أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يناير 27، 2014

جنون الاستبداد


قبل مدة وجيزة أصدر الزعيم الكوري الشمالي "كيم جونج اون" حكما بإعدام زوج عمته، (الرجل الثاني فى البلاد) بتهمة الخيانة والتفكير في الانقلاب، وهنا لا تكمن الغرابة في حكم الإعدام بحد ذاته، أو لصلة قرابة الضحية بالرئيس؛ فهذا كثيرا ما يحدث في سياق الصراع على السلطة، بل الغرابة في كيفية تنفيذه؛ إذ أعدمه مع خمسة من معاونيه بتجريدهم من ثيابهم وزجّهم في زنزانة، ثم أدخل عليهم 120 كلبا ضخما، كان قد جرى تجويعها لثلاثة أيام خلت، بينما الرئيس و300 عضو بارز في الحكومة يشاهدون الكلاب وهي تلتهمهم أحياءً، في عملية استمرت أكثر من ساعة. وبعد أقل من شهر قام بجمع كل أقارب زوج عمته، وكان من بينهم أطفال ونساء ودبلوماسيين، وأعدمهم جميعا.
ونلاحظ هنا أن وحشية الإعدام لا تعكس تعطشا للسلطة وحسب، بل وتكشف عن أنواع من الجنون تصيب كل الزعماء المستبدين، يسمونه جنون العظمة، وهذا المرض يدفع صاحبه للاعتقاد بأنه لم يُخلق مثله من قبل، ولا يمكن أن تتكرر عبقريته لأحدٍ من بعده. قد يكون هذا المستبد قد بدأ حكمه بطريقة صحيحة، كإنسان طبيعي؛ إلا أنه متى ما تركزت السلطات بيديه، وجمع كل الصلاحيات، وأصبحت سلطته مطلقة، سيتحول بالتدريج إلى طاغية ومستبد، وبسبب أوهامه وجنونه سيدمر البلاد ويقودها للتهلكة. والمصيبة تكون أكبر عند أولئك الذين يرثون السلطة عن دكتاتور، يعني يأتي للحكم "مجنون جاهز"، ولنا من التاريخ أمثلة لا حصر لها:
فمثلاً، في العام 1966 أطلق الزعيم الصيني "ماوتسي تونغ" ما عُرف حينها بالثورة الثقافية، أو ثورة البروليتاريا الكبرى، تحت شعار محاربة البرجوازية العفنة، وبناء مجتمع شيوعي جديد؛ فقام الزعيم حينها بدفع الملايين إلى الريف ليتعلموا الحياة الزراعية من الفلاحين، وليزرعوا محاصيلهم حسب طريقة "ماو"، حيث كان يأمرهم بزراعة محاصيل معينة دون غيرها.
لكن هذه الثورة التي ما يزال شبحها ماثلا حتى اليوم، مزّقت المجتمع الصيني في ذلك الوقت العصيب من تاريخ الصين الحديث، لأنها في حقيقة الأمر كانت عملية اجتثاث لمن أسماهم "ماو" ممثلي البرجوازية، الذين اخترقوا الحزب الشيوعي الصيني وأرادوا حرفه عن مساره، لتأكيد سلطاته المطلقة في الصين، وفي النتيجة وبعد سنتين كانت البلاد قد غرقت في الفوضى التي راح ضحيتها ملايين البشر، فضلا عن سجن وتعذيب الملايين، وتخريب جانب كبير من تراث الصين الثقافي، ومع نهاية عام 1968 كانت الثورة الثقافية قد جعلت الصين على شفا حرب أهلية، وفي العام التالي اجتاحت البلاد مجاعة رهيبة أودت بحياة الملايين، إلى الحد الذي دفع بمعظم العائلات وخاصة في الأرياف أن تختار واحدا من أبنائها - في أغلب الأحيان كان الولد الأكبر - بحيث تخصص له النـزر القليل مما لدى العائلة من طعام حتى يجتاز المجاعة وينجو بحياته، بينما أخوته الإناث يمتن جوعا أمام ناظري أهلهن، دون أن يكون بمقدورهم عمل شيء سوى النحيب.
وفي فترة حكم "الخمير الحمر" لكمبوديا (1975 ~ 1979) قُتل أكثر من 1.5 مليون شخص (هناك تقديرات بأنهم 3 مليون)، معظمهم قُتل في عمليات إعدام جماعي، كانت تضم حفلة الإعدام الواحدة بضعة آلاف، عدى من قضى تحت  التعذيب في معسكرات الاعتقال، أو في الأعمال الشاقة، وهناك متاحف كبيرة تضم تلالا من جماجم الكمبوديين، في تلك الحقبة المظلمة حاول الزعيم "بول بوت" تطبيق نوع راديكالي متشدد من الشيوعية الزراعية، حيث كان يجبر كل المجتمع على نوع محدد من الهندسة الاجتماعية، فيقتصر عملهم على الزراعة مثلا، ومن أجل تطبيق نظريته المجنونة، التي تعتبر التجارة والصناعة ممارسات برجوازية يجب القضاء عليها، قام بتفريغ العاصمة "بنوم بنه", وكافة المدن والضواحي من سكانها، وحصرهم في مجتمعات زراعية، ما أدى إلى خراب البلاد، ووقوعها في حرب أهلية.
أما الرئيس التركماني السابق "صابر نيازوف" (1999 ~ 2006)، فقصته غاية في الغرابة والجنون؛ فبعد انتخابه بنسبة 99.5% نصّب نفسه رئيسا مدى الحياة، ومباشرة أطلق على نفسه لقب تركمان باشا (أي أبو التركمان)، ثم ملأ كل الساحات والميادين بصوره وتماثيله، كما أطلق اسمه على معظم المؤسسات والهيئات والجمعيات في الدولة، وحوّل مكان ميلاده ومدرسته إلى مزارات مقدسة.
وقد ألف كتابا أسماه "روح نامه"، وكان يقول عنه: "من يقرأ كتابي ثلاث مرات سيصبح حكيماً، وسيدخل الجنة مباشرة"، وجعله مقررا أساسيا في مدارس وجامعات تركمانستان، وأمر بتعليق نسخة منحوتة منه أمام بوابة أكبر مساجد العاصمة "عشق آباد" مع لوحة بجانبه كتب عليها: "روح نامه كتاب مقدس، والقرآن كتاب الله"، ولنشر بركاته في ربوع الأرض أمر بترجمة كتابه إلى 30 لغة، وأرسله مع صاروخ روسي، ليطلقه في مدار حول الأرض.
وفي قرار غريب أمر الرئيس جميع الرجال بحلق شواربهم ولحاهم وحظَر عليهم إطالة شعورهم، كما أمر بإعادة تسمية كل أشهر السنة وأيام الأسبوع بأسماء جديدة من ضمنها اسمه واسم والدته. كما حدد مراحل جديدة لحياة الإنسان، بحيث تنتهي مرحلة الطفولة في سن الـ: (13)، والمراهقة في سن الـ: (25)، وألغى القَسَمَ التقليدي للأطباء، واستحدث قسماً جديداً: (بعد تخرجي طبيبًا وخلال ممارسة مهنتي، أقسم بأن أحترم مبادئ صابر مراد تركمان باشا)، وقبل وفاته بفترة وجيزة أطلق اسمه على نوع جديد من البطيخ الأصفر معروف برائحته الزكية.
وكان للرئيس نيازوف هوس جنوني بسمعة بلاده، حيث كان مصراً على أن تركمانستان تخلو تماما من الأمراض الخطيرة، ولإثبات ذلك أمر وزير الصحة بالرقابة على الأطباء لمنع تشخيص أي مرض عضال، خاصة السرطان، وغيره من الأمراض ذات السمعة السيئة، وبدلا من ذلك كان يدعي الأطباء أن المريض مصاب بالرشح مثلا، ويصفون له مسكنا لمنع الاحتقان، وإذا ثبت على أي طبيب أنه شخّص مرضا خطيرا يكون مصيره السجن والحرمان من ممارسة المهنة.
وإذا ما داهمت المنطقة جائحة خطيرة تنتقل عدواها من خلال الهواء كالحمى القلاعية، أو جائحة أنفلونزا الطيور فإنه يمنع صرف أي لقاح، أو اتخاذ أي تدابير وقائية، لأن هواء بلاده نظيف وصحي ومحمي ببركاته.
وبعد موته ظن الشعب أن خليفته "قربان محمدوف" سيكون أقل جنونا، إلا أنه بعد أشهر قليلة من توليه الحكم، قلّد نفسه وسام الأمة، ومنح نفسه ميدالية ذهبية كبيرة مرصعة بالماس، إضافة إلى علاوة في راتبه تصل إلى 30% (العلاوة تبلغ عشرون ألف دولار)، وذلك بمناسبة احتفاله بعيد ميلاده الخمسين، كما أصدرت الحكومة التركمانية، بهذه المناسبة "السعيدة"، عملات ذهبية وفضية تذكارية تحمل صور الرئيس الحالي للبلاد.
أما الزعيم الليبي "معمر القذافي" فقد مثل نموذجا مختلفا للجنون؛ فقد ألف "الكتاب الأخضر" وفرضه على مناهج المدارس، وابتدع ما أسماه "النظرية العالمية الثالثة"، معتبرا نفسه مخلص العالم ومنقذ البشرية، كما منح نفسه مجموعة ألقاب غريبة: الزعيم الأممي، ملك ملوك إفريقيا ... وفي إحدى المرات ظهر على شاشة التلفزيون الوطني، وهو جالس في مكتبه مادا قدميه في وجوه المشاهدين، وغارقا في الصمت، واستمر المشهد لساعات متواصلة، دون أن ينبس بكلمة، بينما في أسفل الشاشة عبارة بالخط العريض: "الزعيم يفكر".
وبعد سقوط النظام عثرت المعارضة في مدينة بنغازي على ملفات سرية في مديرية الأمن تسمى بملفات (طمس النجوم)، وحسب المعلومات التي أظهرتها تلك الوثائق، فإن النظام سعى طيلة فترة سيطرته على ليبيا إلى تتبع كل المواهب البارزة في كل المجالات، وخصص لذلك جهازا يهتم بمتابعة حالات التفوق، وتجميع البيانات حولها وإرسالها بشكل دوري إلى العاصمة، وبناء على هذه التقارير فإن الدولة كانت تضع توصيات صارمة الغرض منها عرقلة المتفوقين، وعدم الاهتمام بهم، وسد كل الطرق التي تؤدي إلى شهرتهم !!
لكن أغرب شطحاته كانت في مجال السجون (عدى عن مذبحة سجن أبو سليم التي راح ضحيتها المئات)، فقد كان النظام في أحد السجون المركزية يقضي بأن يتحول السجين الذي ينهي فترة حكمه من المهاجع الداخلية للسجن، إلى مهاجع أخرى في نفس السجن يقضي فيها ما تبق من حياته.
طبعا في بلادنا العظيمة نماذج فريدة من الجنون، تحتاج دراسات موسعة، وربما مراكز أبحاث.

وقديما قالوا: "السلطة المطلقة، مفسدة مطلقة". وأُضيف: جنون مطلق. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق