أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يناير 05، 2014

رقصات الشعوب

يُقال (على ذمة الراوي) أن الرقص هو أبو اللغات، بل أنه سبقها، ومهّد لميلادها؛ حين كان الإنسان يعبّر عن رغباته وأفكاره بلغة الجسد، مستخدما يديه وتعابير وجهه بدايةً، ثم جسده كله، بحركات تعبيرية أخذت تتحول شيئا فشيئاً إلى لوحات فنية، وقد ترافق مع الكلام وبنفس مسار التطور الذي تحولت فيه الكلمات من مجرد أصوات تخرج من الحنجرة، إلى كلمات مفهومة، وحتى صارت أغاني وأهازيج، أُوكِلت إليهما (الأهازيج والرقصات) مهمة نقل وترسيخ الأفكار والأساطير والتجارب الحياتية إلى الأجيال اللاحقة.
وقبل أن تعرف الكتابة والتدوين؛ تميزت كل مجموعة بشرية بأغانيها ورقصاتها الخاصة، لتسجل من خلالها تاريخها ومعتقداتها، حتى أنها مثّلت في تلك المراحل التاريخ بحد ذاته، بما حملته من ذكريات الماضي وروح الأجداد.

وللرقص علله الأولى وغاياته، ومن ثم فهو فلسفة خاصة لدى كل شعب، تسيّره طبيعة ذلك الشعب وبيئته وظروفه وثقافته؛ فحين عجزت الكلمات، نجح الرقص بسرد قصة الحياة الاجتماعية للشعوب بكافة جوانبها: في الجانب الديني أبرزَ تقديس الآلهة المختلفة، وكان ضرباً من العبادة، كما عبّر عن الشخصية الحربية للقبيلة متمثلة بحركات الفروسية العنيفة التي يؤديها الراقصون، وهم يلوّحون بأسلحتهم التقليدية، وفي الجانب الإنساني أظهر بوضوح قصص الحب والعشق بحركات بسيطة ومباشرة، كما عكس الرقص تأثير الطبيعة والبيئة على الإنسان، فجاء متضمنا ما يرمز إلى البحر والغابة والصحراء والجبل، وما تحتويه من كائنات حية وغيرها من مظاهر الطبيعة، وتحدث أيضا بحركاته الرشيقة عن صور الحياة اليومية وأنشطتها المختلفة من زراعة وحصاد وحياكة وصيد ..
كما ظهر الرقص في مراحل لاحقة عند بعض الشعوب كوسيلة للتعبير عن الظلم والاضطهاد، مثلاً رقصة "الفلامنكو"، التي نشأت في إسبانيا كانت احتجاجا على الملك "فرناند" الذي أراد لسكان أسبانيا جميعا أن يكونوا من المسيحيين الكاثوليك؛ حيث هرب المضطهدون إلى غرناطة التي كانت تحت سيطرة المسلمين، وابتدعوا هناك غناء ورقص "الفلامنكو" الحزين، الذي يعتمد على الإيقاع وسرعة ضربات الأرجل المعبرة عن الغضب والإستياء. وفي فترة العبودية في أمريكا كان للسود كنائسهم الخاصة بهم، فجاءت تراتيلهم ورقصاتهم حزينة، لكنها مفعمة بالحركة تعبيرا عن الاحتجاج.
فالرقص، من أقدم الوسائل التي كان الإنسان من خلاله ينفّس عن انفعالاته، ويُخرج مكنوناته الحبيسة، ويعبر عن عواطفه المكبوتة، أو يمارسه بدافع المسرة والابتهاج، حتى صار وسيلته الشائعة في التعبير عن مشاعره العميقة ومخاوفه وهواجسه وصلواته عبر الحركات الرتيبة الموزونة المستمدة من نفس الطبيعة من حوله، والتي كانت أصلا  تتحرك وفق إيقاع مدهش؛ كحركات موج البحر، وتموجات الحقول الخضراء التي تداعبها أنامل الريح، ورقصات الطيور وحيوانات البرية.
 وقد مثَّل الرقص الخطوة الأولى نحو الفنون .. بدأ بذلك المزيج المتناسق من الأصوات التي صنعها الإنسان (كالناي والإيقاع) وهو يتحرك بتناغم معها، بجسمه المتأرجح، ودبيب قدميه، وقفزاته، ثم وفي مرحلة لاحقة ابتكر الأناشيد الحماسية، التي تطورت إلى الشعر والأغاني، ومن ثم الموسيقى وبقية الفنون.
والرقص عند الشعوب البدائية، كما بينته بعض الرسومات القديمة، كان مرتبطا بالدين، مارسه الإنسان قديما  كوسيلة للتقرب من الآلهة. وكان نوع من التعبير عن الشعور الجماعي، يؤدى ضمن طقوس معينة؛ ففي الهند مثلا كانت بعض الفتيات العذارى يرقصن في المعابد تبجيلا للآلهة، كما أن العرب قبل الإسلام كانوا يرقصون عند تقديم القرابين والنذر إلى اللات والعُزّى، كما كان سكان أفريقيا يرقصون من أجل سقوط المطر أو لتجنب الفيضان، فيما كان سكان أستراليا الأصليين يأدونه لطلب النجاح في الصيد أو الزراعة، أو لطلب المساعدة من خطر يحدق بهم، وكان الهنود الحمر يقومون برقصة "بقرة الوحش" التي يؤديها مجاميع كبيرة من الرجال والأطفال والنساء، حيث يلبسون أقنعة مصنوعة من الجماجم لإخافة الأرواح الشريرة الحاملة للمرض لطردها، والتي تدل على حب البقاء والتمسك بالحياة. وكانت القبائل البدائية تمارس رقصات الحرب لتكسب الآلهة إلى جانبها في معركتها الآتية، ولإثارة الحمية في قلوب المحاربين ..
 كما كان الرقص، وما زال، أحد أهم النشاطات الاجتماعية، تمارسه الشعوب في طقوس جماعية في أعيادها وأعراسها ومواسمها ومناسباتها الخاصة، كما يمارسه الأفراد بحرية في غرفهم الخاصة، لدوافع مختلفة. في العصور الوسطى كان الرقص الجماعي مقتصرا على النبلاء وبلاط الملوك. أما الرقص كنشاط اجتماعي بقصد الترفيه والتسلية فلم يظهر إلا في عصور حديثه نسبيا.
وغالبا ما تكون الرقصات الجماعية تعبيرا عن حال المجتمع وبيئته وثقافته، وانعاكسا لواقعه الاقتصادي والاجتماعي، على سبيل المثال، كان المجتمع الكنعاني زراعيا، فجاءت رقصاته الشعبية على أنغام اليرغول، لتُظهِر برمزية عالية فصول الرواية الفلسطينية على مدار السنة؛ فبداية الدبكة الهادئة تمثل بداية الموسم، والقفزات تشير إلى نمو الزرع وكبره، حيث يرتفع ويشب إلى أعلى؛ وهنا نرى بروز الأثر الكنعاني في ذلك، ودق الكعب على الاستعداد والثبات، أما التكاتف والتشابك بين الشباب والصبايا فيدل على الوحدة والانسجام. بينما في الدبكة اللبنانية نلاحظ أوجه التشابه، مع زيادة وتعقيد أكثر في الحركات.
وفي مثال آخر، لدى إحدى القبائل البدائية في أستراليا رقصة تسمى "رقصة الزورق"، يقف فيها الرجال والنساء صفوفاً وهم يحملون العصي التي ترمز إلى المجاديف، وعندما تشرع الأجسام في الحركة تأخذ العصي في التحرك تحركاً إيقاعياً يشبه حركة التجديف.
ولو أردنا أن نعرف أكثر كيف كانت رقصات الشعوب البدائية، لن نكون مضطرين للعودة لتلك الأزمنة السحيقة؛ فهناك شعوب تسكن حوض الأمازون، والجزر النائية في المحيط الهادي، ومجاهل الغابات الإفريقية ما زالت لليوم تعيش حياتها المشاعية الأولى بمعزل عن الحضارة الحديثة؛ وفي فيلم وثائقي يتناول حياة إحدى قبائل الأمازون (التي لا تعرف أي نوع من الملابس)، تظهر فيه الرقصات الجماعية للرجال والنساء وهم عرايا، تتكثف فيها لغة الجسد والإيحاءات الجنسية بشكل واضح، دون ممارستها فعليا. ولكن في مناطق أخرى من العالم (أستراليا وجزر الهادي) اتصلت شعوبها بالحياة العصرية بشكل أو بآخر، نلحظ أن الراقصين قد ارتدوا شيئا من الملابس، واكتسبت حركاتهم إيقاعات أكثر تعقيدا، لكنها ظلت رقصات مختلطة دون أي حرج.
أما في العصر الحالي فيمكن أن نلمس الجذور التاريخية وترسبات الثقافات القديمة وتقاليدها في الرقصات الحديثة، وغالبا ما نجد المرأة حاضرة بقوة، بأشكال وصور متباينة: (الجنس، الغواية، الأم، العطاء، الحنون، المعشوقة، الخادمة، التابعة، المشاركة، الداعمة .. إلخ) بحسب ثقافة المجتمع وتوجهاته، وأحيانا تكون متوارية في خلفية المسرح، مغيبة مهمشة كما هي في واقع الحال.
في بعض المجتمعات المحافظة كاليمن، ما زال الرقص بدائيا بسيطا يقتصر على حركات محددة يؤديها الشبان بخناجرهم دون وجود واضح للنساء، بينما في دول خليجية أخرى تظهر المرأة وهي تحرك رأسها بحركات دائرية رشيقة مظهرةً جمال شعرها، لكن دون ملامسة الرجال.
وجميع الرقصات الشعبية بشكل عام لها محتوى وجوهر وجداني واحد؛ حيث نلاحظ تطور وتفاعل في العلاقة العاطفية المتبادلة بين الشاب والفتاة المؤدين للرقصة، وهذا التسلسل يراد به الإشارة إلى التدرج المنطقي للعاطفة التي تتولد بين شاب وفتاة في الحياة العادية؛ فعند اللقاء الأول بينهما تكون لتلك العاطفة شكلا خجولا واختباريا، وعندما تزداد معرفتهما ببعض تأخذ تلك العاطفة شكلا آخر، وعندما يصلان إلى قمة الوفاق تصل تلك العاطفة إلى أوجها.
وهذا ما يبدو واضحا في رقصة "الجاغو" الشركسية؛ التي تبدأ بوتيرة معتدلة، ثم تميل للسرعة تدريجيا، حيث يشاهد الشاب الفتاة لأول مرة فتسمى "رقصة اللقاء الأول"، فهو معجب بها ويدعوها قبل البدء بالرقص، ثم يدور الشاب والفتاة حول بعضهما البعض بحيث يكون كل منهما على يسار الآخر، وهذه إشارة أنه لا يحق لأحد بأن يقاطع الشاب أثناء رقصه مع الفتاة؛ فهي تحت حمايته وعهدته، ثم يبدأ الحوار الراقص. وفي الرقص الشركسي أيضا نلحظ الكبرياء، والعنفوان والقوة الجسدية؛ فالشركسي كان دائم التنقل على جواده متمنطقا لسلاحه، متحفزا للهجوم والدفاع.
وهنا نلحظ نظرة المجتمع للمرأة؛ فالشاب لايحيد بعينيه عن الفتاة، بالمقابل فإن الفتاة بعكس الشاب لا تنظر إلى عينيه مباشرة، بل بشكل متواضع، يبدو فيه الخجل والحياء، (الذي يجب أن تتمتع به الفتاة، في حين على الشاب أن يكون جريئا).
أما في الرقصة الشيشانية، فيمكن أن نلحظ جذورها الدينية في طقوس عبادة الشمس، والتي مارسها الشيشان قديما. وهنا تأتي رقصة المرأة والرجل في حلقة دائرية تعبيرا عن حركة الشمس والقمر، أما احتضان أو احتواء خصر الراقصة بدون لمس جسمها، فهو دلالة على كسوف الشمس؛ وبهذا يُفَسَّر فن الرقص الشيشاني بأنه رقص يؤديه زوج فقط، وليس رقصا جماعيا.
في العصر الحديث، صار للرقص وظائف أخرى إضافية، حتى لمن لا يمارسه، حيث صار بإمكانه التمتع بمشاهدته، وقد تنوعت أشكال الرقص ومدارسه، من الباليه والرقص الكلاسيكي إلى الرقص المعاصر والتعبيري وغيره. ولم يعد الرقص مجرد حركات للجسد تسعى لتحرير طاقة الإنسان الداخلية من  كل أنواع الكبت والضغط؛ بل أخذ شكل اللوحات الفنية المعبرة، التي يراد منها إلى جانب الإبهار، وإظهار جمال الجسد وإمكانياته الحركية، سرد حكاية معينة، أو التعبير عن قضية ما، حتى نشأ ما يعرف بفن "الكريوغرافيا"، أي فن تصميم الرقصات.
وخلافا لرقص الباليه؛ فإن الرقص المعاصر يتمتع فيه الجسد بحرية أكثر، وهو لا يشتمل على حركات محددة ومفردات للحركة يتعين على الراقصين أداؤها، بل يعتمد بشكل أساسي على التحرك بشكل حر. على سبيل المثال ظهر "الديسكو" في منتصف القرن العشرين، بحركاته العنيفة والعشوائية للتعبير عن واقع الشباب ورفضه لما يتعرض له من ضغوطات ومصاعب شتى.
والرقص المعاصر على اختلاف أنواعه لا يكون إلا بمشاركة متساوية من قبل الرجل والمرأة، وفي هذا دلالة على تخطي المرأة للمكانة التي كانت فيها مجرد تابع، على عكس الرقص الشرقي، الذي يؤدى غالبا بشكل منفرد، وهذا النوع ورغم أنه شائع في مصر أكثر من غيرها، إلا أن أصوله تركية، ويعود إلى زمن الحريم، حيث كانت الجارية ترقص أمام أسيادها، كاشفة عن أنحاء من جسمها، فيما يكون الرجال متفرجين مستمتعين بالمنظر دون أي مشاركة فعلية في الرقص. وهو بهذا الشكل يعكس ذهنية معينة ترى المرأة ملكية خالصة للرجل، يتمتع بها كيفما شاء.
وأخيرا، وعبر هذه الرحلة السريعة وغير المتعمقة في تاريخ الرقص، يمكن القول أن الرقص عبارة عن وسيلة ربط بين الجسد والروح، يعبّر عن المشاعر الإنسانية الكامنة في الأعماق، يؤدى بشغف وإحساس عاطفي كبير، وذلك بتحريك أعضاء الجسد بأسلوب رشيق يتناغم مع الموسيقى، وأن كل المجموعات البشرية منذ فجر التاريخ وحتى اليوم عرفت الرقص ومارسته، ولكن كل بأسلوبه، ولهذه الأسباب يمكن اعتبار الرقص لغة عالمية، تجمع ما بين الشعوب، دون أي حاجة إلى ترجمة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق