أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

مارس 30، 2014

صديقي .. المهدي المنتظر

لسنوات عديدة وأنا أتلهف لسماع أي شيء عن صديقي العزيز الذي فقدنا أخباره منذ سقوط بغداد، إلى أن جاءتني رسالة من صديق مشترك يقول فيها أن "خالد" بخير، وقد صار شيخ طريقة، ولديه آلاف الأتباع .. ولأتحقق من الخبر شغّلتُ محركات البحث لأجد عشرات الأخبار والمقالات التي تتحدث عن "الشريف المختار حبيب الله"، الاسم الجديد لصديقي القديم، مفجّـر ثورة الحب الإلهي ..
خالد عبد الهادي، مثقف في نهاية الأربعينات، وُلد في "بيلاروسيا" وعاش فيها شطرا من عمره في كنف أسرة علمانية يسارية التوجه .. والده شيعي، كان أهم خبير في طب العيون على مستوى العالم، وأمه سنّية (أو العكس) لا أذكر بالضبط، ففي ذلك الزمن لم نكن نهتم بمثل هذه التصنيفات. في جامعة بغداد، كان "خالد" محورا لمحاضرات الثقافة القومية، منظّرا بعثيا، جريئا، لدرجة أن الكثير منا كان يظنه محسوبا على الأجهزة الأمنية. بعد حرب الخليج الأولى، التقيته في عمّان، كان حادا في انتقاده للنظام، ومعاداته أمريكا في ذات الوقت، ميالا لتقبل أفكار "فتح" العلمانية، وتفهّم توجهاتها السياسية ..
في تلك الأمسيات الطويلة، كان يتحدث بحرقة وألم عن وضع العراق المخيف، عن خسارته مكانته الدولية، عن مئات الآلاف الذين قضوا نحبهم بلا مقابل، عن السياسات الغبية التي وضعت البلاد أمام مستقبل مجهول، عن التحولات العميقة التي ضربت البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمع العراقي. كان يتحدث بسخرية وحسرة عن عبقرية والده التي أُهدرت عبثا على يد مخبرين من الدرجة العاشرة، وكان مرعوبا من الفتنة الطائفية التي بدأت تطل برأسها، ومع كل هذا ظل رافضا لفكرة الهجرة.
بعد عودته الأخيرة لبغداد، بدأ نشاطاته بالكتابة عن أفكار "باقر الصدر" مبديا إعجابه به وبكتبه: "اقتصادنا"، و"فلسفتنا"، ثم أخذت كتاباته تأخذ منحاً آخر، إذ أخذ يكتب عن الإمام الحجة، وعن التهيؤ لاستقباله. وبأسلوبه المميز في الكتابة، وطلاقة لسانه كسب الكثيرين من المتعاطفين والمعجبين بأطروحاته، خصوصاً في أوساط الشباب الذين رأوا فيها شيئا جديدا ومختلفا: نظرة ثورية إنسانية تقوم على التسامح، وتجريد الدين من الشوائب التي علقت به في زمن الطائفية، ونبذه أعمال العنف والاقتتال المذهبي. ولكن هذا الأمر لم يدم طويلا؛ إذ أخذ يروّج للمنهج الصوفي العرفاني، ثم أعلن عن تأسيس حركته المعروفة باسم "ثورة الحب الإلهي"، والتي بدأت نشاطها في بغداد في العام 2006، ثم استطاعت زيادة رقعة امتدادها لتشمل مناطق أخرى خارج بغداد.
كانت الحركة في بداية تأسيسها حركة إيمانية بسيطة، تدعوا إلى حب الله، والسمو بالإنسان وحل جميع مشاكله من خلال التوجه إلى الله، تشبه في ذلك مناجاة الحلاج وفلسفة ابن عربي وتأملات جلال الدين الرومي، ثم تطورت شيئا فشيئا إلى أن أصبحت تدعو إلى إسقاط التكاليف الشرعية في العبادات، والاكتفاء بتعلم حب الله، وكيفية التعامل معه.
بهذه المعتقدات والتي تُعد نوعا من الأدب الصوفي، أراد "الحبيب المختار" أن تتحول حركته إلى ما يمكن اعتباره دين جديد، دين قادر على أن يبتلع جميع الأديان والمذاهب الموجودة؛ إذ يرى محللون مختصون أن مؤلفات "المختار" وأدبيات الحركة تخلو من أي ذكر للقرآن أو النبي أو الأئمة. حيث يؤكد مؤسسها (صديقي خالد) أن من لا يؤمن به وبثورته في الحب الإلهي هو بعيد عن الله، وأن دعوته موجهة لكل الناس وليست للشيعة فقط، وأنها ستؤآخي بين كل البشر، وأن على كل من يسلك هذا الطريق (ثورة الحب الإلهي) أن يصبح زاهدا، متقشفا، يأكل الخبز اليابس، والطعام الرديء، وأن يمتنع عن تناول اللحوم.
وكنوع من إثبات الولاء ومن أجل قياس درجة الطاعة التي وصلها أتباعه، كان يقوم بإجراء اختبارات ميدانية لهم، فمرة أبلغهم بضرورة التبرع بكل ما يملكون، وفعلاً فعلها الكثيرون منهم، وفي اليوم التالي أعادها لهم، ومرة أمرهم بعدم الصيام في رمضان، قد أفطروا بالفعل.
لكن التحول الأخطر حدث حين أخذ يدعو لنفسه في كتابه "المنهج الإلهي" بأنه قد تولى رسميا، وبأمر من الله منصب الولاية المطلقة على المسلمين في العالم، وأنه هو الإمام المهدي المنتظر، وأن النداء الإلهي قد أمره بفتح مدرسة الحب الإلهي، والتي تدعو إلى الله فقط، موضحاً أن كل الأنبياء والأوصياء قد دخلوها، وأنه قد توج من الله خليفة له على الأرض. ولكن إعلانه هذا عن "مهديته" وأنه "وليّ المسلمين" و"خليفة الله" قد أدى الى انفضاض الكثير من أتباعه عنه، ومنهم ممن كانوا يقدمون له الدعم والتمويل.
وبدون الخوض في جدالات فقهية أو عقائدية، لإثبات صحة أو بطلان معتقداته وأفكاره، نتساءل: ما الذي يجعل شابا نقيا خلوقا، على درجة عالية من العلم والثقافة، أن يتحول إلى هذا المستوى المتطرف في الطرح الديني، لدرجة أن يدعي أنه الحبيب المختار، والمهدي المنتظر، وخليفة الله ؟! وهو الذي طالما كان يرفض الخرافات والأوهام، والمعتقدات الشعبية الساذجة !!  

وفي قصة متصلة، بطلها صديق من نفس الكلية، كان على علاقة طيبة بِ"الحبيب المختار"، لكنه انتهى بمسار آخر مختلف كلياً؛ إنه الأردني "جـرّاح". كان "جـرّاح" من أنشط الطلبة، وأكثرهم حيوية ومرحا، اجتماعي جدا، يحب الحياة واللهو. بعد التخرج تقطعت بنا السبل، إلى أن شاهدته ذات مساء في مقابلة خاصة على قناة الجزيرة، بدا فيها بلحية كثيفة، ووجه متجهم، وبلباس أفغاني، ويدعو للجهاد في أرض الرافدين. في العام التالي التقيته بطريقة ما، فقد كان مطلوبا للمخابرات باعتباره واحدا من أبرز قيادات تنظيم القاعدة.

رغم أن روحه ما زالت مرحة؛ إلا أنه بدأ حديثه معي بمقدمة تشبه مقدمات خطبة الجمعة، داعيا الله لهدايتي (على طريقته) مبديا أسفه وندمه على أيام "اللهو" و"المجون" حين كنا نسهر للصبح على أغنيات أم كلثوم وفايزة أحمد ونصحو على صوت فيروز، طالبا مني أن أشطب من ذاكرتي كل تلك اللحظات التي أهدرناها بدون ذكر الله، مؤكدا أنه الآن شخص مختلف، قدوته أبو مصعب الزرقاوي وأسامة بن لادن ..

على أية حال، لست هنا بموقع الحكم عليه، أو على غيره، فكل إنسان حر بأفكاره ومبادئه .. ولا أملك إلا أن أحترمها .. وبعيدا عن تحليل الأسباب والحيثيات التي أدت إلى بروز ونمو ظاهرة الإسلام السياسي، أتساءل مرة ثانية: ما الذي حدث وغيَّر "جرّاح" و"خالد" ؟!!

قد يقول البعض إنه استغلال الدين لأغراض سياسية أو شخصية .. وهو أمر معروف منذ أقدم الأزمان، لكني وبحكم معرفتي الوثيقة بهاتين الحالتين (على الأقل) استبعد ذلك تماما، رغم أنها مسألة مستقرة في أعماق العقل الباطن لدى معظم الناس، منهم من يمارسها بوعي وإرادة، ومنهم بتلقائية وبدون وعي .. إلا أني أحبذ الغوص أكثر والبحث عن الأسباب والدوافع التي تجعل من البعض (بشكل عام) يصل إلى أقصى حدود التطرف، مستخدما الدين أو غيره من أدوات السيطرة، لينتهي به المطاف شخصية أخرى لا تشبه تلك التي كانت ظاهرة لنا في وقت سابق.

في ظل أجواء الحرب والتهديد وانعدام الأمن يلجأ الناس للدين، لأنه يوفر لهم ملاذا آمنا، ويمنحهم الراحة النفسية التي يحتاجونها بشدة في تلك الظروف. وإلى هنا المسألة طبيعية وفي حدود المتوقع، لكن أن تصل الأمور إلى حد التوهم والتطرف والغلو، فهذا يتطلب تحليلا نفسيا يسبر إلى أغوار النفس البشرية، ويدرس طموحاتها ومخاوفها وهواجسها.

في الحالتين السابقتين نرى رغبة جامحة في التفرد والتميز، بالرغم من التناقض الكبير بين من يدعو للحب الإلهي والسمو بالإنسان، ومن يدعو للعنف والقتال بنَفَس ومنهج طائفي .. وبغض النظر عن المضمون والمحتوى، لدى كل واحد منهما طموح شخصي لأن يصبح شيئا متميزا يُشار إليه بالبنان، وأن يصبح في وضعية لا تؤمن له الحماية وحسب؛ بل وتجعل منه صاحب نفوذ وذو شأن. وهذه مسألة طبيعية شأنهم في ذلك شأن المغامرين والفنانين والجنرالات وكل من يبحث عن الشهرة، والفرق بين حالة وأخرى هو الفرق بين طبيعة كل إنسان وسماته الشخصية، بحيث يكون توجهه انعكاسا لروحه، وما يدخره عقله الباطن، وما أثرت فيه بيئته وظروفه .. ولا يختلف في هذا من سلك دروب العنف، ومن وظّف الدين للوصول إلى مبتغاه، ومن قذف بنفسه من جرف شاهق ليسجل رقما قياسيا ..


في فترة التقلبات الجذرية وما يعقب عنها من فوضى عارمة وتيهان وفقدان للبوصلة وحتى للأمن الشخصي تتفاوت ردود الأفعال بين الناس، فمنهم من ينأى بنفسه وينزوي، ومنهم من تتضخم الأنا لديه بصورة نرجسية مشوهة، وفي كل الحالات يجد كل صاحب توجه المبررات والمسوغات اللتي يقنع نفسه بها، متوهما أنه على الجانب الصحيح، لا بل في قمة الصواب.

هناك تعليق واحد:

  1. الأخ العزيز عبد الغني :
    رغم جمالية تقريرك وشرعية تساؤلاتك إلا أنك وضعت من يدعو الى الحب الإلهي بنفس الميزان مع من ذهب بإتجاه العنف الدموي ، ولا أعتقد أن في ذلك إنصافاً ، مع ثقتي بأنك لم تقصد أن تظلم أو تغبن ، وأعتقد أن فكر الحبيب المختار هو فكر إنساني إصلاحي أسلامي مُعتدل يدعو الى الحب الإلهي والمحبة بين السنة والشيعة ، وهو لو أصغي إليه في العراق لما حدثت الفتنة الطائفية ، وأن المعلومات التي لديك عنه غير دقيقة ومُبالغ بها ، فهو يحترم الإسلام والقرآن والرسول محمد (ص) وأهل البيت الأطهار (ع) ولكنه يريد تقديم منهج إيماني إنساني يُزيل التشدد والتعصب والتطرف والعُنف ..
    مع تحياتي ومحبتي لك ماجد المحب

    ردحذف