أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يناير 03، 2014

حل الدولتين، ماذا حل به ؟ دراسة من جزئين (مواقف الأطراف المختلفة)

مقدمة:
قبل أكثر من عقد، وتحديدا بعد اعتداءات 11 أيلول مباشرة، أعلن الرئيس الأمريكي السابق "جورج بوش" في خطابه في الأمم المتحدة أن "من حق الشعب الفلسطيني أنه تكون له دولة مستقلة"، وكانت تلك أول مرة يعلن فيها رئيس أمريكي عن تأييده إقامة دولة فلسطينية. في ذلك الحين كان "أرئيل شارون" في ذروة حملته لتحطيم السلطة الفلسطينية، وتصفية خصمه اللدود "ياسر عرفات". المفارقة أن "بوش" امتنع عن مقابلة "عرفات" طوال فترتي رئاسته، على عكس "كلينتون" (عراب أوسلو) الذي استقبله أكثر من أي زعيم آخر في العالم، إلا أنه لم يعلن صراحة ولا لمرة واحدة عن دعمه إقامة دولة فلسطينية.

بعد تصريح "بوش" عمل كل من وزير خارجيته الجنرال "كولن باول" ومستشارة الأمن القومي حينئذ "كوندوليزا رايس" على تحويل تصريحه إلى مشروع أمريكي حمل اسم "خارطة الطريق"، صار يعرف اختصارا بِ "حل الدولتين"؛ ومنذ ذلك الوقت بات هذا المشروع حجر الأساس لكل جهود السلام المبذولة، وظل لفترة طويلة يزرع الأمل بحلٍ عادل وسلام شامل في المنقطة، ويلهم القادة والدبلوماسيين والمفكرين والصحافيين، ويستقطب الاهتمام به كفكرة ملهمة من الممكن لها إنهاء صراع دموي ومرير طال لأكثر من قرن.

لكن هذا المشروع لم ير النور بتاتا. وبعد أن كان من أهم المصطلحات التي يحلو لكل زعماء المنطقة وزوارهم استخدامه في خطاباتهم السياسية؛ أخذ يختفي من خطاباتهم شيئاً فشيئاً، ويفقد من قوة اندفاعه الأولى، ويذوى تدريجياً، بعد أن شكَّل نواة لحلٍ سحري كان كل ما يحتاجه قليل من الإنضاج، وحل الخلاف حول تفاصيل صغيرة، على ما يبدو كان الشيطان مختبئا بداخلها.

الآن، وبعد كل هذه السنين التي حملت الكثير من الأحداث والتقلبات، هل يمكن القول أن حل الدولتين انتهى تماما، وصار مجرد ذكرى بائسة ؟ بعد أن داسته جرافات الاستيطان أولاً، ثم أجهزت عليه الإدارة الأمريكية نفسها بانحيازها لإسرائيل. أم أنه ما زال يمثل أساسا صالحا لحل عادل ؟ ينتظر تغييرا ولو طفيفا في موازين القوى ؟ وهل تمسُّك القيادة الفلسطينية بهذا الخيار هو مطاردة خيط دخان ؟ سؤالنا باختصار: ماذا حلَّ بحل الدولتين ؟!

خلفية تاريخية

قبل البحث في مآلات المشروع، ومصائره، وإلى أين وصل، يتوجب علينا استحضار البيئة السياسية التي أنتجته، وفهمها وتحليلها، ولكن بعد أن نتفق على تعريف ماذا يعني حل الدولتين ؟

 مشروع حل الدولتين يعني باختصار شديد: حل النـزاع الفلسطيني الإسرائيلي بإقامة دولتين متجاورتين (دولة فلسطين، وإسرائيل) لتعيشان معاً بأمن وسلام على أرض فلسطين التاريخية. ورغم أن مصطلح "حل الدولتين" حديث نسبيا، إلا أن جوهر الحل الذي يحمله قديم، وجرى تحميله على أكثر من مشروع وقرار ومبادرة سياسية، منذ قرار التقسيم 181 عام 1947، وحتى اللحظة، أي من ناحية التوصل لحل سياسي يقضي بتثبيت دولة إسرائيل، والقبول بها مقابل إحلال السلام في المنطقة وإنهاء حالة الصراع؛ ولكن تلك الحلول والمقترحات لم تكن تشير لقيام دولة فلسطينية، أو لمنح الفلسطينيين حق تقرير المصير، بل أنها كانت في البداية تتجاهل وجودهم كشعب له حقوق سياسية؛ حتى أن الفلسطينيون أنفسهم لم يتعاطوا مع هذه المقترحات بإيجابية، وظلوا متمسكين بهدفهم الأساسي: تصفية الكيان الإسرائيلي وتحرير كامل فلسطين.

لكن منذ العام 1974 حصل أول تغيير في الخطاب السياسي الفلسطيني، وذلك بتبني البرنامج المرحلي ذو النقاط العشر، والذي يقبل بقيام سلطة وطنية على أي أرض فلسطينية ينسحب منها الاحتلال؛ وعلى إثر هذا التحول ونتيجة له بدأ المجتمع الدولي يتفهم الحقوق الفلسطينية ويتعاطى معها بإيجابية.

وفي العام 1988، تبنى المجلس الوطني الفلسطيني إعلان الاستقلال، وطرح مبادرة "هجوم السلام الفلسطيني" المتضمنة مبدأ القبول بقرارات مجلس الأمن 242، 338، والتي على إثرها بدأ أول حوار فلسطيني أمريكي في تونس.

بعد حرب الخليج الأولى، (والتي انتهت بهزيمة العراق ومن ثم تفكك الاتحاد السوفيتي) انطلق مؤتمر مدريد للسلام بتمثيل فلسطيني جزئي وتحت مظلة أردنية، ومع تعثر المفاوضات وتعنّت الوفد الإسرائيلي، الذي تلقى تعليمات من "شامير" بأن تبقى المفاوضات تراوح مكانها عشرات السنين !! ومع ظهور بوادر انتخابات إسرائيلية مبكرة كانت مؤشراتها تدل على فوز حزب "العمل" دخل الطرفان (منظمة التحرير وحزب العمل) في مفاوضات سرية انتهت بقلب الطاولة، وخلق معطيات جديدة تمثلت بالاتفاق على إعلان مبادئ سمي اتفاق أوسلو.

ووفق هذا الاتفاق، كان من المفترض أن يوقع الطرفان في نهاية الفترة الانتقالية (أيار 94 ~ 99) اتفاقاً نهائياً يؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية. لكن إسرائيل بدلا من ذلك أمعنت في سياسات الاستيطان والاعتقال والاغتيالات. وفي تموز 2000 عقدت مباحثات كامب ديفيد برعاية أمريكية مباشرة انتهت بالفشل، وتحميل الجانب الفلسطيني مسؤلية فشلها، الأمر الذي مهَّد لانطلاقة الانتفاضة الثانية في أيلول 2000.

في كانون أول من نفس العام عُقدت من جديد جولة مباحثات في "طابا" لإنقاذ الوضع، ثم تقدم الرئيس الأمريكي "بل كلينتون" بمقترحات للسلام كان يفترض بها أن تفضي للوصول لحل للوضع النهائي بقيام دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل.

ومع اندلاع الانتفاضة، وتصاعد وتائر العنف من جديد، شهدت المنطقة العديد من المبادرات السياسية الهادفة لإيجاد حل للنـزاع، أبرزها مقترحات "تينيت" و "ميتشل"، ثم مبادرة السلام العربية التي تم الاتفاق عليها بالإجماع في قمة بيروت 2002، ثم مبادرة الاتحاد الأوروبي 2003، التي سرعان ما التقطتها الولايات المتحدة وصاغت منها مبادرتها الخاصة، والتي عرفت بِ "خارطة الطريق". ثم صدور قرار مجلس الأمن 1397 الذي دعا إسرائيل والفلسطينيين إلى العودة للمفاوضات والوصول إلى حل دولتين لشعبين.

جميع هذه المبادرات كانت تدعو للانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة، وتجميد الاستيطان، ووقف أعمال العنف "المتبادل"، وتهيئة الأجواء لقيام الدولة الفلسطينية، إلا أن إسرائيل ظلت تتهرب من تنفيذ البنود المتعلقة، بها، وتراهن على كسب الوقت لبناء حقائق مادية على أرض الواقع بالقوة.

حل الدولتين – ومواقف الأطراف المختلفة

بالنسبة للفلسطينيين

بالنسبة للفلسطينيين؛ فإن الهوية السياسية تشكّل حجر الزاوية في كفاحهم الوطني، فهي ليست مجرد هوية إقليمية تضاف للهويات الإقليمية في المنطقة؛ بل هي عمل مقاوم بحد ذاته، وشرط أساسي لمواجهة المشروع الإسرائيلي، وأداة لتثبيت صمود الشعب فوق أرضه. لذلك، منذ انطلاقتها، ركزت الثورة الفلسطينية على إبراز هذه الهوية، وعلى التأكيد على الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها حقه في تقرير المصير، وعلى إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية بصفتها قضية سياسية قبل أن تكون مأساة إنسانية، ذلك لأن سؤال الهوية الوطنية في مرحلة التحرر الوطني ليس مجرد سؤالاً فولكلورياً، إنما هو عملية صنع ومراكمة القيم الوطنية الجامعة، وتحويل الموروث الثقافي إلى مشروع وطني مقاوم، وهوية وطنية وسياسية، لا بد من إبرازها في الساحة الدولية. ببساطة، لأن المشروع الاستيطاني الصهيوني قام في الأساس بهدف تصفية الوجود الفلسطيني ليحل محله.

بهذا المعنى، يمكن فهم تركيز الخطاب السياسي الفلسطيني على مسألة الهوية الوطنية، بكل تجلياتها المادية، وأهمها بالطبع إقامة دولة فلسطينية مستقلة. ولمّـا كان إقامة هذه الدولة على كامل التراب الفلسطيني يعني تحرير فلسطين، وبالتالي خوض حرب إقليمية، تحتاج قبل أي شيء آخر إحداث تغيير جذري في موازين القوى، وفي المعادلات السياسية التي تحكم المنطقة، وتغيير الأنظمة القائمة، وتحالفاتها الدولية .. وهذه كلها أمور خارج حدود القدرات الفلسطينية، الأمر الذي أنضج خطابا فلسطينيا جديدا اتسم بالواقعية السياسية، أهم عناوينه القبول بدولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967، وهو ما شكَّلَ جوهر البرنامج الكفاحي الفلسطيني لمنظمة التحرير بداية، ومن ثم فصائل المقاومة الأخرى وأهمها حركة حماس، التي لحقت به بعد ثلاثة عقود.

ضمن هذا المناخ السياسي ووفق هذه المعايير، كانت القيادة الفلسطينية تصيغ مواقفها؛ فتقبل أو ترفض. في مراحل سابقة، كانت مواقفها مدعومة بقوة البندقية، وبالموقف الشعبي، وبالتحالفات الدولية .. لكن في السنوات الأخيرة، تراجعت البندقية، وحصل الانقسام، وهيمنت أمريكا على الخارطة السياسية للمنطقة بشكل غير مسبوق، وأخذت إسرائيل تتمادى في سياسات الاستيطان والتهويد دون رادع.

وفي خضم هذه المتغيرات، جاء مشروع حل الدولتين في السياقات التي أشرنا إليها، وقد رأت فيه القيادة الفلسطينية بارقة أمل، ومخرجا معقولا من الأزمات الداخلية التي تعصف بها، والاستعصاءات الخارجية التي تكبلها، سيما وأنه يكتسب قيمته الأساسية من كونه حلاً وسطاً بين المواقف المتصارعة، ومبادرة أميركية خالصة، جرى الإشادة بها والثناء عليها من جانب مختلف القوى والعواصم النافذة.

لكن حل الدولتين في المنظور الأمريكي يختلف عما هو عليه في المنظور الفلسطيني؛ فأمريكا تريد حلا سياسيا ينهي الصراع، دون أن تستند للركائز الحضارية التي يقوم عليها الصراع، ولا لمعايير الحق التاريخي والأخلاقي، لذلك لم يتضمن مشروعها التأكيد على حق العودة، وجعل من إعلان الدولة والاستقلال قضية قابلة للتفاوض. وهذه شكلت نقطة ضعف قاتلة في المشروع، سيما وأن أمريكا لم تمارس أي ضغط حقيقي على إسرائيل، فالنسبة للطرف الفلسطيني إعلان دولة فلسطين والسيادة عليها, هي حق فلسطيني سيادي لا يخضع للتفاوض، وهو ليس بديلاً عن حق العودة.

فقد شكلت قضية اللاجئين جوهر القضية الفلسطينية، وعقدة أعصاب الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، كما أنها مثلت التجسيد المكثف لمأساة الشعب الفلسطيني؛ أي التجسيد السياسي والإنساني والأخلاقي. وبهذا المعنى أضحى الموقف من حق العودة معياراً أساسيا بناء عليه يمكن قبول أو رفض أي مبادرة سياسية. والقضية هنا تتخطى بالتأكيد البعد الوجداني والأخلاقي، لأنها قضية سياسية بامتياز.

ومن ناحية ثانية، فإن الاحتلال الإسرائيلي المحكوم بالفكر الصهيوني في الممارسة الأيديولوجية والسياسية يدرك هذه الحقيقة أيضا، وعليه فأنه يعتبر حق العودة خطاًّ أحمرا يهدد المشروع الصهيوني برمته، ولهذا يصر الطرف الإسرائيلي دائماً على حشر قضية اللاجئين الفلسطينيين في الزاوية الإنسانية التي لا يتعدى التعامل معها مفهوم لم شمل بعض العائلات، وذلك بهدف إخراج القضية والنقاش من دائرة الاستحقاق السياسي والمسؤولية التاريخية.

ولو فككنا مصطلح "حل الدولتين" إلى عوامله الأولية، لوجدنا أنه يتكون من شقين (متلازمين)؛ الأول يقضي بقيام دولة فلسطينية متصلة على حدود الرابع من حزيران، وهو موقف تكاد تتفق عليه جميع الفصائل والقوى الفلسطينية، مع إضافة شروط يصر الفلسطينيون عليها، وهو أن تكون الدولة خالية من المستوطنات، والقدس عاصمتها، وإيجاد حل عادل لقضية اللاجئين. الشق الثاني يتعلق بإسرائيل، وبما أنها دولة قائمة بالفعل منذ العام 1948؛ فالمطلوب حسب المشروع، هو الاعتراف بها، وضمان أمنها، وقبولها كدولة عادية من دول المنطقة. وهذا الشق توافق عليه رسميا منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية (رسائل الاعتراف المتبادل 1993)، وأيضا كافة الدول العربية (حسب مبادرة السلام العربية 2002)، إلا أن الفصائل الوطنية (بما فيها فتح وحماس) لم تعلن صراحة وبشكل رسمي قبولها هذا البند، وإن كانت عمليا تقر به وتتصرف على أساسه.

واستنادا إلى ما تقدم، يمكننا القول بأن الموقف الرسمي الفلسطيني يقبل بحل الدولتين، وهذا ينطبق على الفصائل الفلسطينية وفي مقدمتها حركتا فتح وحماس، وفق الشروط التي طالما أُعلن عنها بشكل واضح ودون مواربة. ومع ذلك يصعب القول أن الشعب الفلسطيني بأكمله يُجمع على قبول حل الدولتين، رغم أن غالبية استطلاعات الرأي تشير دوما إلى أن أكثر من نصف الشعب الفلسطيني يؤيدون حل الدولتين، فحسب آخر استطلاع أجراه مركز "اوراد" فإن نسبة التأييد لحل الدولتين بين الفلسطينيين، بلغت 54% من المستطلعة آراؤهم.

وفي مقابلة مع الدكتور "نبيل شعث" أكد فيها أنه حتى الآن ما زال الموقف الفلسطيني الرسمي المطروح هو حل الدولتين، معبرا عنه بقرارات اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي لمنظمة التحرير، وفي مجلس الوزراء الفلسطيني وفي اللجنة المركزية لحركة فتح، وكل التنظيمات الأخرى، حيث ما زال السعي للوصول إلى دولة مستقلة على حدود ال 67 وعاصمتها القدس مع حل قضية اللاجئين، وهذا هو الموقف القائم حاليا ولم يتغير. وأضاف "شعث": "أستطيع القول أنه إذا حصل شيء بعد خروجنا من المفاوضات، فهو التركيز على حل الدولة الفلسطينية المستقلة، والحصول على اعتراف من كثير من دول العالم بهذه الدولة، ونجاحنا في الحملة الدبلوماسية في دول أمريكا اللاتينية ثم الآن حملتنا المركزة على دول الاتحاد الأوروبي، والسعي للحصول على عضوية كاملة في المنظمة الدولية، أي لتكريس حل الدولة الفلسطينية المستقلة".

والشعب الفلسطيني بالرغم أنه محب للسلام، ومؤمن به، وموقن أن مصالحه الوطنية مرتبطة بتحقيق السلام العادل والشامل؛ إلا أن فكرة تقبل وجود إسرائيل والاعتراف بها، والتعايش مع اليهود مسألة أخرى.

وهناك العديد من المثقفين والكتاب الذين يعارضون حل الدولتين؛ المفكر "منير شفيق" يرى أن حل الدولتين يعني التخلي عن حق العودة، والتسليم بكل الحقوق التاريخية للصهيونية مع التشديد على الاعتراف «بإسرائيل اليهودية» كما جاء على لسان جورج ميتشل.

المحلل السياسي "عبد الستار قاسم" يرى أن حل الدولتين وهم قديم وخدعة كبيرة عاشتها السلطة الفلسطينية، ويضيف: "استعمل الاحتلال المفاوضات منذ العام 1996 لتحويل الفلسطينيين إلى وكلاء أمنيين وإداريين، بعد ذلك استعمل المفاوضات لاستهلاك الوقت ولاستنـزاف الشعب الفلسطيني معنويا ووطنيا"، وأكّد على أن حل الدولتين غير موجود في أي اتفاق بين السلطة والاحتلال الإسرائيلي، والذي أقدم على الاتفاق مع إسرائيل كان يعي تماما أنه لا يوجد حل من هذا القبيل؛ لأنه كان هناك أمر واقع تفرضه إسرائيل. وفي نظريتها الأمنية ما زال البند الذي يقول إنه لا يوجد غربي نهر الأردن إلا دولة واحدة وهي دولة إسرائيل قائما وحقيقياً.

الموقف الإسرائيلي من حل الدولتين

منذ احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة في حزيران 1967 وجدت إسرائيل نفسها مرغمة على مواجهة واقع جديد (السكان العرب)، وهذه المواجهة ستشكل عنوانا رئيسا لمأزقها التاريخي؛ فإسرائيل أولاً - كما هو معروف - لها أطماع وأحلام توسعية، ولكن لا إمكاناتها الذاتية ولا الواقع الدولي يسمحان لها بتحقيقها، وهي ثانيا تدّعي أنها دولة اليهود التي أقامها الرب على أرض الميعاد لشعب الله المختار! وأنها واحة الديموقراطية في صحراء التخلف العربي ! إذاً كيف ستتعامل مع الملايين من البشر الذين يقطنون فوق الأرض التي احتلتها ؟؟ سؤال مصيري لا بد من الإجابة عليه ..

 فهؤلاء "السكان" سيشكلون لها معضلة كبرى وعنوانا لمأزقها الحتمي؛ فإذا ضمّتهم للدولة سيشكلون أغلبية، وبذلك تفقد هذه الدولة طابعها الديني / القومي الصهيوني، ولا تعود دولة اليهود أحادية القومية التي وعدت بها الحركة الصهيونية يهود العالم، وبذلك تنهار الدعاوى الدينية والمزاعم التاريخية التي استندت إليها الحركة الصهيونية في إقامة إسرائيل، وإذا قمعتهم وصادرت حقوقهم المدنية لن تعود واحة الديموقراطية كما تطرح نفسها أمام العالم، وإذا شرعت بعمليات القتل أو الترحيل ستكون نموذجا أسوأ من نظام الأبارتهايد في جنوب إفريقيا، وهذا الأمر لا يحتمله حلفائها.

وأمام هذا الواقع، ومع تفاقم خطر القنبلة الديموغرافية، باتت إسرائيل أمام خيارين إزاء الأرض وإزاء من أسمتهم سكان المناطق: إما ضم هذه الأرض بسكانها ودمجهم بالدولة واحتوائهم وسلخهم عن محيطهم العربي، وإما ضم الأرض، ولكن بعد تفريغها من السكان بشتى الوسائل، وهي في الواقع قد عملت على الخيارين بنفس الوقت، لكنها أخفقت في تحقيق مسعاها هذا (الضم أو الترانزفير)، الأمر الذي دفع بالقيادة الإسرائيلية إلى اتخاذ قرار الفصل بين الشعبين والبحث عن بدائل أخرى.

وفي الجهة المقابلة، في ذات الوقت، وبعد سنوات من الصراع الدامي، والتنقل في المنافي، كانت القيادة الفلسطينية بحاجة للأرض، لاستكمال مشروعها الوطني، وللتحرر من الجغرافيا السياسية. وكان لالتقاء المصالح بهذه الطريقة، بعد أن عجز الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي عن تحقيق غاياتهما بأن يهزم أحدهما الآخر، قد خلق الأرضية التي قامت عليها اتفاقية أوسلو، والتي على أساسها تأسست السلطة الوطنية.

ربما يكون اتفاق أوسلو قد شكَّل حلا مؤقتا عمل على تأجيل المأزق الإسرائيلي لبعض الوقت، لكن السلطة الوطنية الفلسطينية التي أفرزتها أوسلو لم تقبل بأن تظل مجرد سلطة بلا صلاحيات, وبلا أفق سياسي يحيلها إلى دولة؛ فبعد سنوات من المواجهة المباشرة، بدأت السلطة الوطنية مسارا جديدا أوصلها لنيل الاعتراف بها كدولة مراقب في الأمم المتحدة.

لكن إسرائيل المتفردة بالسيطرة على أرض الواقع، أرادت إحباط المشروع الوطني الفلسطيني بمشروع إسرائيلي يستهدف الأرض والإنسان، ويرمي إلى تقويض أسس بناء دولة فلسطينية قابلة للحياة، وقد أخذت بتطبيق ذلك بانسحابها من قطاع غزة (2005) مع فرض حصار خانق عليه، ثم قضم الأرض وبناء المستوطنات والجدار في الضفة الغربية وتهويد القدس ومحاصرة وخنق الاقتصاد الفلسطيني، حتى يتسنى لها في النهاية فرض الحل الذي تريده وهو: إبقاء قطاع غزة معزولا ومحاصرا ومنفصلا عن الضفة - بعد أن خرج من دائرة الأطماع الصهيونية – ثم تنفيذ خطة الانطواء أو الانسحاب أحادي الجانب من أراضي ومدن معينة في الضفة الغربية تمهيدا لفرض الحل الدائم الذي تسعى له، وهو إقامة دويلة فلسطينية مجزأة مقطعة الأوصال بدون سيادة لا تمتلك السيطرة على مصادر المياه والثروات الطبيعية ولا السيطرة على الحدود وبدون القدس، مع حل شكلي باهت لقضية اللاجئين، والإبقاء على الكتل الاستيطانية الكبيرة، ثم تسميته "حل الدولتين"، هذا الحل يتيح لإسرائيل التغلب على المشكلة الديموغرافية، ويعفيها من مسؤولياتها تجاه "السكان"، ويريحها من عناء الضغوطات الدولية، وفي نفس الوقت يبقي سيطرتها الأمنية على الأرض.

وعند رصد الموقف الإسرائيلي إزاء حل الدولتين، سنجد مستويين متناقضين من التفاعل معه: المستوى الإعلامي ونجد فيه إشادة بحل الدولتين، واعتباره الحل الأمثل، والقاعدة الأساس التي ينبغي بناء التسوية السلمية عليها .. إلخ. أما عند المستوى الفعلي، فنجد فيضٌ لا حد له من الممارسات على أرض الواقع التي تعمل بشكل منهجي على إفشال وتفشيل حل الدولتين، أو أي حل آخر فيه دفع استحقاقات السلام العادل والشامل.

فمثلا، دعا الرئيس الإسرائيلى "شيمون بيريز" إلى تحقيق حل الدولتين، باعتباره الحل الوحيد الذي يضمن لـ"الشعب الإسرائيلى"، والشعب الفلسطيني العيش بأمن وسلام.  فيما اعتبرت وزيرة العدل الإسرائيلية "تسيبي ليفني" المكلفة بملف المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين أن حل الدولتين يصب في مصلحة إسرائيل.  وفي تصريح لوزير الدفاع "يهودا باراك" قال فيه أمام الكنيست: "إن حزبنا، حزب العمل، انضم لحكومة "نتنياهو"، لأسباب من بينها أننا اتفقنا على أن تلتزم الحكومة بجميع الاتفاقيات التي وقعتها الحكومات السابقة، ولأننا ملتزمون بخارطة الطريق، ونرغب في وجود دولتين لشعبين، كل ذلك دون التفريط فى مخاوفنا الأمنية".  كما اعتبر وزير المالية "يائير لبيد" أن المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين باءت بالفشل حتى الآن لأن هناك أهدافا مختلفة للجانبين؛ ففي حين يريد الفلسطينيون تحقيق السلام والعدل يريد الإسرائيليون تحقيق السلام والأمن. وشدد "لبيد" على أن الحل الأمثل لهذه القضية هو حل دولتين لشعبين، وأن إسرائيل ليست بحاجة لان يعترف بها الفلسطينيون كالدولة القومية للشعب اليهودي.

ورغم أن تصريحات المسؤولين الإسرائيليين تندرج ضمن الدعاية الإعلامية الموجهة، إلا أن هذا لا ينفي وجود قوى وفعاليات داخل المجتمع الإسرائيلي تؤيد حل الدولتين عن قناعة، فمثلا نشرت صحيفة الإندبندنت مقابلة مع الناشط اليساري الإسرائيلي "أوري أفنيري"، الذي تبنى رؤية دولتين لشعبين قبل أن تصبح مقبولة للحكومات الإسرائيلية بعقود، انتقد فيها الممارسات الإسرائيلية، ودعا لحصول المواطنين العرب في إسرائيل على حقوق متساوية مع مواطني الدولة من اليهود، وأضاف: "خرجتُ من حرب العام 1948 مقتنعا بأننا بحاجة إلى السلام، وأن هناك شعبا اسمه الشعب الفلسطيني، وأن إبرام معاهدة سلام مع الفلسطينيين يعني إقامة دولة لهم بمحاذاة دولة إسرائيل".

ويصر "أفنيري" على قناعته بإمكانية تحقيق حلم الدولتين على الرغم من سياسة الاستيطان الإسرائيلية التي يرى معها البعض استحالة إقامة دولة فلسطينية، ويقول إن مليونا ونصف المليون مستوطن فرنسي أجلوا من الجزائر خلال أسبوع، وهو ما يعني أن المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية الذين يتجاوز عددهم النصف مليون يمكن أن ينقلوا إلى إسرائيل في حال التوصل إلى اتفاق. ويرى أفنيري أن الحرب، أو العزلة الدولية، أو الخوف من اختلال التوازن الديموغرافي لمصلحة الفلسطينيين كلها عوامل قد تجبر الحكومة الإسرائيلية على تقديم تنازلات.

وهناك أصوات عديدة محسوبة على اليسار الإسرائيلي تتقبل فكرة حل الدولتين، وهي آخذة بالتزايد، لكن اليسار الإسرائيلي بصورة عامة يبقى ضمن المؤسسة الصهيونية.
مواقف الأطراف الأخرى من حل الدولتين

المجتمع الدولي، ومنذ فترة ليست بسيطة اعترف بحق الفلسطينيين بتقرير مصيرهم وإقامة دولتهم المستقلة على حدود الرابع من حزيران، وعاصمتها القدس الشرقية. وقد عُبِّر عن هذا الإجماع الواسع من خلال عدد لا بأس به من قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، كان آخرها اعتراف الجمعية العمومية في تشرين الثاني 2012 بفلسطين كدولة مراقب.

الولايات المتحدة في الأساس هي صاحبة مشروع حل الدولتين، بدأ ذلك في عهد "بوش"، واستمر في عهد "أوباما". الاتحاد الأوروبي أعلن بشكل واضح وفي أكثر من مرة عن دعمه حل الدولتين، واعتباره للمستوطنات غير شرعية، وأنها أهم عقبة أمام التوصل لحل سلمي،  نفس الموقف عبرت كل من روسيا والصين واليابان، والعديد من العواصم في مختلف الدول، وهذا ينطبق أيضا على مختلف الأطراف والمحافل الدولية ..

وفي مؤتمر أنابوليس الذي التأم في السنة الأخيرة من ولاية الرئيس بوش الثانية، كان مشروع حل الدولتين محور المؤتمر، وقد مثّل الأرضية السياسية التي انعقد عليها ذلك الاجتماع، بحضور نحو خمسين دولة ومنظمة دولية، وشكل قاعدة التفاهمات العريضة التي جرت في فضائها المفاوضات الثنائية لنحو عام لاحق.

الدول العربية ومنذ تبنيها لمبادرة السلام العربية بالإجماع في قمة بيروت آذار 2002، وهي تعلن دعمها وتأييدها لحل الدولتين. العاهل الأردني عبد الله الثاني في تصريح له قال: "إن حل الدولتين سيمنح إسرائيل أمناً حقيقياً وعلاقات طبيعية مع 57 دولة عربية وإسلامية". وتابع: "نعلم الطريق الصحيح الذي يجب أن نسلكه، ونعلم أنه بإمكاننا تحقيق الهدف، والمتمثل في تسوية عادلة ونهائية قائمة على حل الدولتين، ترتكز إلى الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية".

 الجاليات اليهودية في الخارج أعربت عن قلقها العميق أكثر من مرة إزاء سياسات الاستيطان، وجاء في مذكرة وقعها أربعون من الزعماء اليهود الأميركيين إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو": "إن تقرير لجنة ليفي الذي اعتبر البؤر الاستيطانية في الضفة الغربية قانوني، يعرّض حل الدولتين ووضع إسرائيل في المجتمع الدولي للخطر". وجاء أيضاً في المذكرة: "بوصفنا من المساندين بقوة لأمن إسرائيل ورفاهيتها كدولة يهودية وديمقراطية، فإننا قلقون بشدة إزاء تقرير اللجنة الحكومية التي يرأسها القاضي المتقاعد "ادموند ليفي" الذي يرى أن إسرائيل لا تنطبق عليها معايير دولة احتلال عسكري في سيطرتها على الضفة الغربية"، وأضافوا: "ضمان مستقبل إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية يتطلب قيادة ديمقراطية وسياسية وليس مناورات قانونية".

ورغم كل ذلك، ظل مشروع حل الدولتين يراوح في فضاء الكلام والشعارات والوعود، دون نتيجة، لأن المشكلة تكمن في المجتمع الدولي الذي لا يمارس أي ضغط حقيقي على إسرائيل لإرغامها على الانصياع للشرعية الدولية، والتوصل لسلام عادل وشامل عن طريق حل الدولتين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق