أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يوليو 20، 2013

نملتان


في الزنزانة رقم 24 في سجن المخابرات المركزية، وقفتُ أسفل الطاقة العلوية أترقبُّ طلوع شمس اليوم الحادي والعشرين بعد المائة، كان قد مضى عليّ أكثر من ثلاثة شهور لم ألتقِ فيها آدميا، كان آخر من رأيته هو المحقق أبو السعود، الذي طالما حاول أن يكون لطيفا معي، إلا أني كنتُ أرى وراء ابتسامته المصطنعة صفاً من الجنود.

خلال تلك الليالي الطويلة، كدت أنسى أنَّ عالما كاملا خلف تلك النافذة الصغيرة، كنتُ لشدة وحدتي أتوق لسماع أي صوت، لرؤية أي مخلوق، حتى لو كانت بعوضة .. فلا شيء يقتل كالصمت المطبق.

في صبيحة ذلك اليوم، وبعد ساعات مملة من الهدوء المروع، فجأة، لمحتُ نملة تدخل من تحت الباب، بعد ثواني قليلة تبعتها نملة أخرى، كانتا تمشيان بانتظام بينهما خمسة سنتمترات بالضبط، تبعتهما بعيني، واصلتا المسير بخط ثابت نحو طبق الطعام الفارغ الذي أخفيته عن الحارس (لا أذكر الآن لماذا أخفيته، وماذا كنت سأفعل به) .. أمضت النملتان قرابة الدقيقة داخل الطبق ثم تابعتا المسير نحو النافذة .. بعد نحو نصف ساعة كانتا قد اختفيتا تماما ..

في اليوم التالي عادت النملتان من نفس المكان، عرّجتا على الطبق، هذه المرة وجدتا بقايا إفطاري، ثم خرجتا من نفس الطاقة، صار نفس المشهد يتكرر كل يوم، وأنا صرت أتسلى به، وأتعمد ترك ما يكفيهما من الفتات.

غابت النملتان قرابة الأسبوع (وهو زمن طويل بالنسبة لنملة)، انتظرتهما بقلق، صرت أزيد من الفتات، وأضع فيه بعض السكر لأغريهما بالعودة .. وأقول في نفسي لمَ سيأتي أي مخلوق إلى هذه الزنزانة الموحشة ؟! لو كنت مكانهما لما عدت أبدا، لخرجتُ للغابة، أو صعدتُ لأعلى شجرة في الحقل ..

في اليوم الثامن، ومن نفس المكان وبنفس التوقيت تماما ظهرت النملتان؛ كان سروري بهما بالغا، دعوتهما للبقاء حتى الغداء .. وبالفعل هذه المرة تجولتا في كل ركن من أنحاء الزنزانة، تحاورنا معاً، وفتحنا مواضيع كثيرة، أقنعتهما أن للنمل أجنحة، وظلّتا إلى ما بعد العصر بقليل، ثم خرجتا تحمل كل واحدة منهما حبة أرز .. استغرق وصولهما للنافذة العلوية أكثر من ساعتين، (وحسب النظرية النسبية تعادل هذه المسافة سفر إنسان من الحجاز للشام) .. وعند حافة النافذة سمعتهما يتجادلان:
ا
لأولى: سئمت هذا المسير المرهق، وأنا أنوء بحملي كل يوم ..
الثانية: سيغضب منا الملك، لو تأخرنا ..

استغربت؛ ليس لأن صوتهما كان عاليا وعصبيا على غير عادة النمل؛ بل لأنهما خافتا من الملك !! وحسب خبرتي النملية فإن للنمل ملكة، وليس ملك ! وهنا بدأت أسال نفسي: هل تدركان أن هذا المكان اسمه زنزانة ؟ وأن الخروج منها أشبه بالمستحيل ؟ هل هما صديقتان، أم مجرد مجندتين لنفس العشيرة ؟ أم زوجين ؟ كان يصعب معرفة ذلك .. انتابني شعور بالضيق، فقد أدركت أنهما إذا خرجتا هذه المرة لن تعودا أبدا، وستتركاني للوحدة من جديد ..

بعد بضعة أيام، سألتُ الحارس (كانت فيه بقايا طيبة): هل رأيت نملتين تتمشيان في الممر ؟! أجاب دون أي اندهاش من السؤال: بالطبع، إنهما عند جارك، في الزنزانة المجاورة، ألا تعرف أن السجين 25 يربي تحت سريره مدينة من النمل ؟

السجين 25، مضى على وجوده هنا سنوات طويلة، هو نفسه يجهل متى أتى، وما هي تهمته، وليس لديه أمل بالخروج، لا يعرف أحدا اسمه، حتى هو نسي اسمه، لمحتهُ مرة واحدة خارجا من الحمام، كان شكله غريبا كما لو أنه آتٍ من الزمن المفقود، مشيته مضطربة ونظراته زائغة. طرقتُ على جداره لأسأله عن مصير النملتين .. أجاب بفتور: قتلتهما. سألته بغضب واستنكار: لماذا تقتل نفسا زكية أيها السجين ؟ أجاب بحماسة: تصور أن النملة الأولى أرادت أن تتمرد، بحجة أنها ملّت من هالعيشة !! وأنها كانت تنوي الهرب ! أما الثانية فكانت تتستر عليها !

لأسابيع عديدة، وعند كل مساء، كنت أرى النملتين، تطلان عليَّ من النافذة، وقد نمت على كتفيهما أجنحة، تلوحان لي بابتسامة غامضة ثم تختفيان، كنت أتوقع أن سرباً كاملاً من النمل سيأتي لزيارتي عمّا قريب؛ لأعلمه الطيران ..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق