيد" في نكسة حزيران 67، الذي ظل يدعو سمك البحر للتهيؤ لوجبة دسمة من الجنود الإسرائيليين. وطبعا كلنا يعرف نتيجة تلك الحروب.


وفي حرب تموز 2006، كان سيد المقاومة يمنّي الجماهير بالنصر الإلهي، ويعد الجيش الإسرائيلي بالمفاجآت الصادمة التي ستلقنه درسا لن ينساه، ويتحدث عن مرحلة حيفا، وما بعد بعد حيفا .. وفي المحصلة تراجعت مواقع حزب الله إلى مسافة 40 كلم شمالا، وتوقف الحزب تماما عن تهديد إسرائيل، ليتفرغ لمعاركه الأخرى.

وفي الأزمة السورية سمعنا من الفضائيات العربية ومحلليلها وخبرائها سيلا من أخبار انتصارات "الثوار" ما يكفي لهزيمة سبعة دول .. وفي واقع الأمر، النظام ما زال قويا ومتماسكا، والمعارضة تتفتت وتتراجع.

وفي العدوان الغاشم على غزة (2008، 2012) كان جيل جديد من الخبراء الإستراتيجيين يعيدون نفس السيناريوهات الرهيبة التي تحدث عنها أسلافهم في حروب صدام وغيرها، ولكن هذه المرة بوعود ومفاجآت ستنتظر جيش الاحتلال فيما لو أقدم على اجتياح غزة بريا .. والنتيجة أن إسرائيل كانت في كل مرة تعد العدة لجولة عسكرية جديدة تقضي على ما تبق من مقومات الحياة والبنية التحتية، دون أن تغير من إستراتيجاتها شيئا. بينما حياة الناس في القطاع تزداد بؤسا.

صحيح أن نفس التصريحات تكررت، وبنفس الآلية في العدوان الآثم الأخير 2014؛ إلا أن تغييرات مهمة حدثت ليس في الخطاب الإعلامي، بل على أرض الواقع؛ حيث قدمت المقاومة الباسلة نماذج بطولية في الصمود والقتال، وألحقت خسائر بشرية ومادية جسيمة في جيش الاحتلال، وكانت جولة مختلفة من عدة نواحي، وإذا ما أديرت معركتها السياسية بشكل صحيح، قد تضع حدا لتكرار العدوان على غزة.

طبعا، هنا لا أوجه أي نقد أو لوم للمقاومة نفسها، أو لرجال المقاومة، فلا يحق لأحد مهما كان أن يزاود عليهم، أو يعلمهم أصول الكفاح .. وهم جميعا أبطال، ومحط فخر واعتزاز، وقدموا تضحيات حقيقية .. لكن الانتقاد موجه تحديدا للسادة "الخبراء الاستراتيجيين" الذي تفيض بهم الفضائيات العربية، وموجّه بنفس القدر لأنماط التفكير والتفاعل الجماهيري التي نجمت عن هذا النهج الإعلامي الرديء.

مشكلة هؤلاء الخبراء، إما أنهم لا خبراء ولا بطيخ، وإما أنهم "شعبويون" يعملون على طريقة "ما يطلبه الجمهور"؛ أي يُسمعون الناس ما يرغبون بسماعه، بغض النظر عن الحقيقة. مشكلتهم أنهم في كل مرة يرفعون سقف التوقعات إلى درجة تجعل الجماهير ترتد محبطة بعد انجلاء المعارك، واتضاح الصورة. مشكلتهم أنهم يهيّجون العواطف ويغفلون عن العقول، أو يستغفلونها، يخاطبون الجماهير كما لو أنها بحاجة للوصاية العقلية. مشكلتهم الحقيقية أنهم لا يفكرون إلا بصورتهم "النرجسية" على شاشات التلفاز، وبحصد أكبر عدد من المعجبين ..

على الصعيد الفلسطيني، جميعنا يعرف أن إسرائيل دولة عسكرية مدججة بالسلاح الفتاك، ونعرف حجم القوة الي تمتلكها المقاومة، وأن موازين القوى مختلة بالكامل، ومع ذلك، فإن الجماهير الفلسطينية والعربية تلتف حول المقاومة وتحتضنها في كل الأحوال، بغض النظر عن حجم قوتها، سواء كان لديها آلاف الصواريخ، أم كانت لا تمتلك سوى الحجارة .. وتدعمها سواء انتصرت أم أخفقت، فإذا أخفقت ستشجعها وتشد من أزرها .. لأن المقاومة هي الخيار الوحيد، ولأنها صاحبة الحق، والمدافعة عنه.

المشكلة أن هؤلاء "الخبراء" أغرقوا المقاومة بفيضٍ من المديح والثناء، حتى صرنا لا نقبل منها أي إخفاق، هذا المديح أضر بالمقاومة أكثر مما أفادها، لأنه حال دون رؤية الأمور بموضوعية وعقلانية، وجعل نقدها من المحرمات، وبالتالي لم تكن لديها فرصة لأخذ العبر وتصويب المسار، بل وعطل إمكانية تطورها. كما ضخموا من قوتها وإمكانياتها بالشكل الذي كان يعطي لإسرائيل المزيد من الذرائع والمبرارات، حيث صوروا العدوان على أنه نزال بين جيشين وقوتين صاروخيتين .. وبالتالي لم تعد حاجة لتعاطف العالم معنا، طالما أننا أقوياء لهذه الدرجة. كما أغرقوا أهلنا في غزة بالمديح والأشعار لدرجة حالت دون أن نسمع صوتهم، وأن ندرك مأساتهم على حقيقتها.

أما كثرة الحديث عن المفاجآت (الكلمة التي صارت مفضلة عند البعض) فهي لا تفيد شيئا في المعركة، المفاجأة (لأنها مفاجأة) مفترض بها أن تظل طي الكتمان، مفترض أن تفاجئ العدو، لا الجماهير .. وهذا هو جوهر الحرب النفسية، لأنها إذا حدثت فعلا أربكته، وإذا لم تحدث فإن معنويات الجماهير تظل بخير .. وفي النهاية ستميز الجماهير بين المفاجأة الحقيقية، وبين البروبوجندا.
في الحروب، أهم عنصر ترتكز عليه إدارة دفة الصراع، ما يعُرف بتقدير الموقف، وتقدير الموقف يرتكز على تقدير حجم قوة العدو، وتقدير الظروف المحيطة. "ماوتسي تونج" وصف القوى الإمبريالية بأنها (نمر من ورق)، لكن سياساته جرت البلاد إلى شفير المجاعة والحرب الأهلية، ولو ظل يحكم الصين حتى الآن، لصارت الصين صومال كبيرة، "خليل الوزير أبو جهاد" وصف إسرائيل بأنها (عدو قوي ومتفوق، ولكن يمكن هزيمته). بمعنى أن تضخيم قوة العدو تؤدي إلى الإحباط واليأس، أما الاستخفاف به فيؤدي إلى الهزيمة العسكرية.

بعض "خبراؤنا الإستراتيجيون" يرى أن إسرائيل تتحكم في كافة مجريات الأمور، وأن مقارعتها في ظل اختلال موازين القوى لا طائل منه، باعتبار أن الدم لا ينتصر على السيف. الأمر الذي أدى إلى تكاثر المرجفين والمشككين. وبعضهم الآخر يستخف بها، لدرجة تجعلنا نعتقد أنه بمجرد دخول الجيش الإسرائيلي إلى غزة فإن مصيره الهزيمة والانكسار لا محالة، أو يصف الجيش الإسرائيلي بأنه يتخبط، ومرتبك، وجبان، ومتورط في حرب لم يتوقعها .. نتفق وبلا شك أن الجيش الإسرائيلي مجرم، وغير أخلاقي ووو ، أما القول بأنه يتخبط ومرتبك، فمعناه أنه بلا تخطيط، وبدون رؤية أو إستراتيجية، وهذا يتنافى مع النتائج التي نراها ونعيشها منذ ستة عقود ..

في كل حرب، وفي كل جولة صراع، يتحدث هؤلاء المحللون والخبراء كما لو أنها الجولة الأولى والأخيرة، ويفصلونها عن سياقاتها التاريخية، وكأن تاريخ الصراع قد ابتدأ للتو، ويعجزون، (أو يتعمدون العجز) عن الربط بين تلك الحلقات المتصلة من الصراع، كما لو أن الناس بلا ذاكرة، ومثل هذا النهج التحليلي هو ضرب من التضليل والخداع.

وفي المحصلة، أدى هذا النهج الإعلامي إلى خلق ثقافة التفرج؛ أي أن الجماهير صارت ترتاح لدور المتفرج، صارت تنتظر، وتترقب، تحصي أعداد الشهداء، وأعداد الصواريخ، وتتناقل الصور والتعليقات .. دون أن يكون لها دور فاعل في المعركة، فقد ركن المواطن على المقاومة بأنها تقوم بدورها على أكمل وجه، وما عليه إلا انتظار النصر. وفي حالات أخرى ينتظر الزعيم المخلّص، أو يلقي بأعباء المسؤولية (التي قد تثقل ضميره) على المسؤول، وتحميله أوزار المرحلة كلها، أو بتصيّد أخطاء الآخرين والاعتقاد بأنها سبب الهزيمة .. باختصار لم يعد الفرد يفكر بما عليه من واجبات، لم يعد مؤمنا بدوره، وأن بإمكانه إحداث التغيير .. صار متفرجا وحسب. 


وأخيراً، لا أشك لحظة بأن النصر سيكون حليفنا في نهاية المطاف، مطلوب منا جميعا أن نواصل فعل المقاومة بكافة أشكالها، وأن نظل موحدين، على قاعدة أن فلسطين أكبر من الفصائل والتنظيمات. وما نريده من "خبرائنا" أن يكونوا صادقين مع أنفسهم، ومع الشعب، وأن يتقدموا بخطاب عقلاني موضوعي، يحترم وعي الناس، بدون تضخيم ومبالغات، وبدون شعارات وكلام إنشائي لا يمكن البناء عليه. الخطاب العاطفي قد يكون ضروريا أحيانا لتشجيع المقاومين، ورفع معنوياتهم، وشد أزرهم، وقد يكون ضروريا لدفع الجماهير نحو المشاركة والانخراط في العمل النضالي ,, لكن الإعداد للمعركة، وإدارة الصراع، والأخذ بأسباب النصر لا ينفع معه سوى لغة العقل والمنطق، وتقدير الموقف بشكل صحيح.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق