أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

مارس 28، 2013

تحولات الزمن



في الأزمنة السحيقة كان تاريخ البشرية بأكمله يُقرأ كوحدة واحدة، ويقاس بالعصور، وكانت تمر على المجتمعات الإنسانية قرونا كاملة دون أن يطرأ عليها تغييراً يُذكر، ومع تزايد عدد البشر وانتشارهم في أصقاع مختلفة من الأرض، صار لكل منطقة ما تاريخها الخاص بها، وصار المقياس الزمني أقصر قليلا، وهكذا، ومع كل تطور كانت تحرزه الإنسانية صار التاريخ يأخذ منحى أكثر تخصصا، والوحدة الزمنية تقصُر، وتحتمل أحداثا أكثر وأهم. أي أنه جرى تكثيف للوحدة الزمنية التي تفصل كل تاريخ عن آخر. فبعد أن كانت بالقرون صارت بالأيام، وأحيانا بالساعات، فما كانت البشرية تحتاج مئات السنين لتنجزه صارت تنجزه بأسابيع قليلة، وما كانت تحتاج لإتمامه سنوات، صارت تتمه على أكمل بوجه في غضون ساعات أو ربما دقائق.

وقبل قرن من الزمان أو أكثر قليلا، كان لأشياء بسيطة قدرة مدهشة على إنتاج أحداث ضخمة؛ مثلا كان يكفي كتابة مقال صحافي للتسبب بمجزرة، أو نشر كتاب لإنشاء دولة، أو عقد مؤتمر لتأسيس حزب تاريخي، أو إذاعة خبر لتحريك شعب بأكمله، أو تصريح زعيم لإشعال حرب .. وهناك أمثلة حقيقية على كل ما تقدم ذكره، قد لا يتسع المجال لذكرها هنا.

اليوم اختلف الوضع كثيرا؛ فمع الانتشار الهائل لوسائل الإعلام، ومع وجود آلاف الصحف والمجلات وقنوات التلفزيون التي تنشر في كل ساعة مئات الأخبار والتقارير، ومع ملاين الكتب والمقالات والأبحاث التي تتناول شتى المواضيع .. صارت تلك الأشياء الصغيرة بحاجة لجرعات مضاعفة عشرات المرات حتى تمتلك قدرتها على التحريك والفعل.

وهذا يحمل في ثناياه جوانب سلبية خطيرة، حيث جرى غياب وتغييب عشرات النداءات والأصوات النبيلة والتضحيات الإنسانية التي كان من الممكن لها أن تنقذ كوكبنا من جهل أبناءه، ومن شرورهم. وأيضا بسبب ضخامة الأحداث وكثرتها وتسارعها وتنوعها، وقدرة الميديا المذهلة على توجيه دفة اهتمامات العالم، بالتركيز على قضايا معينة وتغييب أخرى، صارت قضية بحجم القضية الفلسطينية تتوارى أحيانا خلف أحداث صغيرة ومفتعلة. أما الجوانب الإيجابية في هذا التغير التاريخي فتتمثل في تقليص قدرة تلك الأشياء الصغيرة التي كانت تديرها "أيدي خفية" على إنتاج الشر، سيّما مع تنامي حالة من الوعي والتنبه لدى شعوب العالم.

وفي العصور الغابرة أيضاً، كان "الإمبراطور" يحكم بلادا شاسعة تزيد مساحتها (أو تقل قليلا) عن مساحة عشر دول حالية، وكان لديه جيش عرمرم، وحاشية من الوزراء والندماء والمتملقين، ويسكن في أضخم القصور وأفخمها، مع مئات العبيد والجواري والخدم والحراس، يأمر فُيجاب على الفور .. وكان يظن نفسه يملك الدنيا بكل متعها وأُنسها وكنوزها ونعيمها وخيراتها.

اليوم، أي إنسان عادي، يسكن في بلدة عادية وفي منزل متواضع، لديه من متع الدنيا وأسباب الراحة والسرور ما يفوق أضعاف ما كان يملكه ذلك الإمبراطور .. لديه الماء البارد يشربه في قيظ الصيف، ويأتيه دافئا في صنبور ينزل على جسده فينعشه في عز البرد، وبكبسة زر يأتيه الهواء العليل والضوء الساطع، ومن هاتفه النقال يتصل مع صديق له يستجم في القطب الشمالي، ويرى ويسمع حركة التماسيح في أدغال الأمازون، وعش نسر في جبال الأنديز، وحديث الرئيس الأمريكي مع زوجته في البيت الأبيض، وفي الشارع المجاور له يتسوق من أشياء لم يتوقع ذلك الإمبراطور أنها ستكون موجودة في يوم من الأيام، وسيأكل أشهى الأطعمة من كل مطابخ الشعوب، وسيشرب ما لا حصر له من أنواع المشروبات، وسيسافر إلى الصين محمولا على جناحي طائرة، في مقعد وثير، وسيطرب على صوت فيروز، ويسهر مع أفلام هوليود .. فكل هذه المتع وأسباب الراحة كانت لا تتوفر للإمبراطور، فكيف كان حال الناس العاديين، أو الفقراء المعدمين !؟

في المستقبل القريب (والبعيد) ستطرأ تغيرات أخرى مثيرة على سكان الأرض وأنماط حياتهم، من العبث نفي إمكانية وقوعها رغم استحالة ذلك الآن، فكما صار الآي باد والآي فون وغيرها المخترعات من صميم حياتنا الراهنة، بعد أن كانت رجما بالغيب قبل سنوات قليلة، سيشهد العالم أشياء جديدة ومختلفة لا يمكن لنا أن نتخيلها اليوم.

وفي كل هذه التحولات، قديما وحديثا ومستقبلا، عاش (وسيعيش) كثير من البشر أشقياء معذبين حائرين، وآخرين فرحين سعداء .. فللإنسان قدرة هائلة على التكيف مع كل الظروف .. وما عليه إلا أن يختار لنفسه ما يريد ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق