أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

فبراير 10، 2013

دفاعا عن اللون الأسود


في سنوات طفولتنا؛ كانت عقولنا ساذجة وأرواحنا غضة وقلوبنا بريئة، وكان أهالينا متفرغين تماما لحشو تلك الأوعية الفارغة بكل حمولاتهم من الموروث الثقافي وحكايات ما قبل النوم، وتحديد رموز الخير والشر .. ومن ضمن ما ترسب فيها في تلك السنوات المبكرة: الخوف من اللون الأسود، والتعامل معه كرمز للشر والعدوان؛ فكان مجيء الليل محفزا لأخيلتنا المحلقة والمرتبكة لاستحضار قوى الشر؛ فتظهر العفاريت، وتبدأ الكلاب في نُواحها الحزين محملا برائحة الموت. وإذا أرادت أمهاتنا أن نكف عن القفز واللعب ما عليها إلا أن تذكر قصص الغولة، وأبو رجل مسلوخة وغيرهم من الشياطين الذي يتأهبون لالتهامنا، وطبعا كل هؤلاء الأوغاد كائنات سوداء شريرة، لا تظهر إلا في الليل، لأنها تخشى بياض النهار.
وفي سنوات التدريس الأولى، وفي حلقات الذِّكر تُستكمل مهمة التعريف بالخير والشر باللونين الأسود والأبيض؛ فالجن والعفاريت والشياطين لونهم أسود، والغراب يجلب النحس لأنه أسود، والقطة السوداء هي جنّية شريرة، والكلب الأسود هو شيطان خارج من حفلة تنكرية، والقلب الحاقد لونه أسود، واليوم المتعثر المشؤوم هو يوم أسود، والحزن على الميت باللون الأسود ...
وهكذا صار الأسود رمزا للشر بينما الأبيض هو لون الخير .. فالقرش الأبيض هو المنجاة في اليوم الأسود، والعروس تلبس الأبيض لأنها ستبدأ حياة جديدة، بينما الأرملة تلبس الأسود لأن حياتها انتهت بموت ولي أمرها، والرجل الطيب قلبه أبيض، والفتاة الصالحة تبيّض وجه أهلها، ورجل الدين وجهه أبيض، ليس لأنه ممتلئ بالصحة ورغد العيش بل لأنه صاحب الفضيلة.
وبعد كل هذا الاضطهاد الذي تلقاه اللون الأسود لم يكن غريبا كل هذا التاريخ الظالم من العبودية والرق، التي كانت من نصيب السود .. ولم تكن غريبة ولا مستهجنة سياسات التمييز العنصري ضد السود، ليس في جنوب أفريقيا في زمن الأبارتهايد، ولا في أمريكا في حقبة التمييز العنصري؛ بل وفي مختلف دول العالم، فما زال يُنظر للرجل الأسود كإنسان ناقص، وللرجل الأبيض كرمز للتحضر والمدنية، وما زالت أخيلتنا تربط باللاوعي بين الأسود والشر، وتتقبل الظلم اللاحق بالسود دون شعور بالذنب.
الألوان جميعها من خلق الله سبحانه، وهي سمات الطبيعة وعناوين جمالها وليس لها علاقة بالخير والشر، وهي ليست مكلفة بأي دور أخلاقي، إلا بمقدار ما تخزنه ذاكرتنا ونسقطه على واقعنا بعملية تلقائية تتم بدون تفكير وتخلو من المنطق. ويُقال أن أول مرة التقى فيها الرجل الأبيض (المستعمر) بالرجل الأسود في إفريقيا، نظر إليه الأخير باستغراب ودهشة، وتساءل كيف تمكن من سلخ وجهه.
الألوان في حقيقتها مجرد رؤية ظاهرة امتصاص وانعكاس طيف الضوء الطبيعي، وعلينا أن نحبها أو لا نحبها كمسألة ذوق إنساني واختيار يخضع لمقاييس الجمال النسبية المتحركة والمتغيرة، وبمعزل عن التوظيف الفلسفي لها. ولو نظفنا ذاكرتنا من هذه النظرة الأخلاقية للألوان؛ سنجد أن لكل لون مكانته المميزة في قلب كل إنسان، بل أن الأسود يعتبره البعض ملك الألوان؛ فالسيدة الأنيقة ستختار الأسود لفستان المساء الحالم، ورجل الأعمال سيشتري سيارة سوداء رمزا للفخامة، والشاعر سيرتدي المعطف الأسود ليقرأ قصيدته، ولو نظرنا بتأمل لوجدنا أن الأسود كان سببا في جمال الكثير من الأشياء التي حولنا؛ فالغراب بالنسبة لشعوب كثيرة من أجمل الطيور، والحصان الأسود من أرقى الخيول، والكلاب والقطط السوداء قد تكون من أندر السلالات، والزنبقة السوداء ما زالت حلما للمشتغلين بجمال الأزهار، والليل بدون قصص العفاريت، هو للسهر والعشق والاغتسال بضوء النجوم.
وأيضا، من الترسبات الغريبة في موروثنا الثقافي احتقار الحمار، رغم أنه حيوان أليف وجميل، وقدّم خدمات جليلة للإنسانية .. وقد تم ربطه بالغباء، رغم أنه يحفظ طريق العودة للبيت من أول مرة، ويختار أسهل الدروب وأكثرها أمنا في الطرق الجبلية الوعرة، الأمر الذي يعجز عنه الإنسان العاقل. وأيضا احتقار الكلب وجعله سبّة على كل لسان، رغم أنه أكثر وفاء من الإنسان، والنظر للذئب باحترام وهيبة رغم أنه عدائي ومفترس .. وهذه النظرة غير العادلة للحيوانات سهّلت تمرير أنماط سلبية من التفكير، مثل النظر للإنسان الطيب على أنه ساذج، وللرجل المتسلط حتى لو كان ظالما على أنه قوي ومهاب الجانب.
في الأساطير القديمة كانوا يفضلون الدائرة على المربع، واليمين على اليسار، والأعلى على الأسفل .. وضمن هذه التصنيفات الثنائية المتقابلة كان من السهل تفضيل الرجل على المرأة .. لأن العقل صار مبرمجا على فهم الأمور بصورة ثنائية حادة لا تسمح بأي مساحة بينها؛ فالرجل هو رمز الشرف والفضيلة والقوة، والمرأة رمز للشر والرذيلة والضعف ..
لو غصنا في أعماق عقلنا الباطن لوجدنا الكثير الكثير من المخلفات الأثرية البالية ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق