أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

ديسمبر 06، 2012

سيزار الكنعاني



لم يكن قائدا عسكريا بالمعنى التقليدي؛ فهو بالكاد يعرف القليل عن فنون الحرب، ولديه فكرة غامضة عن أساليب الكر والفر، وهو خلافا للقادة الآخرين لا يحب القتل، ويعاف منظر الدم، ويرفض الاحتفاظ بأي أسرى؛ إذْ سرعان ما يطلق سراحهم بمجرد تجريدهم من أسلحتهم. أما جنوده وأتباعه؛ فمن الصعب تسميتهم "جيشا"، فهم ليسوا متفرغين تماما للقتال والتدريب، في الصباح مزارعين، وعند الظهيرة محاربين، وفي الليل عُشّاق .. أعدادهم تزيد وتنقص تبعا لتجدد المعارك أو توقّفها، ويتراوح عددهم ما بين بضعة عشرات إلى عدة مئات.

في الأصل كان راعيا، ولكن هجوما مباغتا شنّه جند الرومان على قريته، أودى بحياة والده واثنين من أعمامه، أيقظ الغضب في خلاياه، وجعله يمتشق سيفه ليقتل على الفور اثنين من المعتدين. وعلى إثرها تداعى عدد من الشبان والتفوا من حوله، وطالبوه بتنظيم المزيد من الغارات على خيام الغزاة، وهكذا ومن حيث لا يدري صار قائدا.

أهالي "لجّون" مثل "سيزار" .. طيبون ومسالمون، يبادلون زيتهم وحنطتهم وقثّائهم بما تبرعُ به "مجدّو" من أواني فخارية وصواني القش المزخرف، وآنية برونزية يعصرون بها كرمتهم في الصيف وينتظرونها للشتاء، لتمنحهم خمرتها دفئا، وفرحا في أعياد "بعل" في آذار؛ حيث يرتاح "بعل" من سقاية حقولهم في الشتاء، بعد أن يطمئن قلبه مع أول المطر.

عندما غزاهم "الأشوريون" قبل عقدين من الزمان، استغرب "ماخوش" قائد جند "شلمنصَّر" من طقوسهم؛ فقال حينها لـِ "داروون": أنتم تشربون لترقصوا ولتشكروا "بَعْل" على خصبه وعطاياه، بينما نشرب نحن لننسى همومنا، وما جلبه لنا إلهنا "نرجال" من نحس ودمار. أما "أحموس"، فقال: طاردت الملوك الرعاة أربعين سنة، وكنت أستلذ بقتلهم، حتى جلوتهم عن أرض "إيجيبتوس"؛ أما حين غزوت أرض كنعان، فقد رق قلبي بفلاحيها الطيبين.

كان لـِ"سيزار" خمسة أطفال وزوجة محبّة، وبيت صغير من الحجر الأبيض، بناه جده من التبن المبلل بالمطر والجير، كانت نافذته واسعة، تشرف على سهل يمتد إلى آخر المدى، ويتسع لجيشين كبيرين؛ على طرف النافذة دالية عنب عتيقة، وأمامها مباشرة تبدأ حقول الزيتون واللوز، وعند أول المرج تبدأ الريحُ تمشّط حقولاً من القمحِ والعدس والبرسيم، لتنتهي عند أطراف قوس قزح .. يأتيها من الغرب نسيم البحر، ومن الشرق يلفحها دفء الصحراء.

على هذه النافذة كان يسهر مع أطفاله يقص عليهم حكاياته مع الضباع، والشياطين التي تأتي وادي كيشون ليلا، لتشرب منه، وتهرب عند سماعها يرغول الرعاة في الصباح، وصولاته مع جند الروم، ووقوع جدّه في أسر الفُرس، وهروبه من نينوى، وأسفار أبيه إلى مصر، ورؤيته هناك أسدا قُـدَّ من الصخر بحجم "لجون"، وعن الحوري "إبرام" القادم من "أور" الذي يقول أن إلهه أكبر وأعظم من "بعل" و"عناة" بل ومن كل آلهتنا. وعندما يبدأ بالحديث عن "يبوس" وأسواقها يكون آخر أطفاله قد غط في النوم؛ فيكمل بعدها الليل مع "مورانو": وحيدين يغتسلان بضوء القمر.

بعد غارة ناجحة على قافلة رومية، جمع "سيزار" جنوده، ووقف أمامهم مخاطبا إياهم: "سِنّوا رماحكم، واشحذوا سيوفكم؛ فإن الرومان سيأتون غدا للانتقام". وبينما كان الشبان يستعدون للمواجهة، كان أهاليهم مشغولون بمخاوفهم؛ منهم من يبحث عن مخبأ، ومنهم من يخبـّئ مونته ومقتنياته، ومنهم من يجهزها لتسليمها لأول جندي يطرق بابهم ليبادلها بحياة أطفاله، ومنهم من يفكر بالرحيل إلى "مجدّو"، أو إلى "مسيميان"، أو حتى إلى "عسقلان" في أقصى الجنوب، فقد تكون هذه البلدات أكثر أمناً. كان الجميع مذعورين، حتى المحاربين أولي البأس منهم؛ فهم على يقين بأن جيش الروم لا يرحم، وإذا دخل قرية جعل أسفلها عاليها، ولا يغادرها وفيها حجر على حجر، يسبي نسائها ويسترق أولادها، ويقتل رجالها  ولا يذر منهم أحد.

نجا من جيش "سيزار" تسعة محاربين، أما هو فقد أثخنته الجراح، واحتاج سنتين ليتعافى جزئيا منها، وسيق خمسة من الصبايا إلى معسكر الروم، البيوت تهدمت وأُحرقت، أما سكانها فقضوا نحبهم، عائلتان فقط كانتا قد لجأتا إلى كروم الزيتون، ظلّلتا لتحكي قصة "لجون"، وقصة العشب الذي نما فوق قبور الضحايا على عَجَل، وكيف تحوَّل العشب إلى أزهارٍ حمراء قانية، وكيف اختلفوا حينها على فهم هذا التحول؛ منهم من قال أن الأرض بكت حزنا على فراق زارعيها، ومنهم من قال أن الورد الأحمر هو ردُّها على الشوك النامي قرب معسكرات الغزاة.

بعد خمسين سنة، كان "سيزار الصغير" يجمع الفلاحين ويخطب فيهم بنفس الحماسة: "سِنّوا سهامكم، واشحذوا سيوفكم؛ فإن الإغريق غدا لمنتقمين". ثم همس في أذن صديقه "علان": لقد وعدت أمي إذا انتصرنا غدا أن أتزوج من "رحاب"، وأن أزرع عشرون زيتونة في كل عامٍ لا يغزونا فيه أحد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق