أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

مايو 21، 2013

القضية الفلسطينية - نصف قرن من التحولات



شكَّل تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في 28 أيار/مايو 1964 مفصلا تاريخيا بالغ الأهمية، يمكن استخدامه كحد فاصل يقسم التاريخ الفلسطيني المعاصر إلى مرحلتين: ما قبل إنشاء المنظمة وما بعده. عند إنشائها نظرَ كل طرفٍ إليها من زاويته الخاصة: عبد الناصر أرادها أن تكون إحدى أهم منجزاته، ومن خلالها يرد على خطوة إسرائيل بتحويل مجرى نهر الأردن. جامعة الدول العربية أرادت أن تشغل مقعد فلسطين الشاغر في الجامعة بعد غياب حكومة عموم فلسطين. الأنظمة العربية أرادت التخلص من العبء الأخلاقي والسياسي لقضية فلسطين، بتصدير المشكلة للفلسطينيين وحصرها بهم، وبعض الأنظمة أرادت مراقبة الحراك الشعبي الفلسطيني واحتوائه، وضبط إيقاعه والتحكم فيه. سوريا والعراق أرادتا اختراق الكيان الجديد، وتكريس الوصاية على التمثيل السياسي للشعب الفلسطيني، ومواجهة المد الناصري من خلاله.

الأردن اعتبر تأسيس المنظمة تدخلا في الشأن الداخلي؛ باعتبار أن الضفة الغربية (بما فيها القدس) تحت السيادة الهاشمية. الأحزاب القومية اعتبرتها استمرارا للفكر القُطْري ونهج التجزئة الاستعماري. أحزاب الإسلام السياسي اعتبرتها أداة لتغييب البُعد الإسلامي للقضية الفلسطينية. حزب التحرير الإسلامي اعتبرها أداة سياسية صنعتها أميركا لتمرير مشروع الاعتراف بإسرائيل، وفرض الحلول الاستسلامية باسم ممثلي الشعب الفلسطيني.

أما مؤسس المنظمة أحمد الشقيري، فقد كان في ذهنه أمور أخرى مختلفة تماما: أراد أن يصبح للفلسطينيين كيان سياسي يمثلّهم، ويعبر عن قضيتهم، ويتحدث باسمهم، لتبيت هويتهم السياسية التي رأى أنها تواجه خطر التذويب والإنهاء، معتبرا أن الالتفاف الشعبي حول المنظمة هو الذي سيحميها من التدخلات الخارجية، وسيبدد كل المخاوف التي تدور في ذهن القوى الوطنية والثورية فيما يخص موضوع الوصاية والتبعية.

في المؤتمر الأول للمجلس الوطني الذي عُقد في القدس في 28 أيار 1964، أُقر النظام الأساسي للمنظمة، وتمت الموافقة على «الميثاق القومي الفلسطيني»، الذي جاء معبّرا عن النهج القومي السائد حينها، وتم انتخاب لجنة تنفيذية برئاسة الشقيري. ولكن بعد أقل من ثلاث سنوات حدثت هزيمة حزيران 1967، ومعها تغيرت معطيات المرحلة وتغير اللاعبون، وبدأت مرحلة جديدة من التاريخ الفلسطيني.

قبل الإعلان عن ميلاد المنظمة بسنوات قليلة، كانت مجموعات من الشباب الفلسطيني (منهم من ينتمي لأحزاب عربية وإسلامية) مع بعض الفصائل الفلسطينية الصغيرة تتلاقى وتتجمع على فكرة ضرورة أخذ زمام المبادرة، وعدم انتظار أي حل من الأنظمة الرسمية، وأهمية البدء بممارسة الكفاح المسلح، منتظرين اللحظة الملائمة للإعلان عن انطلاقة الثورة الفلسطينية، من خلال تنظيم سياسي يغلّب الجانب الحركي الثوري على الأيديولوجي، والذي سيعرف بحركة فتح.

في تلك المرحلة كانت حركة فتح تراقب بحذر خطوات تأسيس المنظمة، وتقرأ بتمعن بنود الميثاق القومي، وقد رأت حينها أن منظمة التحرير من الممكن أن تظل أداة مرهونة بيد الأنظمة العربية، ستستخدمها لضبط وتقييد العمل الفدائي، وبالتالي ستشكل عائقا أمام المد الشعبي الذي تحتاجه الثورة، فضلا عن تخوفها من استخدام المنظمة كغطاء لتسويق مشاريع التسوية التي اعتبرتها مؤامرات لتصفية القضية. إلى جانب تلك المخاوف، فقد رفضت فتح بعض بنود الميثاق القومي التي رأت أنها تتناقض مع التطلعات الوطنية، مثل البند الذي ينص على أن «منظمة التحرير الفلسطينية لا تمارس أية سيادة إقليمية على الضفة الغربية في المملكة الأردنية الهاشمية ولا قطاع غزة»، علماً بأن الحركة في تلك المرحلة المبكرة لم تكن تولي موضوع السيادة الإقليمية والسلطة السياسية على الأرض الاهتمام اللازم.

وأيضاً من التحفظات التي وضعتها «فتح» على الميثاق القومي غلبة النَّفَس القومي على بنوده ومواده، وتجاهُله الخصوصية الوطنية الفلسطينية، وغياب الروح الثورية القتالية عنه، كما انتقدت خلوّه من أي نص يدعو للاستقلال الوطني، وأنه لم يتضمن كلمة كيان فلسطيني، ولم يفصح عن أن شعب فلسطين عازم على بناء كيان خاص به.

ولكن، وعلى الرغم من تخوفات «فتح» من المنظمة، وعدم رضاها عن قيادتها ومنهجها، وتحفظها على الميثاق القومي؛ إلا أنها لم تعاديها، بل سعت للدخول إليها، واستخدامها منبراً للمطالبة بالحقوق الفلسطينية. وبعد تنامي شعبيتها، تحالفت «فتح» مع بقية الفصائل المسلحة وشاركت في دورة المجلس الوطني التي عقدت عام 1968، لتحكِم سيطرتها شبه الكاملة (مع بقية الفصائل الفدائية) على المجلس الوطني واللجنة التنفيذية. وقد انتهى بهم الأمر إلى تغيير الميثاق القومي واستبداله بالميثاق الوطني الفلسطيني، بمضامينه الثورية والوطنية الجديدة. وبذلك؛ يمكن القول إن حقبة جديدة من التاريخ الفلسطيني قد بدأت، بسمات وخصائص مختلفة.

عندما تأسست منظمة التحرير كان الخطر الأهم الذي يتهدد القضية الفلسطينية هو مخططات دمج وتوطين الشعب الفلسطيني وإلغاء هويته الوطنية، ونزع الصفة السياسية عن القضية وتحويلها إلى مجرد مأساة لاجئين. وفي المقابل كان النظام العالمي في تلك المرحلة ثنائي القطبية، ينطوي على نوع من التوازن بالقدر الذي يمنح حركات التحرر بعض عناصر القوة، ويمكّنها من بناء تحالفات دولية وإقليمية. كما كان النظام العربي في ذاك الوقت أشد تماسكا وأكثر فاعلية.

أمام هذه المعطيات، كان من المتوقع (وربما الحتمي) بروز كيان سياسي فلسطيني، والذي سيُعرف لاحقا بمنظمة التحرير الفلسطينية، وكان من المنطقي أن تركز هذه المنظمة نضالها في البداية على انتزاع اعتراف عربي ودولي بها، كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني. وهو الأمر الذي تحقق في قمة الرباط عام 1974؛ وبذلك ستكون المنظمة على عتبات محطات تاريخية عديدة، ستؤدي بها إلى إحداث سلسلة من التحولات الهامة في نهجها وخطابها وبرنامجها السياسي.

وبما أن برنامج أي منظمة أو حزب سياسي يأتي انعكاسا للواقع السياسي ومعطياته في كل لحظة تاريخية؛ بالتالي فإن تغير هذه الظروف سيقود إلى تغير في تلك البرامج. ومن هذا المنطلق فإن فهم هذا الواقع والظروف المحيطة به، والمقاربة بين ظروف ومعطيات الأمس واليوم، يُعدان شرطان أساسيان لفهم طبيعة هذه التغيرات وأسبابها؛ على سبيل التوضيح، عندما تأسست المنظمة كان يحيط بها جملة من الظروف والمعطيات التي فرضت نفسها على خطها السياسي، أما اليوم فإننا أمام واقع جديد ومختلف كليا: الشعب الفلسطيني الذي كاد بعد النكبة أن يختفي من الخارطة السياسية، تضاعف عدده سبع مرات، وصارت له ثورة مسلحة، وبعد أن كان «مجموعات من اللاجئين» صار له كيان سياسي معترف به، وهذا الكيان بات من الحقائق الثابتة على الخارطة السياسية الدولية. منظمة التحرير بكوادرها وقياداتها التي كانت في المنفى تخضع لديكتاتورية الجغرافيا السياسية صارت في قلب الوطن، ولكن بسلطة وطنية تخضع للاحتلال. قيام دولة فلسطينية بعد أن كان مستحيلا ترسخ كشرط أساسي لإحلال السلام، وقد صدرت قرارات دولية بهذا الشأن، أهمها اعتراف الجمعية العامة بفلسطين عضو مراقب في 29-11-2012. ومن البديهي أن مثل هذه المنجزات لم تكن لتتحقق لولا ممارسة العمل المسلح، ولولا الصمود البطولي للشعب الفلسطيني فوق أرضه وفي المنافي. فصائل المنظمة التي كانت في البدايات تركز على الكفاح المسلح وتستخف باستهانة سافرة بالعمل السياسي، اليوم تركز على الكفاح الشعبي والمقاومة المدنية، وتولي الأهمية الأكبر للعمل السياسي والدبلوماسي

لكن أهم وأخطر تغير طرأ على المستوى الداخلي هو حصول الانقسام، ونشوء كيانين آخذين بالانفصال أكثر فأكثر، هذا الانقسام لم يكن جغرافيا فحسب، بل صار سياسيا بخطابين وموقفين مختلفين، بالشكل الذي يهدد وحدانية تمثيل المنظمة للشعب الفلسطيني، ويقوض الإنجازات الوطنية التي تراكمت عبر عقود، ويشوه صورة النضال الفلسطيني.

عربياً، يمكن القول أيضاً إن الواقع العربي تغير كلياً؛ الأردن فك ارتباطه بالضفة الغربية. عبد الناصر وثورته أصبحت من التاريخ، والخطاب العربي الرسمي تحول جذريا، ولم يعد يتضمن صراعا عسكريا مع إسرائيل، ومصر ارتبطت بمعاهدة كامب ديفيد، والعراق سقط في القبضة الأميركية، وحصل الربيع العربي، وتبدلت أنظمة، وجاءت للحكم أنظمة جديدة متفاهمة مع أميركا. على المستوى الإسرائيلي، تضاعف عدد اليهود نحو عشر مرات، إلا أن سياسة إسرائيل تجاه «السكان» الفلسطينيين تغيرت جذريا مع بداية التسعينيات، أي بعد أن سقطت - ولو إلى حين - فكرة طردهم للخارج، وفشلت محاولات ضمهم للداخل وهضْمهم داخل المجتمع الإسرائيلي، وعجزت عن لجمهم أو إسكات صوتهم. كما أن خطر القنبلة الديموغرافية صار أكثر وضوحا، وقد تعمق المأزق الإسرائيلي فيما يخص سياستها تجاه الفلسطينيين؛ فلا هي قادرة على الحفاظ على «الهوية اليهودية» لإسرائيل، ولا هي قادرة على الحفاظ على صورتها الديمقراطية أمام الغرب (بسبب سياساتها القمعية والعنصرية)، ولا هي متقبلة لحقيقة وجود الفلسطينيين، ولا لفكرة التعايش معهم. وبعد أن كانت تعتبر الفلسطينيين مجرد سكان «مشاغبين» اعترفت أخيرا بوجودهم كشعب له «حقوق وطنية»، وفق التعريف الإسرائيلي لهذه الحقوق، وبعد أن كانت ترفض الاعتراف بالمنظمة وتقصف مقراتها وتغتال قادتها؛ ها هي الآن تتعامل مع السلطة الوطنية وتجري معها مفاوضات مباشرة.

أميركا التي كانت تحظر على أي موظف في الخارجية الأميركية مجرد الحديث مع أي كادر من منظمة التحرير، وكانت تتجنب التلفظ بمصطلح الشعب الفلسطيني، وترفض الاعتراف بوجوده، ناهيك عن الاعتراف بمنظمة تمثله، بعد أن بدأت الحوار رسميا مع المنظمة (1989)، أخذت تطرح لأول مرة مصطلح دولة فلسطينية (2001)، وها هي الآن تتبنى رسميا مبدأ «حل الدولتين». ونفس الوضع ينطبق على الاتحاد الأوروبي (مع اختلاف التدرج التاريخي). فلسطين التي كانت غائبة تماما عن ترتيبات النظام الدولي الجديد بعد الحرب العالمية الثانية، ها هي اليوم دولة «عضو مراقب» في الأمم المتحدة، وتعترف بها غالبية دول العالم، وتتبادل معها السفارات.

التحدي المهم الذي تواجهه المنظمة اليوم، هو قدرتها على تجديد نفسها، واستيعاب الفصائل الفلسطينية التي لم تنضم لها حتى الآن، وأبرزها كل من حركتي حماس والجهاد الإسلامي، مع الأخذ بعين الاعتبار إمكانية سيطرة «حماس» على المنظمة، وتكرار تجربة «فتح» ولكن بصورة مختلفة وباتجاهات أخرى؛ أي أن تبدأ «حماس» بأسلمة المنظمة، وفرض أيديولوجيتها ونهجها وخطابها عليها، بما يعني كل ذلك من تغيير لأسس ومنطلقات إدارة الصراع، وما يتبع ذلك من تبني خط سياسي جديد، لكنه سيكون امتدادا لتجربة «حماس» في إدارتها قطاع غزة، وإدارتها الصراع مع إسرائيل في ظل شروط التهدئة التي وافقت عليها.

فهْم تلك المتغيرات واستيعابها، مسألة بالغة الأهمية، بل هي الخطوة التي يجب أن تسبق أي عملية لوضع إستراتيجية فلسطينية صحيحة؛ فما لم تؤخذ هذه الحقائق وغيرها بالحسبان، فإن احتمالات الفشل والدوران في حلقة مفرغة ستكون هي المرجحة، وبخاصة أن بعض الفصائل ما زالت في خطابها السياسي تعيد إنتاج نفس اللغة التي سادت قبل عقود من الزمن، وبنفس المفردات، من دون أن تمحص في ما بقي منها صالحاً في الظروف الجديدة وما عفا عليه الزمن. كما لو أنها قد أغلقت عيونها عن رؤية ما استجد من وقائع على الأرض في نصف قرن من الزمان.

ومع وضوح صورة المتغيرات الداخلية والخارجية، وتمايز أشكال النضال الفلسطيني في مراحله المختلفة؛ إلا أن ذلك لا يعني أن هناك قطيعة بين المراحل، أو أن النضال الوطني قد توقف عند مرحلة معينة؛ فقد واصلت الحركة الوطنية الفلسطينية عطاءها وكفاحها بأشكال عديدة، كانت تتناسب في كل مرة مع ظروفها، وأحيانا تفوق إمكاناتها، حتى لو كان ذلك يعني تغييرا في البرامج والتكتيكات والمفاهيم السياسية. ومع ذلك، يصعب القول أن تلـــك التحولات كانت في سياق منحى منتظم ومدروس من الصعود (أو الهبوط)؛ لأن المفاجآت التي كانت تقع، وسرعة تدفق الأحداث، وعمق التحولات الإقليمية والدولية كانت في أغلب الأحيان أكبر من قدرة المنظمة على الوقوف في وجهها، لذلك لم يكن أمامها إلا امتصاصها والتكيف معها ضمن عقلية سياسية مرنة، تعبر عن حالة من النضج والاستيعاب، من دون أن يعني ذلك خلو المسار من الأخطاء القاتلة والتقديرات الخاطئة.


[*]  كاتب وباحث فلسطيني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق