أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أبريل 24، 2013

صواريخ أرب أيدول



للفلسطينيين مع الاحتلال الإسرائيلي قصة كفاح طويلة ومريرة؛ تعددت أشكالها وصورها ومحطاتها .. وإلى الآن لا يبدو في الأفق القريب نهاية عاجلة لها. وفي كتابه "حياة غير آمنة" يصف "شفيق الغبرا" تجربة الفدائيين الفلسطينيين في لبنان، ويقول: "تعلمنا من اللبنانيين الإقبال على الحياة في أحلك الظروف، وهم تعلموا منا فكرة تقبل الموت والتعايش معه" .. وبالرغم من طول التجربة الفلسطينية في الكفاح الوطني وتنوعها وثرائها، إلا أن البعض يصر على اختزالها في قالب واحد، مع حرص غريب على إظهارها بصورة قاتمة، لا يظهر منها إلا قصص الشهداء والأسرى والمواجهات الدامية، ومصادرة أشكال الكفاح الأخرى بتجلياته وعبقريته المذهلة، وتغييب أنماط المقاومة والصمود، التي تفيض بمظاهر الحياة الطبيعية، وتزخر بالمعاني الإنسانية والحضارية.

فكما قدَّم الفلسطيني مآثر خالدة في الفداء والبطولة والتضحية، سالت فيها دماء غزيرة؛ إلا أن الحالات النضالية التي ارتبطت بالفن والثقافة والإبداع الإنساني كانت الأشهر والأطول تأثيرا، وفي هذا السياق تقوم بعض المنظمات والأندية الأهلية بين فترة وأخرى بتنظيم مهرجانات غنائية، أو استضافة فرق فنية عالمية، أو إقامة فعاليات ثقافية وفنية ورياضية متعددة، مثل مهرجان الرقص المعاصر، وغير ذلك .. مثل هذه الأنشطة  تعترض عليها أحياناً بعض القوى الوطنية (بما فيها قوى يسارية) بحجة احترام دماء الشهداء ومعاناة الأسرى .. وفي أغلب المرات تجابَه بسيل من الانتقادات الحادة من قبل قوى إسلاموية وتقليدية، التي تصفها بالخلاعة والفسق والمجون، وتتهمها بنشر الرذيلة.

فإذا اعتبرنا أن الموسيقى والرقص والغناء هي نوع من الاحتفال بالحياة، وتعبيراً عن الإقبال عليها بابتهاج، وإعلاءً لقيمة الفن والجمال والحب .. فإن رفضها هو رفض للحياة الطبيعية، وتعميم لثقافة الموت، ونشر للهمّ والغم والأحزان ... ونحن هنا أمام نوعين من الرفض: الأول يرفض أي نوع من الاحتفالات والمهرجانات الفنية في أوقات وظروف معينة لاعتبارات وطنية، لكنه يقبلها في ظروف وحالات أخرى. أما الثاني فيرفضها بصورة مطلقة، وفي كل الظروف لاعتبارات أخلاقية وأيديولوجية، بحجة أنها تشيع الفاحشة.

لسنوات طويلة في الانتفاضة الأولى، حظرت القوات الضاربة على الناس إقامة الحفلات، بما في ذلك حفلات الأعراس. اليوم، يمكننا طرح السؤال عن مدى نجاعة وصوابية مثل هذا النهج، وقياس أثره على الأجيال، وهل يتعارض الفن والفرح مع النضال المباشر مع الاحتلال ؟! وهل تقديم التضحيات يعني بالضرورة أن يترافق معها الأحزان، وأن تُفرض هذه الأحزان على كل المجتمع ؟!

عندما برز الفنان الفلسطيني الموهوب "محمد عساف" في برنامج "أرب أيدول" ظهرت أصوات عديدة تنتقده بحدة، بل وتنتقد كل من يشجعه أو يصوت لصالحه، وتقارن بينه وبين الأسير المضرب عن الطعام منذ أشهر طويلة "سامر العيساوي" !
"سامر العيساوي" بطل فلسطيني صنع معجزة، ولا أحد يختلف على ذلك، وهناك إجماع شعبي ورسمي على دعمه ومساندته .. لكنه ليس الحالة النضالية الوحيدة في فلسطين .. العيساوي مثل الكثير من الجروح النازفة في الجسد الفلسطيني .. التي تكشف عن عجزنا جميعا، وأحيانا تفضح ضعفنا وجهلنا .. لكن البعض يرفض الاعتراف بهذه الحقيقة، ويصر على تبرئة ذاته باتهام الآخرين.

"العيساوي" يناضل بصبر وشجاعة نادرة من أجل حريته، و"عساف" يغني من أجل الحرية .. كلاهما بطل ولكن بطرق مختلفة. وما عملية المقارنة بينهما إلا نوع من المزايدة، أو سوء في الفهم، ناجم عن عمليات خلط مفتعلة لتؤدي أدوارا سياسية غير بريئة. من يشجع "عساف" أو يصوّت لدعمه لا يمكن أن يكون عائقا أمام تحرير "العيساوي".

من ناحية ثانية، فإن لتوقيت الهجوم على "عساف" دلالات أخرى؛ إذْ يأتي في الوقت الذي تنفذ فيه حكومة حماس في غزة حملة على الشبان بشكل خاص، تستهدف إلزامهم بقَصة شعر معينة، ومنع ارتدائهم البنطلونات "الساحلة"، إلى غير ذلك من محددات (أخلاقية) تريد حماس أن تفرضها على المجتمع، بينما يطل علينا الشاب "عساف" بقصة شعر ومظهر عصري لا تقبل به شرطة حماس. ما يعني أن تألق "عساف" ونجاحه المبهر سيضع الكثير من علامات الإستفهام والتشكيك بحملة حماس على شباب غزة، وسيظهر للعالم أن أولويات حماس واهتماماتها "الشكلية" ليست ضمن المسار الصحيح.

صحيح أن الفن (الملتزم) اقترن بالثورة الفلسطينية منذ بداياتها، وأدى أدوارا وطنية لا تقل أهمية عن البندقية والكلمة والمظاهرة .. لكن الفن بصورة عامة هو التزام بقضايا الإنسان ومشاكله واحتياجاته العاطفية والنفسية. وصحيح أيضاً أن الفنان "عساف" غنّى للكوفية وللوطن والأسرى والشهداء .. لكنه بقدر ما هو مناضل هو أيضا فنان، وقبل ذلك كله هو إنسان، يغني للفن والجمال والحياة .. ليبث الأمل في قلوب الناس، ويزيل عنها طبقات الصدأ والتكلس .. وحتى عندما غنى لفلسطين، غنى بفرح وحبور .. وأطل على العالم بابتسامته المشرقة، ليقول لهم بصوته الشجي أن شعب فلسطين أناس عاديون .. بشر طبيعيون .. وأن قصة كفاحهم الملحمية فيها فصول من الحب والبهجة والاحتفاء بالحياة.
الموسيقى التي يصدح بها "عساف" (وكل زملائه الرائعين) هي صوت المحبة والتواصل والتقارب بين المجتمعات العربية وفق الهوية الإنسانية .. بل هي لغة العالم التي لا تعترف بالحدود السياسية، ولا بالفروقات بين البشر على أسس عرقية وإثنية، وهي التي تنقّي القلوب من أدران الكراهية والعنصرية والشوفينية، وتخلصها من شحنات الغضب والكبت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق