أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

مايو 03، 2013

الربيع العربي بين الإرادة الشعبية ونظرية المؤامرة

مقدمة
يسود اعتقاد بين كثير من المراقبين أن ما يجري في المنطقة العربية من ثورات شعبية إنما هو بتخطيط من دوائر غربية تقف على رأسها الولايات المتحدة، الهدف منها إعادة رسم الخارطة الجيوسياسية للمنطقة بما يخدم مصالحها. مستندين في هذا التحليل إلى ما يسمى بنظرية "الفوضى الخلاقة" التي طرحتها بعض التيارات المؤثرة في الخارجية الأمريكية. وإلى تصريح لوزيرة الخارجية الأمريكية السابقة "كونداليزا رايس" لصحيفة "الواشنطن بوست" في 9-4-2005 توقعت أن المنطقة العربية ستشهد إنتفاضات متصاعدة وتغييرات مؤثرة في سبيل التحول الديمقراطي, وإن هذا التحول سيجرف أنظمة موالية وحليفة.[1] وأيضا ما قيل عن مؤامرة أعدتها وزارة الدفاع الأمريكية، صاغها المؤرخ الصهيوني "برنارد لويس" عام 1983 عبّر عنها في مشروعه الشهير الخاص بتفكيك وتجزئة الدول العربية والإسلامية إلى كانتونات طائفية وعرقية.[2] 
وهذا التحليل ينطلق أساسا من نظرية المؤامرة. وهي نظرية ما زالت تهيمن على العقلية العربية منذ زمن طويل، وتربط دوما بين الأحداث التي تقع، وبين مؤامرة خارجية أُعدت في الغرف المغلقة، وأصحاب هذه النظرية يؤمنون بوجود قوى قادرة على التخطيط والتنفيذ والتحكم بالنتائج بما يحقق مصالحها.
وفي المقابل، ثمّة مراقبين آخرين يرون أن ما حصل في المنطقة العربية من حِراك شعبي بأنه عبارة عن ثورات جماهيرية خالصة، فرضت نفسها بقوة الحق الذي خرجت من أجله على كافة الأطراف، بدءً من النظام الحاكم الذي ثارت ضده، وانتهاء بالولايات المتحدة نفسها.

وهؤلاء يرفضون نظرية المؤامرة من منطلق فهمهم لديناميكية حركة التاريخ من ناحية، ومن ناحية ثانية فإنهم يؤكدون على فشل نظرية المؤامرة في تحليل الأبعاد السسيولوجية والموضوعية للمجتمعات العربية، وأن هذه النظرية أثبتت عجزها عن تفسير كثير من الأحداث والمنعطفات التاريخية الكبرى، لأنها من وجهة نظرهم نظرية غيبية سلبية، لا ترتكز على أسس موضوعية، وتنطلق من الإحساس بالهوان والإقرار بالهزيمة وتؤسس مدرسة العجز الذاتي، وأن هذه العقلية تصور العدو على أنه عملاق مخيف قادر على كل شيء ولا نملك إزاءه إلا الرضوخ والتسليم.

وإذا كنا نرفض التسليم بنظرية المؤامرة؛ فإن هذا لا يعني أن التاريخ يخلو من المؤامرات، وأن الآخرين لا يخططون ولا يرسمون إستراتيجيات بعيدة الأمد؛ فمن المؤكد أن مراكز صنع القرار خاصة في الولايات المتحدة لديها مخططات إستراتيجية وبدائل عديدة لحماية مصالحها وتأمين تفوقها لعقود قادمة، ومن ضمن هذه الإستراتيجيات "نظرية الفوضى الخلاقة chaos theory".
وإذا سلمنا بأن اندلاع الربيع العربي كان إيذانا بافتتاح عصر الجماهير من جديد وبقوة، وأنه نتاج تراكمات موضوعية؛ فلنا أن نتساءل: إذا كانت تصريحات رايس وغيرها من مخططات تم الكشف عنها كانت قبل سنوات عديدة من اندلاع الربيع العربي، فهل كانت مجرد نبوءة، أم تخمين، أم هي قراءة عميقة للأحداث، واستشرف للمستقبل، أم هي إفشاء لأحد بنود المخططات الأمريكية ؟! 

وإضافة لما سبق، هناك العديد من الأمور الغريبة والأسئلة المريبة التي ظهرت في سياق الثورات العربية، ولم تتم الإجابة عليها بعد. الأمر الذي جعل الكثيرين يشككون في دوافع الثورات العربية، ويربطونها بمؤامرات خارجية.

نظرية الفوضى الخلاقة

طالما أن المتهم الأول بالضلوع بالمؤامرة هي الولايات المتحدة، لكونها الدولة الإمبريالية الأولى في العالم؛ فإنه من الضروري التذكير بأن السياسة الخارجية (والداخلية أيضا) لأي إدارة أمريكية (ديمقراطية كانت أم جمهورية)، تبقى مسخّرة لهدف مركزي واحد، هو رعاية المصالح الطبقية للزمرة الحاكمة، أي مصالح الأوليغارشية الأمريكية الموزعة على أهم القطاعات الاقتصادية: الصناعات العسكرية، الطاقة، عالم المال، الإعلام، الصناعات العملاقة ..الخ؛ وعادة ما تخضع هذه السياسة لإيديولوجية متناغمة مع تلك المصالح.

قبل أن تتوصل الولايات المتحدة أخيرا لنظرية "الفوضى الخلاقة"، كانت تتبنى في إطار سياساتها الخارجية خلال حقبة السبعينات والثمانينات المدرسة الواقعية الكلاسيكية، والتي مثّلها  وزير الخارجية الأسبق "كسينجر"، حيث أن الإدارة الأمريكية آنذاك لم تكن تهتم بما يحدث في الدول الأخرى، ولا يعنيها إذا ما كانت الأنظمة الحليفة استبدادية أو فاسدة، طالما أنّها لا تهدد مصالحها ولا تعادي سياساتها الخارجية.

وبعد انتصار الحلف الدولي بقيادة الولايات المتحدة على العراق في عاصفة الصحراء (1991)، والتي جاءت بعد انتهاء الحرب الباردة، تبنّت الإدارة الأمريكية سياسة جديدة تقوم على إطفاء بؤر التوتر في مختلف مناطق العالم، بما فيها ناميبيا وجنوب إفريقيا واليمن ولبنان وحتى العراق، وشرعت بمشروع السلام بين العرب وإسرائيل، من خلال مؤتمر مدريد (1992)، وكان هدفها تحقيق الاستقرار وفرض الهيمنة الأمريكية على العالم، وخاصة العالم الثالث، لما كان يعنيه بالنسبة لها من سوق عملاقة ستحل معضلة فائض الإنتاج والكساد الذي باتت تعاني منه الصناعات الأمريكية العملاقة، والبدء بتطبيقات منظومة العولمة والتجارة الدولية.

وفي عهد كلينتون حاول الديمقراطيون تركيز السياسة الخارجية الأمريكية نحو مشاريع العولمة الليبرالية الجديدة (مناطق تجارة حرة وما شابهها) التي كانت تفضي إلى نوع من الإوليغارشية متعددة الجنسيات والعابرة للحدود، لكن هذه السياسة تحولت في إدارة بوش الابن، إلى نوع من العولمة العسكرية ـ الأمنية.[3]

فبعد قدوم بوش الصغير، وتحالفه اليميني في البيت الأبيض تغيرت السياسة الأمريكية، خاصة بعد أحداث أيلول 2001؛ إذ تبنت أمريكا سياسة الحرب على الإرهاب، والتي إن مثلت عماد الإستراتيجية الأمريكية؛ إلا أنها كانت في حقيقة الأمر مجرد غطاء على التوجهات الأمريكية الجديدة القائمة على الحروب واحتلال البلدان والتدخل المباشر في شؤون الدول لفرض سيطرتها عليها، والتمكن من حماية مصالحها، ونهب ثروات الأمم بشكل مباشر.

وفي هذا الموضوع كتب "د. أحمد عزم" تحت عنوان الواقعية الجديدة في جريدة الاتحاد: "تعتمد أمريكا حاليا في حربها العدوانية على العالم سياسة التدخل في شكل النظام السياسي والقيم الثقافية والاجتماعية في دول أخرى. وتسعى لفرض القيم الأميركية عالمياً، أي فرض رؤيتها الخاصة للديمقراطية والإصلاح، على اعتبار أنّها تنتج أنظمة ومجتمعات ترفض الإرهاب، ولأنّ الأنظمة الفاسدة برأيهم بيئة خصبة لقوى التطرف التي تتبنى مناهَضةَ الأميركيين".

وأضاف د. العزم أنه "وفقا لمصطلحات العلاقات الدوليّة فإن المدرسة الكلاسيكية السابقة تمثل المدرسة الواقعية، بينما يمثل المحافظين الجدد "المدرسة المثالية"، والفيصل بين المدرستين هو مسألة التدخل في شؤون الدول الأخرى؛ فالمثاليون يؤيدون التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى أكثر مما يؤيده الواقعيّون".[4]

وأضاف أن "أحد المثاليّين السابقين هو "فرانسيس فوكوياما"، الذي كان من منظّري المحافظين الجدد، إبّان حرب العراق، لكنه اكتشف فيما بعد أنّ فكرة نشر الديمقراطية قبل بناء دول قوية أمر خاطئ، وأنّ المحافظين الجدد عندما أسقطوا النظام في العراق وأفغانستان، لم يكن لديهم تصور أو دراية بعمليات بناء الدول، وافترضوا أن الأمور ستستقيم بمجرد سقوط الأنظمة القائمة". 

وقد عبّر "فوكوياما" عن نظريته في مقالة له حملت نفس العنوان "نهاية التاريخ"  كتبها في العام 1989، وتحدث فيها عن زحف "الرأسمالية الليبرالية" كنظام حاكم على بقية أجزاء العالم، وانتصاراتها المتتالية على الأيديولوجيات الأخرى كالملكية الوراثية، والفاشية، وأخيراً الشيوعية. معتبرا أن هذا النظام "الرأسمالي الليبرالي" يشكّل المرحلة النهائية في التطور العقائدي للإنسانية، وبالتالي فهو نظام الحكم الأمثل، وبمعنى آخر فإن الوصول إلى هذا النظام حسب فوكوياما هو "نهاية التاريخ". موضحا في نفس الوقت إلى أن المقصود به من نهاية التاريخ ليس توقف استمرارية تواتر الأحداث (الصغيرة والكبيرة)، وإنما توقف التاريخ، كتجربة بشرية تتطور بشكل متصل ومتماسك. بمعنى أنه لن يكون هناك أي تقدم أو تطور بعد اليوم فيما يتعلق بالمبادئ والعقائد والمؤسسات.[5]

فيما رأى "صموئيل هنتنغتون"، زميل "فوكوياما" أن هناك تواريخ عديدة للبشرية، ولكلٍ منها محركه الخاص به؛ فهناك التاريخ القديم الذي تحرك بقوة رغبات وطموح الملوك والأمراء، وتاريخ آخر تحرك بقوة صراع الأمم، ثم تاريخ ثالث كان محركه صراع الإيديولوجيات، وقد إنتهى مع نهاية الحرب الباردة؛ بينما التاريخ البشري الحالي يتحرك بقوة صدام الحضارات، كالصدام القائم اليوم بين الإسلام والحضارة الغربية المستندة إلى الديموقراطية الليبرالية. وهذا الطرح يتعارض مع نظرية ماركس بأن محرك التاريخ الأساسي هو صراع الطبقات. أما فلاسفة ما بعد الحداثة فيقول معظمهم بأن المعرفة هي محرك التاريخ.[6]

وبغض النظر عن ماهية محرك التاريخ؛ فإنه وضمن هذا الإطار ومن منطلق هذا الفهم تمت صياغة ما عُرف بنظرية الفوضى الخلاقة؛ والتي يرى بعض الباحثين بأنها ابتكرت أول مرة على ضوء ما نجم عن حالة الفوضى والصراع والاقتتال في بدايات تأسيس المجتمع الأمريكي، والتي كانت بدافع التنافس وجمع الثروة.[7]

ويبدو مفهوم "الفوضى الخلاقة" أقرب إلى مفهوم "الإدارة بالأزمات"، ولعل أبسط تعريف له أنه "حالة سياسية أو إنسانية يتوقع أن تكون مريحة بعد مرحلة فوضى متعمدة الأحداث"، وهو مفهوم له جذور لاهوتية ومستوحى من نصوص توراتية.

ويعد "مايكل ليدين" العضو البارز في معهد "أمريكا انتربرايز" أول من صاغ مفهوم "الفوضى الخلاقة" أو "الفوضى البناءة" في معناها السياسي الحالي، وهو ما عبّر عنه في مشروع حمل اسم "التغيير الكامل في الشرق الأوسط" أعد عام 2003 . وارتكز المشروع على منظومة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الشاملة لكل دول المنطقة وفقاً لإستراتيجية جديدة تقوم على أساس الهدم ثم إعادة البناء.[8] 
كما تحدثت وزير الخارجية الأمريكية السابقة "كونداليزا رايس" عن شعار الفوضى الخلاقة بعد غزو الولايات المتحدة للعراق عام 2003، وذلك في إطار مشروع الشرق الأوسط الجديد، والذي يتم فيه تقسيم الدول العربية إلى دويلات صغيرة، وتكون إسرائيل القوة العظمى في الإقليم.[9]
وتعتمد نظرية الفوضى الخلاقة أساساً على مبدأ "أن تغيرات ضئيلة جداً قد تسبب انهيار التوازنات المستقرة جداً", أي أن كل شيء في هذا الكون يؤثر في كل شيء ويتأثر به. وتقوم هذه النظرية باختصار على أيديولوجيا أمريكية نابعة من مدرستين: الأولى صاغها "فرانسيس فوكوياما" بعنوان "نهاية التاريخ" - كما سبق شرحها - ويقسّم فيها العالم ما بين عالم تاريخي غارق في الاضطرابات والحروب، وهي الدول التي لم تلتحق بالنموذج الديمقراطي الأميركي، وعالم آخر هو ما بعد التاريخي، أي الدول التي تتبنى الديمقراطية الليبرالية وفق الطريقة الأمريكية. ويرى "فوكوياما" أن عوامل القومية والدين والبنية الاجتماعية أهم معوقات الديمقراطية.

المدرسة الثانية صاغها "هنتنغتون"، ويشرحها البروفيسور إدوارد سعيد قائلا: "تقوم فكرة هنتنغتون على مبدأ صراع الحضارات، معتبراً أن المصدر الأعمق للنـزاعات والانقسامات في العالم الجديد لن يكون في الدرجة الأولى أيديولوجيا أو اقتصاديا، بل سيكون مصدرها حضارياً وثقافياً. أي أن الدولة القومية ستبقى اللاعب الأقوى، لكن الصدامات الرئيسية العالمية ستبرز بين دول ومجموعات تنتمي إلى حضارات مختلفة، ذاهباً إلى أن الخطوط الفاصلة بين الحضارات ستكون هي خطوط المعارك في المستقبل".[10]

ورغم تناقض المدرستين، إلا أنهما تتفقان على ضرورة بناء نظام عالمي جديد تقوده الولايات المتحدة، إضافة إلى معاداة الحضارة الإسلامية باعتبارها نقيضاً ثقافياً وقيمياً للحضارة الغربية.

وتعتمد نظرية "الفوضى الخلاقة" في الأساس على ما أسماه "هنتجتون" بـِ"فجوة الاستقرار" وهي الفجوة التي يشعر بها المواطن بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون (أي الفجوة بين الحلم والواقع)؛ فتنعكس بضيقها أو اتساعها على الاستقرار بشكل أو بآخر؛ فاتساعها يولد إحباطاً ونقمة في أوساط المجتمع، مما يعمل على زعزعة الاستقرار السياسي، لاسيما إذا ما انعدمت الحرية الاجتماعية والاقتصادية، وافتقدت مؤسسات النظام القابلية والقدرة على التكييف الإيجابي، لأنه سيكون من الصعب عليها الاستجابة لأي مطالب شعبية، إلا بالمزيد من الفوضى التي ستقود في نهاية الأمر، إلى استبدال قواعد اللعبة واللاعبين. وفي المقابل فإن ردم هذه الفجوة سيخلق مجتمعا مستقرا آمنا.[11]

وهنالك نظرية "دول القلب ودول الثقب"، التي طورها أحد أهم المحاضرين في وزارة الدفاع الأمريكية، وهو البروفيسور "توماس بارنيت"، فقد قسّم العالم إلى من هم في القلب أو المركز "أمريكا وحلفائها"، وصنّفَ دول العالم الأخرى تحت مسمى دول "الفجوة" أو "الثقب"، ودول الثقب هذه هي الدول المصابة بالحكم الاستبدادي، والأمراض والفقر، والحروب الأهلية، والنـزاعات المزمنة، وهذه الدول تصبح بمثابة مزارع لتفريخ الجيل القادم من الإرهابيين؛ وبالتالي فإن على دول القلب ردع أسوأ صادرات دول الثقب، والعمل على انكماش الثقب من داخل الثقب ذاته. ويرى "بارنيت" أن تلك الفوضى البناءة ستصل إلى الدرجة التي يصبح فيها من الضروري تدخل قوة خارجية للسيطرة على الوضع وإعادة بنائه من الداخل، على نحو يعجل من انكماش الثقوب، وليس مجرد احتوائها من الخارج، منتهياً بتخويل الولايات المتحدة القيام بالتدخل بقوله:"ونحن الدولة الوحيدة التي يمكنها ذلك".[12]

وتقوم هذه السياسة بناء على قناعة صناع السياسة الخارجية الأمريكية بأن الأوضاع الداخلية في الدول الأخرى ليس شأناً خاصا بها ولا يعني شيء بالنسبة لأمريكا؛ ذلك لأنها مرتبطة بالأمن القومي الأمريكي، القائم أساساً على تأمين أقدام أمريكا في حقول النفط العربية وحفظ مصالحها هناك، وبذلك فإن الأوضاع الداخلية لتلك البلدان تحتاج إلى تحول شامل لن يحدث إلا عبر التدمير الخلاق الذي سينتهي بإزالة الأنقاض ورفع الأشلاء، ثم تصميم نظام سياسي جديد ومختلف، لا يراوغ ولا يشترط ولا يهدد مصالح أمريكا الاقتصادية. 
ولا تهدف نظرية "الفوضى الخلاقة" إلى إزالة الدولة المستَهدَفة إزالة تامة، بل أن هدفها ثنائيا هو الهدم والبناء؛ حيث يرتكز مشروع النظرية على منظومة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الشاملة لكل دول المنطقة وفقاً لإستراتيجية جديدة تقوم على أساس الهدم ثم إعادة البناء. بمعنى أن المطلوب هنا هو إعادة تأهيل الدولة على نحو يخدم مصالح أمريكية إستراتيجية، وليس الهدف هو إزالة الدولة عن بكرة أبيها، وهنا غاية أمريكا هي بسط سيطرتها بنفسها لا عبر وسيط تقليدي .

وأنصار هذه النظرية يعتقدون بأن خلق حالة من الفوضى وعدم الاستقرار؛ سوف يؤدي حتماً إلى بناء نظام سياسي جديد، يوفر الأمن والازدهار الاقتصادي. وهو ما يشبه العلاج بالصدمة الكهربائية. غير أن ثمة أهدافاً متوارية تهدف الولايات المتحدة إلى تحقيقها بتلك الفوضى. ويتم تطبيق هذه النظرية على أي دولة تريدها وفق مخطط يتم أولاً بإطلاق الصراع الأيديولوجي، وصراع العصبيات في داخلها، ثم التعبئة والتحريض الإعلامي ضدها، وأخيراً ضرب استقرارها الأمني، وخلخلة وضعها الاقتصادي.

 ولكن مجرد الكشف عن هذه المخططات لا يعني أنها ستنفذ حرفيا، وإذا كانت في طور التنفيذ فهذا لا يعني أنها ستنجح؛ فوجود مؤامرة ما لا يعني أنها قدَر مكتوب على الأمة وليس أمامها إلا الانتظار والقبول.
فقد تُظهر الأيام بأن ما تقوم به أمريكا من خلق حالة من الفوضى في الدول العربية، ما هو إلا محاولات لعلاج فشلها في العراق وأفغانستان، بل وللتغطية على فشلها في الحفاظ على حلفائها التقليديين، وفشلها في إدارة شؤون العالم العربي، وأنها لم تكن تملك ترف الخيارات، وبالتالي قد تكون نتائج هذه الفوضى على عكس ما ترغب به وتخطط له، وقد تكون إيجابيه تخدم المصلحة العربية العليا.
  حِراك شعبي أم مؤامرة خارجية ؟

بالعودة إلى الثورات الشعبية العربية ومحاولة ربطها بمؤامرات خارجية، وطرح أسئلة من نوع: ما هي طبيعة علاقة الجيوش العربية (التونسية والمصرية وغيرها) بوزارة الدفاع الأمريكية ؟ وما هو حجم الدعم الأمريكي الذي تتلقاه تلك الجيوش من تسليح وتدريب وتأهيل ؟ وماذا كان يفعل قادة وضباط هذه الجيوش في أمريكا عشية الثورة ؟ وما هي الصلة بين ما سمي بِ"شباب الفيسبوك" والدوائر الغربية ؟ وما قيل عن وجبات الكنتاكي ووائل غنيم في ميدان التحرير ؟ والدور الغريب وغير المتوقع من الجيوش العربية التي لم تمارس دورها الوظيفي المعهود في حماية الأنظمة، التي هي أساسا من ركائز المشروع الأمريكي في المنطقة ؟؟ ولماذا وكيف تحولت هذه الجيوش إلى حامي للثورة ؟! وهي أسئلة محيرة وتحتاج إجابات، ليس لأنها تفتح شهية أصحاب نظرية المؤامرة ونظرية الفوضى الخلاقة، وتطلق العنان لخيالاتهم ليشبعونا تحليلا، بل لأنها أسئلة مشروعة، والإجابة عليها تمكننا من فهم الأحداث على نحو صحيح.

يرى أنصار نظرية الثورة الشعبية بأن الحديث عن الثورات العربية بوصفها صنيعة الفيسبوك والمخابرات الأمريكية ومنظمات ال NGO’s، وأنها تأتي في سياق مخططات أمريكية تهدف إلى إعادة رسم الخارطة الجيوسياسية على نحو جديد يخدم المصلحة الأمريكية أساسا، هو تقليل من شأن هذه الثورات، وهو تعدي على تضحياتها، واستخفاف بإرادة الشعوب، وقبل كل هذا هو فهم مغلوط لمنطق التاريخ، وتفسير مشوه ومنقوص للحقبة التاريخية بأكملها.

ويؤكدون بأن هذه الثورات الشعبية وإن أتت في زمن العولمة وكانت إحدى تعبيراتها الواضحة، لكنها جاءت بفعل إرادة شعبية خالصة، وكانت أهدافها تنحصر في إسقاط الأنظمة التي ضربها العفن، ونخرها سوس الفساد، وبانت فضائحها على نحو مستفز، ولأن هذه الأنظمة جلبت لشعوبها الخراب والفقر والبطالة، وحرمتها من أبسط حقوقها، وجعلت البلدان العربية في قاع السلم الحضاري بين شعوب الأرض.

ومن ناحية ثانية فإن نضوج عوامل الثورة الذاتية والموضوعية جاء بعد تراكم طويل، وأن لهذه الثورات إرهاصاتها ومقدماتها التاريخية، وأسبابها الموضوعية، ولم تكن قطعا فجائيا مع مراحل تاريخية سابقة، بل جاءت تتويجا لمسار نضالي وشعبي له عناوينه الواضحة وحيثياته المعروفة. ولا يعني وجود تقاطعات معينة في بين أهداف الشعوب العربية ومخططات الدوائر الغربية أنها تطبيق لهذه المخططات، والتاريخ مليء بالأمثلة التي كانت تلتقي فيها مصالح وأهداف جهات متناقضة ومعادية لبعضها البعض دون أن يعني ذلك أنها مؤامرة بالمعنى الحرفي للكلمة.

الذين يفهمون ثورات الربيع العربي، انطلاقا من نظرية المؤامرة، واستنادا إلى نظريات من نوع الفوضى الخلاقة، أو صراع الحضارات، إنما هم يمعنون في تصور صورة متخيلة في أذهانهم، هي في الحقيقة مجرد وهم، أو صورة مشوشة، أو أنهم أرادوا إسقاط هذه النظريات وغيرها على الواقع، بعد أن ظهرت نتائج الربيع العربي على نحو خيّب آمالهم، أو معاكسا لما كانوا يريدونه.

المفكر الفلسطيني "إدوارد سعيد" كتب عن صراع الحضارات قبل الربيع العربي بسنوات؛ واعتبر أن هنتنغتون وغيره عندما صاغوا نظرياتهم عن صراع الحضارات لم يجدوا الوقت الكافي لدراسة الحركات الداخلية في كل حضارة، وما فيها من التعددية، معتبرا أن النظر لأي حضارة أو دين والتحدث عنهما بصورة كلية عمومية هو نوع من الديماغوجيا والتضليل، أو الجهل على أقل تقدير. إذ يصعب الحديث عن الإسلام أو الغرب باستعمال توصيفات عمومية، حيث يوجد واقع تاريخي متشابك يتسعصي على التصنيف أحيانا، أو التثبيت في قوالب جاهزة؛ فالعالم أجمع بكل دياناته وحضاراته يسبح في محيط واحد والذي هو التاريخ الإنساني، ومن العبث محاولة حرثه أو تقسيمه بالحواجز.

 وقد وصف إدوارد سعيد "هنتنغتون" بأنه: "أيديولوجي يريد تحويل الحضارات والهويات إلى غير ما هي عليه في حقيقتها، حين اعتبرها كيانات منغلقة عن بعضها البعض، وأنها خالية في داخلها وفيما بينها من التيارات والتيارات المعاكسة التي شكلت تاريخ الإنسانية، ومنعت هذا التاريخ عبر القرون المتوالية من الاقتصار على الحروب الدينية والإمبريالية، بل أن يكون ايضاً مجالا للتعاون والإخصاب المتبادلة والمشاركة، فالحرب ليست وحدها هي الحقيقة". [13]

ولفهم الموقف الأمريكي من الثورات العربية، لا بد من التأكيد على أن دوافع أمريكا في انحيازها لخيار الشعوب، ورغبتها في تبني الديمقراطية، وتخليها عن حلفائها التقليديين، هي انكشاف عمالة الحكام وفسادهم وفضائحهم، ورغبة الشعوب بالتغيير، في وقت تنامت فيه قوة الحركات الشعبية التي تطالب بالإطاحة بهذه الحكومات الفاسدة، وبالتالي فإن أمريكا ستسعى لدخول المنطقة من بوابة أخرى هي بوابة الشعوب والديمقراطية. خاصة وأنها باتت تخشى من تنامي وتعمق حالة الكراهية والسخط لدى الجمهور الإسلامي والعربي ضدها. وأن الأنظمة العربية بعد سقوط العراق لم تعد تهدد أمن أمريكا، وأن التهديدات الحقيقية تكمن وتتسع من داخل الدول ذاتها، بفعل العلاقة غير السوية بين النظام والشعب.

وحسب النظرة الأمريكية فإن البلدان الإسلامية تُعرف بأنها أنظمة سياسية مغلقة, ذات كثافة سكانية عالية، تنعدم فيها الحريات وتتفشى فيها البطالة والأمية, وبالتالي ستكون تربة خصبة لخروج المتطرفين؛ إذاً على أمريكا – وحفاظا على مصالحها - تقديم المساعدة المادية اللازمة، وسماع شكوى الشعوب، وبناء الديمقراطية من الداخل للحيلولة دون تكاثر الإرهابيين، كما أن أمريكا من خلال مدخل الديمقراطية ستعمل على تحقيق مكاسب اقتصادية على المدى الطويل. وتعتقد أمريكا أيضاً أن وجود أنظمة ديمقراطية في البلدان العربية سيخفض من حدة الصراع العربي الإسرائيلي، وربما سيمنع نشوب حروب ضد إسرائيل في المستقبل، لأنها تعتقد أن الديمقراطيات لا تقاتل بعضها، وأن الشعوب الحرة إذا ما أتيح لها مجال الاختيار ستختار السلام بدلا من الحروب.

وما يبدو جلياً أن الولايات المتحدة أصبحت لا تخشى ظهور الحركات الإسلامية بل تحاول استغلالها. ولديها استعداد لقبول فكرة وصول حزب إسلامي معتدل للحكم عبر الانتخابات، وفي هذا الصدد يرى البعض أن أمريكا تريد أن تجعل من الحركات الإسلامية المعتدلة حصان طروادة، وهؤلاء يعتقدون أن الحركات الإسلامية أقوى من غيرها في التعاطي مع الشعوب الإسلامية، بسبب قوة ونفوذ العامل الديني الذي تجيد اللعب به، ولأنها أحزاب تسعى للسلطة.
واستنادا لما سبق، يمكننا القول أن نظريات الفوضى الخلاقة وصدام الحضارات لا تنطبق تماما على الربيع العربي، مع التأكيد على أن أمريكا والغرب عموما تتفاعل بجدية واهتمام مع العالم العربي في ربيعه، ويسعيان أن يظل العرب ضمن نفس المعادلات السياسية التي سادت خلال القرن الماضي، وهذا يتطلب تدخلات عسكرية وأمنية أو سياسية واقتصادية تمنع الأنظمة العربية من الخروج عن دوائر السيطرة.

والقول بأنها ثورات شعبية، خرجت من رحم المعاناة، وجرت أحداثها في الشوارع والميادين العربية على أيدي شبان مخلصين .. لا يعني الاطمئنان على مصيرها، سيما وأنها بلا قيادة واضحة، ومعظم قياداتها الشبابية بلا خبرة كافية، وحيث أن نظرية الفوضى الخلاقة تعتمد في أسلوبها على خلق تيارات فكرية متعددة ضمن إطار الديمقراطية، ومنها فكرة الإسلام المعتدل، الذي يوافق أفكار الغرب ولا يتصادم معها.

خلاصة

عندما انطلقت الثورات الشعبية العربية والتي سميت بالربيع العربي، كان التيار الكاسح من الجماهير وحتى من النخب مفتونا بها، وقد أخذ يتغزل بها ويعوّل عليها، لكن بعد عامين تراجع هذا التأييد إلى درجة ملحوظة، وبدأت الأصوات المشككة ترتفع أكثر .. وصار الحديث عن تبعية هذه الثورات، أو إنها صنيعة مؤامرة خارجية يقال في العلن.
هذا التراجع جاء نتيجة خيبة الآمال من تحسن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، ونتيجة الصدمة من صعود الإسلام السياسي وتسلمه السلطة في أكثر من بلد، ونتيجة ممارسات عديدة مرفوضة، سواء من قبل الثوار كالعنف غير المبرر وأعمال الانتقام، أو من قبل السلطات الحاكمة الجديدة، التي فجعت الجماهير بأدائها الهزيل والمثير للجدل.

وما عزز من هذا التوجه، هو الموقف الأمريكي غير المتوقع (الاصطفاف إلى جانب خيار الشعوب)، أو المتوقع (التحالف مع قوى الإسلام السياسي، وتسهيل مهمة وصولهم للحكم)، ولكن، حتى لو جاءت النتائج مخالفة للمقدمات، فإن هذا لا يعني أن ما جرى كان عبارة عن مؤامرة أعدت بليل. فالتاريخ يخبرنا بأن كثير من الثورات الشعبية تمت سرقتها على أيدي قوى لم تكن مشاركة بها، أو أنه تم حرفها عن مسارها؛ فليس بالضرورة أن تنتصر كل ثورة لمجرد أن أهدافها عادلة، وثوارها مخلصون.

وإذا انحازت أمريكا لتيار معين من الإسلام السياسي ودعمت توليه السلطة، فهذا لا يعني أن جميع تيارات الإسلام السياسي عملاء للغرب، فهذا الاستنتاج عدى عن سذاجته هو تعميم دوغمائي ووقوع في فخ نظرية المؤامرة. وطالما أن المخططات الأمريكية بعيدة المدى تستهدف تجزئة دول المنطقة إلى دول دينية وكانتونات طائفية؛ فإن تأجيج الصراعات الدينية والمذهبية والطائفية يصبح شرطا ضروريا لتنفيذ المخطط وضمان نجاحه، وهذا يتطلب وجود قوى وأحزاب وتيارات دينية، تتولى السلطة أو المعارضة.

بمعنى آخر، الولايات المتحدة ليس لديها مشكلة في وصول أحزاب إسلامية للسلطة، فهي منذ اندلاع الربيع العربي وضعت خطط وبدائل للتعامل مع كافة الاحتمالات، سواء وصل الإسلاميون للحكم، أم العلمانيون، المهم أنها قادرة على فرض شروطها على أي جهة تتولى السلطة، بل أنها لم تبذل جهدا يُذكر في سبيل ذلك.

على أية حال، كل هذه النظريات تبقى موضع جدل ولا يمكن إثبات صحتها في الوقت الراهن. وربما تكون أمريكا قد تسرعت في تبني هذا الخيار، أو أنها كانت مجبرة على التعاطي معه، خاصة وأن إعلامها يصدح بها ليل نهار، وأنها بحجة بناء الديمقراطية شنت حروبها على أفغانستان والعراق وغيرها، وبالتالي سيكون من الصعب عليها تبرير أي موقف معادي للديمقراطية.

ولابد من التأكيد على أن أمريكا وغيرها لا تمتلك مفاتيح المستقبل، وليس بمقدورها التحكم بنتائج كل شيء، وليس كل ما يجري على الأرض إنما يجري بعلمها وموافقتها. ومع ذلك لا بد من الاعتراف بأن لديها مراكز الأبحاث والدراسات التي تضم المفكرين والمحللين الذين يراقبون الأحداث ويقرؤون الواقع ويضعون الخطط والبدائل، ومن البديهي أنه عندما تجري أحداثا معينة بمستوى ما يجري في المنطقة العربية، فإنها سرعان ما ستحاول ركوب الموجة والاستفادة من هذه التغييرات، أو تحويلها بما يخدم مصالحها، ولكن ليس هناك أي ضمانة لنجاحها في ذلك، ومثال ذلك الأبرز هو التحولات الديمقراطية في البلدان العربية.

باعتقادي أن الديمقراطية الحقيقية التي تنشدها الشعوب العربية ستعمل على تصويب المسار التاريخي للأمة العربية بعد أن كان يتجه بعكس مسار الحضارة الإنسانية، وستعمل على إطلاق المبادرات والطاقات التي ظلت مدفونة تحت رماد القمع والاستبداد، وستخلق البيئة والمناخ الصحي الذي في ظله ستعبر الشعوب عن إرادتها الحرة وعن قناعاتها التي تؤمن بها، وستصنع في فضائه مستقبل هذه الأمة بسواعد أبنائها وبشغفها للحرية، وتوقها للخلاص من كل أشكال الهيمنة والاستبداد.

المراجع

1.     د. سامح فاروق مصطلح، الفوضى الخلاقة ذلك الشرق الأوسط الجديد، صحيفة الوفد، http://www.alwafd.org/
2.    جميل عفيفي، الثورات العربية. ومشروع الشرق الأوسط الجديد، جريدة الأهرام، 14-2-2012.
3.    د. نور الدين عواد، مقاربة أولية للسياسة الخارجية الأمريكية في عهد أوباما، ورقة بحثية مقدمة للمؤتمر الدولي الثاني عشر "علوم سياسية جديدة"، الذي عقد في الفترة 18 ـ 20 نوفمبر 2009. هافانا ـ كوبا. http://www.grenc.com/show_article_main.cfm?id=23070
4.    د. أحمد جميل عزم، الواقعية الجديدة، صحيفة الاتحاد الإماراتية، 15-4-2011.
5.    فرانسيس فوكوياما، نهاية التاريخ وخاتمة البشر، ترجمة: حسين أحمد أمين، مركز الأهرام للترجمة والنشر
الطبعة 1،  1993 .
6.    فؤاد النمري، نهاية التاريخ وفوكوياما، الحوار المتمدن، العدد: 1962 - 2007 / 6 / 30
7.    عبد الأمير محسن ال مغير، نظرية الفوضى الخلاقة ومشروع الشرق الأوسط الجديد، شبكة الإعلام العراقي. http://www.imn.iq/articles/view.268
9.    إدوارد سعيد، إسرائيل، العراق، الولايات المتحدة، دار الآداب، بيروت، ط1، 2007.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق