أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يونيو 24، 2013

مانديلا .. نشيد الحرية


خضعت جنوب إفريقيا لنظام فصل عنصري دام ثلاثة قرون ونصف، كان القرن الأخير منها الأشد وطأة والأكثر ظلما، عاش شعبها تلك الحقبة المظلمة في ظروف بائسة مجحفة، ربما كانت الأقل إنسانية على مدى التاريخ، وقد عانوا خلالها الذل والهوان كما لم يعاني شعب آخر. "رولي هلاهلا"، واحد من أولئك الناس الذين عاشوا تلك المرحلة بكل تفاصيلها وقسوتها؛ رغم أنه من أصول ملكية إلا أنه نشأ فقيرا، وكان يذهب إلى مدرسته حافيا، وحينما منحته معلمته في الصف الأول الابتدائي اسما إنجليزيا يسهل لفظه (نيلسون) لم تكن تتوقع أنه سيصبح أشهر زعيم في العالم، بل أنه حين زُج به في السجن وحُكم عليه بالمؤبد – ورغم كل تفاؤله – لم يكن ليتوقع أنه سيخرج بعد ثلاثة عقود زعيما للقارة الإفريقية بأسرها، بل وأحد أهم رموز التحرر والنضال في القرن العشرين.
وفي تلك الليالي الحالكة التي قضاها في سجنه في جزيرة روبن، وحيدا في زنزانته بعيدا عن أعين الحراس، بدأ بكتابة مذكراته. وبعد أن أنجز جزءً كبيرا منها قسّمها إلى ثلاثة أجزاء وأخفاها على شكل لفافات في باحة السجن، تمهيدا لتهريبها للخارج، إلا أن إدارة السجن كشفت الجزء الأهم والأكبر من تلك المذكرات وصادرتها، فيما نجت اللفافات الأخرى وشقّت طريقها للخارج. وبعد خروجه من السجن أكمل كتابتها مستعينا برفاقه الذين عاشوا معه تلك السنين الطويلة بحلوها ومرها، حتى خرجت على شكل كتاب يحمل عنوان: "رحلتي الطويلة من أجل الحرية" في نحو 600 صفحة، وقد تُرجم إلى عشرات اللغات.
ما كتبه مانديلا لم يكن مجرد مذكرات شخصية لمناضل عاش ظروفا استثنائية وتغلب عليها وحسب، بل هو كتاب يؤرخ مسيرة شعب نال حريته بعد نضال مرير، وهو كتاب للحرية والنصر والمبادئ الأخلاقية، وهو لا يخص شعب جنوب إفريقيا وحدهم، بل لكل العالم؛ لأنه قصة كفاح إنساني تفيض بدروس التضحية والحكمة والنضج السياسي، وتُلهم كل مناضل من أجل الحرية والعدالة ورفع الظلم. وهي حكاية انتصار اللحم على السيف، وانبلاج النور من العتمة؛ لذا فإنها ستبعث الأمل في نفوس من تسرب اليأس إلى قلوبهم، وتؤكد على أن كل ليل مهما طال، حتماً سيتبعه فجر مشرق.
وأي قارئ لرحلة مانديلا الطويلة نحو الحرية، لا يملك إلا أن يُعجب بتواضع هذا القائد الأسطوري، وصِدقِهِ ونُبل أخلاقه، وثباته على مبادئه التي آمن بها، ونَذَر حياته لخدمتها. وأن يقف إجلالا واحتراما لهذا الزعيم الأممي الذي غيَّر وجه التاريخ، وصار أباً للقارة الإفريقية، ورمزا للحرية، وتخليص العالم من أدران العنصرية .. إنه "نيلسون مانديلا".
في بداية التسعينات من القرن الماضي، وبعد كفاح مرير، انتصر شعبُ جنوب إفريقيا أخيرا على مغتصب حقوقه، وانتصرت بذلك قيم الإنسانية على قيم التعصب والعنصرية، انتصر المحرومون والفقراء على مستغليهم؛ لكنهم قدّموا للعالم نموذجا رائدا ونادرا في حسم الصراع؛ فقد كان حسماً إنسانيا، أُنـجِـزَ بروح التسامح، وبأفق وخطاب إعلامي عقلاني، وببرنامج سياسي حكيم، وبرؤية تقدمية حضارية، لا تسعى لإقصاء الآخر أو القضاء عليه، بل لتحريره من شروره، والإمساك بيده ليتحد الجميع معاً في تحرير البلاد من الظلم والجور والطغيان، ولصناعة مستقبل مشرق واعد؛ فيه لكل فرد نصيب ومكان محترم، يليق بإنسانيته.
كان وراء هذا الانجاز التاريخي العظيم كل الناس الطيبين في جنوب إفريقيا، وكان يقودهم ويلهمهم قائد عظيم، كان يقول دوما: "لقد أصبح تحرير الظالم والمظلوم رسالتي في الحياة". دافع عن قضايا الناس حين كان محاميا، ورفض مقايضة حريته بوقف المقاومة حين كان سجينا .. لقّبه أبناء شعبه بـِ'ماديبا'، وتعني 'العظيم المبجل', وهو اللقب الذي أصبح مرادفا لاسم نيلسون مانديلا.
ومن سخرية الأقدار أن شخصا ترأس الولايات المتحدة في واحدة من أسوأ مراحل تاريخها المعاصر، يُدعى "جورج بوش"، قرر تزامناً مع يوم ميلاد مانديلا التسعين، في تموز 2008 شطب اسم مانديلا من على لائحة الإرهاب في الولايات المتحدة الأمريكية !!
في هذه الأوقات يصارع الزعيم أمراضه التي ورثها عن السجن .. نتمنى له السلامة .. والعمر المديد .. ليظل أيقونة في سماء العالم .. وليظل نداءه الخالد يتردد صداه في جنبات الكون، ليحرر العالم من نير العبودية ..



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق