أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أكتوبر 31، 2013

على أرض السويد .. تعبت من المقارنات


تتجاوز مساحة السويد مساحة العراق بقليل، ويقل تعداد سكانها عن تعداد الفلسطينيين بمليون إنسان. لكن البلدان العربية كلها تحتاج إلى تخطي الكثير من المؤشرات والأرقام حتى تصل للمستوى الذي وصلته السويد منذ عشرات السنين. يتركز سكانها في الوسط والجنوب على مساحة لا تتعدى ال 10% من مجمل مساحة البلاد، والباقي عبارة عن غابات معزولة وجبال من الثلج يلفها الصمت الثقيل. في الصيف تغيب الشمس بعد منتصف الليل، ثم تعود لتطلع بعد سويعات قليلة، وفي الشتاء تشرق قبيل الظهيرة وتغرب قبل العصر، أما في شمال البلاد فيمتد النهار في الأصياف أياماً متواصلة، وإذا هبط الليل في الشتاءات الباردة؛ فإنه ينسى نفسه ويمتد لأسابيع طويلة .. لكن ليالي الشتاء الصافية والنقيّة تمنحك رؤية أكثر المناظر الطبيعيّة إثارة على الإطلاق؛ إنه الشفق القطبي الشمالي، حيث تتراقص ستائر ضوئيّة خضراء وحمراء وأرجوانيّة وتتداخل على خلفية سوداء ينيرها ضوء الشفق الذي يغطي أرجاء السماء، في مشهد لا يُنسـى.

ولطالما تخيلنا السويد ضمن صورة نمطية جرى اختصارها بالشقراوات وسيارات "الفولفو"، وجائزة نوبل؛ إلا أن زيارة هذا البلد الساحر تكشف عما هو أكثر من ذلك بكثير؛ فالسويد التي تُعد صناعاتها الأجود والأغلى ثمنا لم تبرع فقط في صناعة الصُّلب ومحركات "الساب" والإلكترونيات؛ بل وتفوقت في مجالات أخرى مهمة، فهي المصدر الأول للحديد والأخشاب والورق في أوروبا، بيوتها الجاهزة والمتنقلة هي الأجمل، وقواربها البحرية هي الأعلى سعرا، وهي في مقدمة الدول المصدرة للحليب ومشتقاته، والأكثر تنوعا، حيث تعتبر منتجات شركة "آرلا" الأوسع انتشارا في العالم، وفروع "الأي كِيا" تجدها في كافة القارات، ثروتها الحرجية تعادل ثروات العرب مجتمعة، مع ذلك فهي لم تهمل الزراعة ولا السياحة، وأيضاً، تُعَد أكثر البلدان صديقةً للبيئة، وقد نالت ستوكهولم جائزة أفضل عاصمة أوروبيّة تحترم البيئة للعام 2010. هذه المدينة الخلابة التي تتوزع بالتساوي بيت ثلثٍ للماء، وثلثٍ تكسوه حُلَّة خضراء، وثلث تتربع فوقه بنايات تاريخية زاهية الألوان، تفصلها عن بعضها شوارع واسعة وأرصفة أنيقة.

لكن سماتها الأهم لا تقتصر على هذه الجوانب وحسب؛ فبفضل جودة الحياة فيها، وصلابة البنى التحتيّة وتوفّر الرعاية الصحيّة والتعليم الأساسي والعالي لكافة المواطنين بالمجان، فإن الشعوب الأوروبية ذاتها تحسدها على المعايير العالية التي وضعتها لنفسها لضمان رفاهية مواطنيها وأمنهم، لذلك ليس مستغربا أن تكون أكثر دول العالم جذبا للمهاجرين، وهي تضم حاليا مهاجرين (حصلوا على الجنسية السويدية) أتوا من 200 دولة مختلفة، هؤلاء يشكّلون 14% من عدد السكان الإجمالي، والحكومة لا توفر لهم كافة حقوق المواطنة دون تمييز وحسب؛ بل وتحثهم على التكلم بلغاتهم الأم في بيوتهم، لكي يظل المواطن السويدي ثريا بلغاته ومعارفه. وربما هذا ما ميَّز المجتمع السويدي وجعله الأكثر تنوعا وغِنى، وقدرة على هضم الثقافات الأجنبية الوافدة إليه من مختلف أصقاع الدنيا في الفن والموسيقى والطعام والأزياء وتفاصيل الحياة اليومية، والأكثر قبولا للوافدين من شتى الأصول والألوان والأديان، دون أي إحساس بالعنصرية أو شعور بالفوقية. ذلك بالرغم من ممارسات بعض المهاجرين المشينة والمستهجنة.

فبعض المهاجرين جلبوا معهم بالإضافة لمشاكلهم الاجتماعية، عُقدهم وأمراضهم النفسية، وكبتهم المدفون بين ثنايا رغباتهم الحبيسة، ومفاهيمهم المتخلفة، فظهرتْ منهم سلوكيات مخجلة، فضلا عن بعض الجرائم الفظيعة. والبعض الآخر تفنن بالتذاكي على الدولة، واستغلالها بالكذب والتزوير والالتفاف على القانون، ثم صبّ اللعنات عليها واتهامها بالكفر والفسوق!! ورغم كل هذا ما زال المجتمع السويدي مرحّبا ومنفتحا، يلاقي زواره بابتسامة صادقة.

في السويد أمنٌ لا يتحقق مثيله إلا في أماكن قليلة من العالم؛ فمثلا تستطيع أي فتاة أن تمارس رياضة المشي في أي مكان، وفي أي وقت من اليوم، دون أن تخشى من التحرش أو الاعتداء، وتستطيع أي أسرة أن تقيم على أطراف غابة معزولة وتضمن أن يصلها البريد دون تأخير، وهذا ينطبق أيضا على الأيائل في أقاصي البلاد؛ حيث يصلها قوتها بالهيلوكبتر عندما يزحف الجليد على العشب وتنخفض الحرارة إلى حدٍ تعزُّ عنده أسباب الحياة.

ولا يقتصر الأمر عند الأمن الشخصي؛ فالمريض لا يخشى الإقامة في المستشفى، والأب لا يعدم صحته لتدريس أبناءه، ولا يقلق أي شخص من بلوغ أرذل العمر، لأن الدولة تتكفل بحياة المواطن وكرامته حتى مماته، ولا تسمح له بالنـزول إلى خط الفقر. فالسويد واحدة من أكثر الدول من حيث المساواة في توزيع الدخل، ولديها أدنى مستويات الفقر في العالم.

لكن رغم كل هذا الأمان - وربما بسببه - قُتل في العام 1986 رئيس الوزراء "أولف بالمه" وهم يهم بالخروج من باب السينما بصحبة زوجته، كما قُتلت في العام 2003 وزيرة الخارجية "آنّا ليند" وهي تتسوق وحيدة دون أي حراسة شخصية. وعندما قررت الشرطة السويدية التركيز أكثر على حماية الشخصيات العامة، رفعت عدد الحراس لكافة الشخصيات العامة في عموم البلاد إلى 130 جندي فقط.

ومع الأمن تأتي الأمانة؛ فرؤية غابة من الدراجات الهوائية، على سبيل المثال، مصطفة في الساحات العامة وأغلبها غير مقيد، دون أن يخشى أصحابها من سرقتها، تدل على مستوى أمانة الناس هناك، حتى أن المولات الضخمة تضع نظام محاسبة ذاتي للزبائن، بحيث يفرغ الزبون حمولة سلته أمام جهاز ليزر، ثم يخرج بطاقته المصرفية ويدفع حسابه كاملا. ولا أحسب أن بلادنا ستشهد مثل هذه الحالات في يوم من الأيام.

في البلدان العربية العتيدة إذا خذلتك سيارتك أمام القصر الجمهوري فقد ينتهي بك المطاف أمام لجنة تحقيق ستتهمك بالتآمر على أمن الدولة ومستقبلها. أما الساكنين في "القصر" فهم فوق العباد والقانون والدستور. في السويد القصر الملكي الفاخر الذي يعود لثلاثمائة سنة خلت، يستطيع أي مواطن أو سائح أن يدخله ويتجول في أروقته، باستثناء شقة صغيرة داخل القصر تعود للملك وعائلته، يستخدمها عندما يزوره الملوك والرؤساء والحائزين على جائزة نوبل. وليس هذا وحسب؛ فالملك يقتصر دوره عند البروتوكولات الدبلوماسية، وهو خاضع للقانون كأي مواطن. وعندما تجاوز السرعة المقررة على طريق خارجي التقطته أجهزة الرادار وأقلام الصحافة بالتقريع واللوم.

في المجتمع السويدي يستطيع أي شخص أن يمارس تفاصيل حياته كما يشاء بحرية تامة، معيار "العيب" الوحيد لديهم هم مخالفة القانون. حرية التعبير لا حدود لها، باستثناء التحريض على العنصرية أو العنف. العلاقات الاجتماعية تقوم على أساس الاهتمامات المشتركة بين الأفراد دون التقيد بمعايير القرابة واللون والجوار. (9.5) مليون سويدي لديهم (32) مليون عضوية تطوعية في منظمات غير ربحية مختلفة. للمرأة مكانة مميزة لم تنلها في أي مجتمع آخر، مساواة كاملة وحقيقية، في البيت والبرلمان والحكومة والمجالس المحلية .. وقد لعبت السينما السويدية دورا مهما في هذا الشأن، فخلال الستينات والسبعينات قدمت مجموعة من الأفلام الطليعية المثيرة للجدل، أفضت إلى ما يشار إليه الآن باسم "الثورة الجنسية".

المسيحية دخلت متأخرة جدا للسويد، والمجتمع السويدي رغم أنه محسوب على الكنيسة اللوثرية، إلا أنه بطبيعته غير متدين، حيث تشير الإحصاءات أن أقل من 2% من السويديين يرتادون الكنيسة، وربما يعود هذا لمؤسس السويد وموحدها الملك "غوستاف فازا" الذي بنى قصره على تلة فوق الكنيسة الأهم في السويد في "أوبسالا"، ونصب مدافعه باتجاه الكنيسة، في إشارة لخضوعها تحت سلطته السياسية، خلافا لمكانتها الكبيرة في الحياة السياسية في أوروبا في ذلك الوقت. وبعد غوستاف قدمت السويد للمجتمع الإنساني شخصيات كبيرة كان لها بصمة في التاريخ: مؤسس علم تصنيف النبات "لينيوس"، وصاحب أهم جائزة عالمية "ألفرد نوبل"، وسكرتير الأمم المتحدة "دوغ همرشولد"، و"الكونت برنادوت" ابن أخ الملك الذي قتلته العصابات الصهيونية، وصديق القضية الفلسطينية "أولف بالمه". 

الطبيعة هناك ساحرة، والمناظر خلابة، الأنهار والبحيرات لكثرتها فإن الناس لا تحفظ أسماءها .. النظام والترتيب والنظافة في كل شيء .. بعض المدن تحتاج أن يتضاعف عدد سكانها عدة مرات قبل أن تشهد أول ازدحام مروري. باختصار لا شيء في هذا البلد الرائع يدعوك للتوتر أو العصبية، باستثناء الهدوء المبالغ فيه أحيانا والبرد القارص .. مع ذلك علينا أن لا ننسى أن السويد بلد صناعي، وبالتالي لا بد أن ينشأ على هامشه يمين متطرف يقتات على أخطاء وممارسات شاذة لبعض المهاجرين، ومن المتوقع أن تكون هناك فئات ضعيفة، وعالم سفلي، وجريمة، ومخدرات .. لكنها تبق محصورة، وفي الحد الأدنى الذي لا يمكّنها أن تطغى على المشهد العام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق