أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

مارس 16، 2013

مكافحة منتجات المستوطنات .. هل هي حملة إعلامية، أم جزء من إستراتيجية وطنية



يرتكز المشروع الصهيوني في بُعده المحلي على احتلال الأرض ومصادرتها وتفريغها من السكان، ويأتي الاستيطان ترجمةً فعلية لفكره العنصري التوسعي، وأداةً لتهويد الأرض وتغيير معالمها وطمس هويتها الوطنية، والاستيطان بهذا المعنى لا يشكل اعتداءً على الأرض والسكان وحسب، بل هو في الأساس شكل من أشكال جرائم الحرب، ومخالفة صريحة للقوانين والأعراف الدولية، وانتهاكاً صارخاً للاتفاقيات الدولية التي تحكم المناطق المحتلة (اتفاقية جنيف). وفي السنوات الأخيرة تسارعت وتيرة الاستيطان بشكل غير مسبوق، وأصبحت تهدد المشروع الوطني برمّته، وصارت المستوطنات المشكلة الأكثر تعقيداً من بين ملفات الوضع النهائي، والعقبة الكأداء أمام تحقيق أي تسوية سياسية.

وإمعانا منها في سياسة الاستيطان، تقدم الحكومات الإسرائيلية مزايا ضرائبية وحوافز مالية لكل من يقوم بفتح مصنع أو مصلحة تجارية أو زراعية داخل المستوطنات، حيث أنها تصنف المستوطنات كمناطق ذات أفضلية وطنية وتستحق الدعم الحكومي؛ الأمر الذي شجع بعض المستثمرين على الإقدام والاستثمار هناك، ناهيك طبعا عن استغلال الأيدي العاملة الرخيصة من الضفة الغربية. ولهذا الغرض صادرت إسرائيل آلاف الدونمات في مناطق مختلفة من الضفة لإقامة مناطق صناعية عليها، بلغ عددها حتى الآن سبع مناطق. وبالرغم من التعتيم على نوعية الصناعات الإسرائيلية ونشاطاتها وكميات إنتاجها ومخلفاتها؛ فإن التقديرات تشير إلى وجود نحو 250 مصنعا في شتّى مجالات الإنتاج، فضلا عن ما يقارب 3000 منشأة أخرى، من مزارع وشركات ومحلات تجارية متنوعة. ومعظم تلك المصانع تلحق ضررا بالغا في البيئة والصحة العامة، خاصة وأنها لا تتخذ الإجراءات اللازمة لمنع التلوث، ولا تطبق الطرق العلمية المتعارف عليها دوليا لمعالجة نفايات المصانع، ولا تخضع منتجاتها لأي نوع من الرقابة على شروط الإنتاج، وغالبا ما يتم إلقاء النفايات الصناعية الصلبة والسائلة الناتجة عن تلك المجمعات الصناعية في المناطق المجاورة والمحيطة بالقرى الفلسطينية.

وإلى جانب مخاطر التلوث، هناك المخاطر الاقتصادية؛ فمنتجات المستوطنات التي كانت تتدفق للأسواق الفلسطينية بدون رقيب، بسبب المنافسة غير العادلة بينها وبين المنتجات الوطنية أخذت تحتل حيزا كبيرا في سلة المستهلك على حساب المنتج الوطني، حتى صار هذا الإغراق السلعي غير المنضبط يمثل تهديدا حقيقيا على مستقبل الصناعات الفلسطينية، ويلحق بها خسائر جسيمة, فبسبب ضعف قدرتها التنافسية أغلقت العديد من المصانع والمنشآت الوطنية، أو أضطرت لتقليص إنتاجها إلى الحد الأدنى، وهذا بدوره أضر بالاقتصاد الوطني، وقلّص من فرص نموه وتطوره.

وأيضاً امتدت التأثيرات السلبية للمستوطنات لتطال القطاع الزراعي؛ فبسبب هيمنتها على مصادر المياه الجوفية، وحرمانها للمزارع الفلسطيني من الوصول إلى أرضه وزراعتها، تكبد هذا القطاع خسائر فادحة.

أما على الصعيد السياسي والإستراتيجي، فإن مئات الملايين من الدولارات التي ينفقها المستهلك الفلسطيني بشرائه من سلع المستوطنات ستصب بشكل مباشر لصالح دعم هذه المستوطنات وتثبيت وجودها وتقوية اقتصادها، وبالتالي فإن المعضلة السياسية المتمثلة بالاستيطان ستتعقد على نحو خطير ويصبح حلها أكثر صعوبة، وفي النتيجة ستتقطع أوصال أراضي الدولة الفلسطينية المنشودة، وتصبح فرصها في الحياة شبه معدومة، وسيفقد الفلسطينيون المزيد من أراضيهم.

لا شك أن السلطة الوطنية تدرك مدى هذه المخاطر، ومع أنها منذ قيامها شنّت حملات إعلامية وجماهيرية عديدة ضد الإستيطان، واتبعت سياسة مكافحة منتجات المستوطنات؛ إلا أن العمل على هذه القضية كان ضعيفا، وبدون رؤية واضحة أو قرارات معلنة، ولكن في بداية العام 2010 اتخذت السلطة الوطنية قرارا بتنظيف السوق الفلسطيني من منتجات المستوطنات، وللتأكيد على هذا التوجه أصدر الرئيس محمود عباس في نيسان من نفس العام مرسوم "قانون مكافحة منتجات المستوطنات"، والذي بموجبه تم حظر تداول خدمات ومنتجات المستوطنات، تحت طائلة المسائلة القانونية. ولتنفيذ هذا القرار (التاريخي)، أنشأت وزارة الاقتصاد الوطني - التي تحملت مسؤولية هذا الملف - ما عُرف حينها بِ"صندوق الكرامة الوطنية والتمكين"، لغايات تمويل الحملات الإرشادية والإعلامية والتفتيشية وغيرها من مقتضيات تحقيق هذا الهدف. وقد تبرعت السلطة بضعف ما تبرع به القطاع الخاص، وخصصت كادراً إداريا وعدداً من المفتشين، بالإضافة لمئات المتطوعين الشبّان. وبدت الأمور حينها تأخذ منحى جديا تصاعديا، لدرجة أن الإعلام الإسرائيلي شنّ حملة إعلامية شرسة ضد السلطة، كما هددت الحكومة الإسرائيلية بفرض عقوبات، بما فيها إعادة الحصار على الشعب الفلسطيني.

القائمين على الحملة أوضحوا أن قرار مكافحة منتجات المستوطنات يأتي في إطار الجهود الوطنية المبذولة في سبيل تكريس السيادة الوطنية وإعادة الاعتبار لكرامة الشعب الفلسطيني، وبما يتفق مع توجهات وأهداف السلطة لإعلان المناطق الفلسطينية خالية من منتجات المستوطنات، وأنها خطوة ضرورية لتحرير الاقتصاد الوطني الفلسطيني من الارتهان والهيمنة والتبعية لاقتصاد الاحتلال الإسرائيلي، كشرط أساسي لتحقيق الاستقلال، ومن منطلق فهم القيادة بأن المستوطنات هي مصدر التهديد الأول لمصادرة ونهب الأراضي، الأمر الذي تطلب اتخاذ سياسات فلسطينية أكثر وضوحاَ وجدية تجاه ملف الاستيطان.

بعد عام واحد بدأت تظهر نتائج إيجابية هامة؛ أبرزها أن موضوع الاستثمار في المستوطنات لم يعد يشكل عامل جذب، بل أصبح مخاطرة حقيقية، الأمر الذي حدا ببعض المصانع أن تنقل مكان عملها إلى داخل الخط الأخضر، فضلا على أن معظم تلك المصانع قد تضررت ولحقت بها خسائر كبيرة نتيجة تقلص مبيعاتها في السوق الفلسطينية بشكل كبير، إضافة إلى الأصداء العالمية للحملة التي سلطت الضوء على سياسة الاستيطان الإسرائيلية، وقبل ذلك كله فإن المنجز الأهم هو حالة الوعي الوطني المتنامية بضرورة مكافحة بضائع المستوطنات، والذي عبر عنه ذلك الحراك الشعبي وحملات المتطوعين والعزوف عن بضائع ومنتجات المستوطنات.

واعتبر عدد من القيادات الرسمية والشعبية أن مقاطعة منتجات المستوطنات تدخل في صلب مقاومة مخططات الاحتلال والنضال على إنهائه، وفي مقدمة ذلك مقاومة النشاط الاقتصادي للمستوطنين، جنبا إلى جنب مع مقاومة النشاط الاستيطاني بالوسائل الشعبية والمشروعة. وتأتي استكمالا للمقاومة الشعبية، التي شهدت مؤخرا العديد من المبادرات الخلاقة والمبدعة لمواجهة الجدار والاستيطان، وبالتالي فإن هذا الجهد الوطني الذي تمثله حملة مكافحة منتجات المستوطنات هو تعبير عن إصرار الفلسطينيين على ممارسة حقهم في الحياة بكرامة، وتمكينهم من البقاء والصمود فوق أرضهم.
وقد عكس التفاعل الشعبي الإيجابي مع الحملة حالة من الوعي الوطني تجاه هذه القضية الخطيرة، وقد عبّر عن ذلك مئات المتطوعين الذي شاركوا في حملة "من بيت لبيت" التي تركزت على زيارة الأهالي في بيوتهم، وحملة "من محل لمحل" والتي تركزت على زيارة التجار في محالهم ومحاورتهم.
ومن ناحية أخرى، فإن استخدام سلاح المقاطعة الاقتصادية باعتباره أرقى أشكال النضال السلمي الذي أثبت جدواه أكثر من مرة قد أعاد الاعتبار للكفاح الشعبي، وأعاد للشعب الفلسطيني صورته النضرة التي صنعها بنفسه خلال سنوات كفاحه المرير والطويل، بعد سنوات من الفوضى والتخبط والتراجع. بدليل صدور التصريحات المتشنجة والعدائية من قادة إسرائيل ضد العاملين في مكافحة منتجات المستوطنات، ما يعني أن هذا المشروع الوطني قد ألحق ضررا بالغا في اقتصاد المستوطنات، وأثر فيها بشكل مباشر وملموس، ويعني أيضاً أن إسرائيل تخشى هذا النمط الحضاري من المقاومة الشعبية.
ووفقا لتقديرات وزارة الاقتصاد الوطني، فإن اقتصاد المستوطنات يربح سنويا نحو 200 مليون دولار فقط من السوق الفلسطينية، فضلا عن مئات الملايين الأخرى المتأتية من الأسواق الخارجية، لكن هذه الأرقام تقلصت بشكل كبير في السنوات الأخيرة، نتيجة حملات المقاطعة الفلسطينية والعالمية؛ فإذا كانت بضائع المستوطنات تدخل السوق الفلسطيني (والعالمي) بأشكال عديدة وبدون عوائق، فإن الأمور اختلفت الآن؛ فعلى سبيل المثال وبسبب زيادة الوعي الوطني تراجع الاعتقاد السابق بأن المستهلك الفلسطيني يفضل المنتجات الأجنبية بما فيها منتجات المستوطنات على المنتجات الوطنية، وأيضا بدأ المستهلك الأوروبي يتفهم هذه القضية نتيجة الحملات الإعلامية. خاصة وأن العديد من دول العالم تشهد دعوات متزايدة (شعبية ورسمية) لمقاطعة منتجات المستوطنات؛ فمثلا توصي الحكومات الأوروبية بضرورة التمييز بين منتجات المستوطنات ومنتجات الفلسطينيين، وتحذر المخازن من التعامل مع منتجات المستوطنات على أنها منتجات إسرائيلية، وهذا الأمر أدى إلى حرمان هذه البضائع من الإعفاءات الجمركية الممنوحة للبضائع المصنعة داخل إسرائيل، وهذا ما زاد من قلق الحكومة الإسرائيلية تجاه نتائج هذه الحملات.
صحيح أن منتجات المستوطنات لا تحظى بالإعفاءات الجمركية في أوروبا، إلاّ أن هذه المصانع تتحايل من خلال إخفاء عناوينها، وبالتالي على الاتحاد الأوروبي أن يتبنى آليات رقابة أشد لمنع حدوث مثل هذا التحايل. لأن تحايل هذه المصانع يجعلها تربح مرتين: مرة كمصانع مقامة في المستوطنات تحصل على جميع الحوافز الحكومية، ومرة كمصانع إسرائيلية معفية من الجمارك الأوروبية.

وإذا سلمنا بأن حملة مكافحة منتجات المستوطنات هي تعبير عن مدى صلابة الموقف الفلسطيني تجاه ملف الاستيطان، وأن هذه الحملة أتت بنتائج إيجابية، وحققت إنجازات مهمة، وأضرت باقتصاد المستوطنات، بل وبسمعة إسرائيل نفسها؛ فإن السؤال الذي يبرز على الفور هو لماذا بدأت هذه الحملة بالخفوت التدريجي، حتى أصابها ما يشبه الشلل ؟! لماذا حلّت السلطة صندوق الكرامة ؟ ولماذا توقفت الحملات الإعلامية والإرشادية ضد منتجات المستوطنات ؟ حتى أننا بدأنا نشهد عودة تدريجية لها في الأسواق المحلية !! ألا يثير ذلك الشكوك في مدى جدية السلطة في مكافحة منتجات المستوطنات ؟ وأن ما حصل كان نوعا من الحملات الإعلامية (بروبوغندا) !

بعض المحللين يفسرون هذا التراجع بأنه استمرار لحالة الارتجال التي حكمت النضال الفلسطيني طوال العقود الماضية، التي ترهن القضايا الوطنية بالأشخاص، دون أن يكون هناك أي بناء مؤسسي يعمل على مراكمة الإنجاز، وتقييم التجارب، والاستفادة من الأخطاء. والبعض الآخر يوعزون هذا التراجع إلى ضعف الموقف السياسي الذي انطلق أساسا معتمدا فقط على انسجام الموقف الفلسطيني مع قرارات الشرعية الدولية، التي تنظر للكتل الاستيطانية على أنها غير شرعية، وبالتالي فإن كل ما ينتج عنها غير شرعي. وأنه كان الأجدى أن يكون الموقف الفلسطيني أكثر صلابة وجذرية، بحيث ينطلق من كون الاحتلال بحد ذاته غير شرعي، وبالتالي يكون الخطاب السياسي موجها ضد الاحتلال، وضد الحكومة الإسرائيلية التي هي الراعي الأول للاستيطان.

كما أن السفارات الفلسطينية في الخارج لم تقم بالدور الكافي للتجاوب مع الحملات العالمية المناهضة لمنتجات المستوطنات، ولم يكن بينها وبين وزارة الاقتصاد أي تنسيق في هذا المجال. ولم تستفد الفصائل الوطنية من حالة الوعي الشعبي، ومن مئات المتطوعين الشبان، بحيث تبني على هذه الحالة المزيد من الإنجازات، وتعمل على تصعيدها وتأطيرها ودعمها لتصبح حالة شعبية عامة وراسخة، ويصبح موضوع مكافحة منتجات المستوطنات جزء مهما من برامجها النضالية. وعلى أية حال فإن الفرصة لم تفت بعد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق