أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

نوفمبر 06، 2013

عن الانتحار في السويد


ذكرت تقارير صحافية عديدة صادرة عن جهات مختلفة أن "السويد" تأتي في مقدمة دول العالم في معدلات الانتحار. وهي ظاهرة بالإضافة لكونها مقلقة، تستحق الوقوف أمامها طويلا، والبحث في أسبابها ومسبباتها، ولكن، قبل تحليل دلالاتها وأبعادها ينبغي التأكد أولاً من مدى مصداقية هذه التقارير.

وجه الغرابة في هذه التقارير، أن بلداً ينعم بالأمن والاستقرار والرفاهية، أكثر من أي بلد آخر في العالم من المفترض أن يكون مواطنيه راضين وسعداء، فلماذا ينتحر أيٍ منهم ولديه كل أسباب الحياة الكريمة ومقوماتها !!؟ فإذا كان هذا ما يحدث مع شعب السويد المترف؛ فماذا أبقوا لشعوب العالم الثالث الذين لديهم ألف سبب للانتحار ؟!

ربما يكون مشهد الانتحار أفظع وأغرب عمل يمكن أن يقدِم عليه أي إنسان، فهو من ناحية يمثل قمة التراجيدية الإنسانية على مسرح الحياة، حيث يكون فيها "بطل" المشهد هو القاتل والقتيل في نفس الوقت. ومن ناحية ثانية هو من بين أكثر الموضوعات إثارة للحيرة والدهشة، أي الدهشة من تلك القوة الغريبة التي تسيطر على الإنسان وتدفعه لإنهاء حياته. وأغرب ما في المشهد لحظة تنفيذ قرار الانتحار ؟ اللحظة التي تمثل ذروة المأساة؛ حين يفقد المنتحر كل أمل في الحياة، ويختار طائعا (أو مكرهاً) أن يغادرها على الفور.

الانتحار ليس بالظاهرة الجديدة؛ فقد عرفتها الشعوب القديمة، وأدخلتها طقوسها الدينية والفلسفية؛ فمثلاً انقسم فلاسفة الإغريق حول الانتحار، فيما اعتبر محاربو "الفايكنج" القدامى الموت الطبيعي أمرا مهيناً للمحارب؛ فإذا ما أحس أحدهم أنه موشك على الموت فإنه يضع حدّاً لحياته بنفسه بطريقة "لائقة"، أما محاربو "الساموراي"، فلقد لجئوا إلى الانتحار على طريقة "الهاراكيري"، فإذا ما أحسَّ مقاتل بأنه سيقع في الأسر؛ فإنه يقطع أحشائه بسيفه. والتاريخ قدّم لنا أيضاً العديد من الأمثلة عن حالات انتحار لشخصيات مرموقة لم تجد أمامها خيارا حينما أُمتحنت كرامتها سوى الانتحار: هنيبعل، وكليوباترا وزنوبيا وغيرهم. ألا أن الكرامة ليست السبب الوحيد للانتحار. فهناك حالات انتحار لشخصيات ناجحة بالمعايير المجتمعية السائدة، مثل الروائي الأمريكي 'أرنست همنجواي'، والكاتب السويدي 'وليام موبيري'، والممثلة الشهيرة 'مارلين مونرو'.

وجاء في تقرير أصدرته منظمة الصحة العالمية، بأن أكثر من مليون و200  ألف شخص يقدمون على الانتحار في العالم سنوياً. وكشف التقرير الذي صدر في العام 2010 أن أعمار غالبية الفئات المنتحرة تتراوح ما بين 15 ~ 45 عاماً، وأن الأمراض النفسية والذهنية كالاكتئاب، وانفصام الشخصية، والوسواس القهري، والإدمان على الكحول والمخدرات تأتي في مقدمة أسباب الانتحار، يليها أسباب اجتماعية ونفسية أخرى مثل الفشل في الدراسة، أو انهيار علاقة عاطفية، أو البطالة، أو الإفلاس، وأيضا هناك الأمراض المزمنة والمستعصية، والفراغ والوحدة واليأس، والقلق .. وكلّها دوافع لإقدام الكثيرين في القارات الخمس على الانتحار بإرادتهم "المهزوزة" أو "القويّة" .. لا فرق.

ومع أن الكثير من هذه الأسباب موجودة في المجتمع، ويعاني منها أغلب الناس، لكنهم يتعاطون معها بطرق ودرجات متفاوتة، وقلة قليلة منهم تختار "الانتحار"، ذلك لأنه ليس بالقرار السهل الذي يمكن أن يتخذه الإنسان كل يوم. لهذا فإن البعض اعتبر الشخص المنتحر شجاع وذو إرادة صلبة، لم يقبل بأن تمتهن كرامته، فاختار الموت على حياة بلا معنى. بينما اعتبر آخرون أن المنتحر جبان وأناني وذو شخصية مهزوزة وغير قادر على المواجهة، فاختار الهروب. ومنهم من رأى في المنتحر شخص مضحّي، أراد أن يعبر عن احتجاجه على قضية ما، ولكن بالتضحية بحياته. وبالرغم من هذا الخلاف إلا أن المجتمعات الإنسانية جميعها ترفض الانتحار وتدينه، والديانات السماوية كلها شددت على تحريم الانتحار، والإسلام اعتبر الانتحار نوعا من قتل النفس التي حرم الله.

علماء النفس وعلماء الاجتماع، كتبوا الكثير عن هذه القضية، ومن خلال تقسيمهم المنتحرين إلى فئات عمرية، وجنسية، وإلى طبقات وشرائح اجتماعية، ومستويات تعليمية، ومادية، وتحليل البيانات والإحصاءات المتعلقة بهذا الموضوع، توصلوا لنتائج عديدة، أهمها أن العوامل النفسية الضاغطة التي توصل الشخص للانتحار من الصعب اختزالها في عامل واحد، أو إرجاعها لسبب محدد، أو حصرها في منطقة ما دون غيرها.

وبالرجوع للتقارير الصحافية والمقالات التي تحدثت عن نسب الانتحار في الدول المختلفة، نجد أن أغلبها أجمعت على أن "السويد" تحتل المرتبة الأولى في نسب الانتحار في بورصة الانتحار العالمية. ولكن بالتدقيق نجد الكثير من التباينات والتناقضات بين هذه التقارير، كما نجد المبالغات والأرقام غير المنطقية، والتفسيرات السطحية المجتزأة، التي ترى الحقيقة بعين واحدة، وبجكم مسبق.

ومع ذلك، لا أحد ينكر - بما في ذلك المصادر الرسمية السويدية - أن ظاهرة الانتحار موجودة فعلاً في الدول الاسكندينافية بمعدلات مقلقة، لكن الخلاف حول أسباب هذه الظاهرة؛ باحثين كُثر اعتبروا أن الفراغ الروحي والملل والخواء الفكري أهم دوافع الانتحار في تلك البلدان، حيث تؤدي تلك العوامل إلى التيه والضياع وتعميق الشعور بالوحدة، وبالتالي فقدان حافز الاستمرار في الحياة. وآخرين أضافوا قلة الوازع الديني؛ حيث أن غالبية السويديين لا علاقة لهم بالدين، ولا يرتادون الكنيسة، ولا يؤمنون بالله.

ولكن الفراغ الروحي والأزمات النفسية وضغوطات الحياة ليست حِكرا على السويد؛ إنها نتاج الرأسمالية، وهي موجودة في كل المجتمعات الصناعية تقريبا. وبالنسبة للوازع الديني هناك مجتمعات لا دينية كثيرة حول العالم، ومع ذلك لم تركز التقارير على معدلات الانتحار فيها، كما ركزت على السويد.

وإذا ما استبعدنا العوامل المادية والاقتصادية كأسباب محتملة للانتحار، نظرا لأن الدول الاسكندينافية (وفي مقدمتها السويد) توفّر الدعم المادي والسكن وفرص العمل والتعليم المجاني والتأمين الصحي والرعاية الاجتماعية لكافة الفئات المجتمعية، لا يبقَ أمامنا سوى البحث في التفسير البيولوجي لشعوب تلك الدول والبيئة المناخية التي يعيشون فيها لعلنا نجد فيهما الجواب. ومعروف أن تلك البلدان تعيش شتاءات طويلة وشديدة البرودة، يترافق معها احتجاب شبه كامل للشمس لفترات طويلة جدا، وبالتالي ربما تكون هذه الظاهرة هي المسئولة عن زيادة أعداد المنتحرين، حيث تبعث الظلمة على الاكتئاب، وتسبب الغمّة في النفوس. وبما أن معدلات المنتحرين في تلك الدول في الصيف هي تقريباً نفسها معدلات انتحار نظرائهم في الشتاء، فإن تفسير ذلك يعود لطول فترات ظهور الشمس، الأمر الذي يؤدي إلى خلل واضطرابات في الساعة البيولوجية للإنسان (في الصيف والشتاء)، يتسبب بعدم انتظام ساعات النوم، وبالتالي اختلال توازن الدماغ، ينشأ عنه تعب وإرهاق نفسي قد يصل إلى حد الاكتئاب. لكن الملاحظ أن أغلبية الناس تمارس الرياضة وتشارك في النشاطات التطوعية بكثرة.

وعلى ما يبدو أن أغلب التقارير والدراسات التي زعمت أن السويد تتربع على قمة معدلات الانتحار في العالم، هي تقارير موجهة، ذات دوافع أيديولوجية وسياسية واضحة، تريد أن توصل إلينا رسالة مفادها أن نظام الحكم في السويد فاشل، وأن الرخاء والرفاهية تدفع الناس للانتحار، وبالتالي فهي "كماليات" غير مطلوبة، مع التأكيد على أن نماذج الحكم في العالم الثالث هي الأفضل، (سواء الأنظمة القائمة فعليا، أو الأنظمة الافتراضية التي تنتظر فرصتها في الحكم)، حيث لا يُقبِل رعايا هذه الأنظمة على الانتحار.

ولزيادة التأكيد على أن نموذج الحكم السويدي فاشل وغير صالح، وأنه بحد ذاته بيئة مفرّخة للمنتحرين، دأب كثير من الكتّاب على التنقيب على مثالب ومساوئ أخرى في المجتمع السويدي، مع شيء من المبالغة، من خلال استعراض تقارير وأخبار تتحدث عن الجرائم والمخدرات، أو عن حالات التحرش والاعتداء الجنسي، أو تلك التي تصف تفكك الأسرة وانحلال المجتمع، وسقوط القيم الأخلاقية، وخواء الإنسان وضياعه ...

القضية هنا ليست دفاعا عن السويد، ولا عن النظام الرأسمالي .. إنها قراءة في عقلية منهجية تجد في أخطاء الآخرين عزاء لها، وتغطية على فشلها. فلا شك أن مناظر السويد الخلابة تخفي ورائها الكثير من السلبيات والمثالب، وأنه بالرغم من جهود الدولة وبرامجها الهادفة لخدمة المواطنين، إلا أن الإنسان فيها ما زال يعاني من الأزمات النفسية وضغوطات الحياة الخانقة، التي قد تدفع بالبعض للانتحار. وفي هذا دليل بأن الحضارة الغربية (الرأسمالية) ما زالت عاجزة عن تحقيق سعادة الإنسان. وبالتعمق أكثر في الأدبيات الماركسية والاشتراكية والإسلامية سنجد كل عيوب الرأسمالية على أقبح ما تكون. لكن الدول الإسكيندنافية عامة قدمت نموذجا مختلفا في الاقتصاد الرأسمالي؛ نموذجا فيه الكثير من الاشتراكية والعدالة الاجتماعية والإنصاف في توزيع الثروة، وحقوق العمال، وشفافية الدولة. (رئيس الوزراء السويدي السابق، "يوران برشون"، اضطر للانتظار أكثر من ستة أشهر كي يأتيه الدور لإجراء عملية جراحية في العمود الفقري).

بعض الدراسات أشارت إلى أن نسبة الانتحار في الدول العربية والإسلامية هي الأقل. البعض أرجع ذلك لموقف الإسلام المتشدد بتحريم الانتحار. لكن الإسلام حرّم أيضاً القتل والسرقة والكذب والغش... ومع ذلك فإن كثير من الناس في المجتمعات الإسلامية تمارس هذه الموبقات أكثر من غيرها !! بعض المفسرين أوضحوا هذا التناقض معتبرين أن المؤمن حين يقدم على اقتراف أي معصية فإنه يبرر لنفسه ذلك، على أمل أنه سيعيش طويلا إلى أن يجد الفرصة للتكفير عن أخطائه، أما المنتحر فلن يجد أي فرصة للتوبة. لكن هذه التفسيرات تنطلق من فرضية أن الشخص المنتحر كان لديه ترف الخيار والتفكير.

ومع ذلك، التسليم بهذه الفرضيات فيه الكثير من التسرع، ذلك لأن دول العالم الثالث (وبشكل خاص الدول العربية) ليس لديها نظام توثيق فعّال، وتفتقر للشفافية وللإحصاءات الدقيقة، وربما لديها حالات انتحار أكثر مما نعرف، ولكن يتم التستر عليها، أو إهمالها، حيث في كثير من الأحيان يتم إخفاء أسباب الوفاة, أو يتم دفن الميت (بحجة إكرامه) دون تشخيص سبب الوفاة الحقيقي وبحضور طبيب شرعي.

الخلاصة

الانتحار ممارسة غير مسؤولة من شخص فقد القدرة على المواجهة واختار الهروب، لكن هذه الظاهرة المؤسفة موجودة في كافة المجتمعات الإنسانية على حد سواء. الأرقام التي تزعم بأن معدلات الانتحار في الدول الصناعية هي الأعلى غير دقيقة، ذلك لأن دول العالم الثالث تفتقر لنظم الإحصاء والتوثيق، وبالتالي فإن المقارنة غير موضوعية.

الفرق بين الدول المتقدمة والمتخلفة لا يكمن في نظام التوثيق وحسب؛ بل والأهم من ذلك في كيفية التصرف تجاه ظاهرة الانتحار وغيرها من الظواهر السلبية، فمثلا يستفيد المختصون من تلك الإحصاءات في البحث عن سبل معالجة هذه الظاهرة، وبشكل علني وفعّال، على عكس ما يحدث في الدول المتخلفة. وحتى ردود أفعال المجتمع تكون مختلفة.  

في الدول المتحضرة (وفي مقدمتها السويد) سرعان ما يلحظ الزائر حُسن التنظيم ودقته في الشوارع والمؤسسات وفي سلوك الناس، وفي أداء الحكومة وخدماتها، وتعاملها مع المواطنين، فمثلا لا ترى جنديا بسلاحه ولا حتى شرطي المرور، ومع ذلك فإن النظام والقانون يطبق بكل احترام. بينما في الدول المتخلفة (ومن بينها بلداننا العربية) فإن مظاهر الفوضى والعنف والقذارة وغياب القانون تجدها بكل وضوح بعد خمسة دقائق من دخولك لأي بلد عربي. وإذا ما تعمقت أكثر في حياة الناس الاجتماعية ستسمع كل ما هو عجيب وغريب من قصص وأحداث ومشاكل مجتمعية، وستُصدم بما تراه من أمراض نفسية وسلوكيات غير سوية وظواهر سلبية وعقليات متخلفة ... وحتى إفرازات النظام الرأسمالي وسلبيات المجتمعات الصناعية ستجدها في الدول العربية مع فارق بسيط، أنها مجتمعات استهلاكية غير منتجة، أخذت من الغرب أسوأ ما فيه، وتركت كل ما يمكن أن يكون مفيدا وصالحا.

وهذا لا يعني أبدا أن جميع الناس في البلدان العربية على نفس الشاكلة، وهذا ليس جلدا للذات، أو ترفعا عن المجتمع، أو الادعاء باكتشاف ظواهر غير معروفة .. كل من يعيش في البلدان العربية يعرف تماما كم نحن متخلفون. وفي نفس الوقت هذا الكلام لا يعني أبدا أن المجتمعات الغربية خالية من العيوب والمشاكل، وأن الإنسان فيها يحيا حياة سعيدة.

لا شك أن من يبحث ويتعمق في المجتمعات الغربية عامة (بما فيها السويد) وبعد أن يتخلص من تأثير المفاجأة، ومن حالة الانبهار بالتنظيم والنظافة وجمال المناظر ... سيجد فيها الكثير من السلبيات والمساوئ والعيوب، ليس لأنه لا يوجد مجتمع مثالي في العالم، وحسب؛ بل لأنها مجتمعات صناعية رأسمالية يختبئ في وسطها نظام متوحش، وقد ازدادت هذه الأنظمة توحشا في ظل نظام العولمة، في هذه المجتمعات يعاني المواطن من أزمات عديدة، ومن شعور بالاغتراب الذاتي، وحتى الحرية التي طالما تغنى بها النظام الرأسمالي، سرعان ما يتكشّف وجهها الحقيقي، فإذا بها عبودية لمعظم طبقات المجتمع؛ عبودية ناجمة عن استغلال الطبقات لبعضها، وعن صراع الفرد مع المجتمع، المجتمع الذي يشعر فيه الإنسان بضآلته أمام الآلة، وأمام المدينة التي تبتلعه دون أن يشعر به أحد. 

المفارقة (إذا كانت فعلا مفارقة) أن الهاربين من جحيم بلدانهم (المؤمنة) ومن نيران حروبهم الأهلية ليس عليهم سوى دخول الحدود السويدية (الكافرة) وتسليم أنفسهم لأقرب مخفر شرطة، ليعرفوا حينها (وربما لأول مرة) المعنى الحقيقي لاحترام الإنسان. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق