أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

ديسمبر 13، 2012

حب في بلاد الأسكيمو


هناك في كبد السماء، ثمة نجمة متلألئة منفردة، تدعى نجمة الشمال؛ تهدي القوافل في أسفارها البعيدة، والمراكب الصاعدة في أعالي البحار، والعاشق الساهر لوحده, السائر على غير هداه .. تهديهم، وتهدي كل من نظر إليها للجهات الأربعة، لكنها لا تفعل ذلك مع سكان الشمال؛ فأينما نظرت إليها من أي ركن قصي من المعمورة، ستجدها ثابتة، لم تبرح مكانها منذ مليون عام، لكن أهل الشمال يرونها معلقة فوق رؤوسهم مباشرة، تتدلى مثل ثريا نُحِتت في ميدان عام وسط الفضاء؛ فتصبح حينها كل الاتجاهات واحدة؛ ولا فرق بين جنوب وغرب .. فأينما وليت وجهك لا تجد إلا لونا واحدا: أبيض، أبيض، أبيض ..
بياضٌ على مد البصر .. نهارٌ بلا نهاية، شمسـهُ تظل معلقةً على زاوية الأفق .. محايدة، لا ترسل دفئها المعهود؛ بل تشعُّ نورا ساطعا يرتد عن الجليد فيخطف الأبصار .. برد قارص وصقيع، وعواصف عاتية .. وليالي متصلة من العتمة والريح الزمهرير لا يتخللها نهار واحد، تلكم هي بلاد الأسكيمو؛ لا شيء فيها سوى البرد الشديد، والمزيد من البرد الأشد ..
عند أطرافها الجنوبية، بحر أزرق تتناثر فوق سطحه جزر بيضاء صغيرة، أو هي جزر من الجليد تتخللها مياه متجمدة .. تتغذى فيها الدببة على الفقمات، إلى الأعلى قليلا، غابات الصنوبر والسدر، وسهول فسيحة ترعى فيها قطعان الأيائل وغزلان الرنة التي تترصد بصغارها الذئاب والثعالب الحمراء .. وإذا صعدت للأعلى أكثر تبدأ أعداد تلك المخلوقات بالتناقص .. وإذا تجاوزت خط الشجرة تبدأ الكائنات بالاختفاء، وإذا أوغلت أكثر تختفي كل أشكال الحياة، حتى إذا وصلت أقصى الشمال .. حيث لم يصل أحد .. ستجد نجمة الشمال وحيدة تنتظرك هناك.
عند مدخل صحراء سيبيريا القاحلة، وعلى بعد ثلاثين ميلا إلى الشمال الشرقي من "مورمانسك"، في كوخٍ خشبي مرفوع على أربع قوائم حجرية، وعلى سقفه القرميدي تبرز مدخنة سوداء، جلست "كريستين" تنحت من عاج أنياب فيل البحر "حربونا" للصيد، تشحذ رأسه الحاد، وتنقش أول حرف من اسمها عند قاعدة النصل المثبت في عصا طويلة، لكي يتذكرها "باولو" كلما قذف بها إلى قلب حوت، بينما كانت أمها قد فرغت للتو من دبغ جلد فقمة جلبها زوجها بعد غياب دام أسبوع.
قالت الأم لابنتها: تعلمين أن أباك لا يرغب بتزويجك من "باولو"؛ فهو يريدك هنا حاضرة في كل مرة يعود فيها من الصيد، ويعمد للتأجيل والمماطلة كلما ألحّت أمّـه بالطلب، وأشكُّ أن زواجكما سيتم في يوم من الأيام. هذه المرة لم تجب "كريستين"، ولم تبكِ كعادتها؛ بل أكملت نقشها بصمت، وهي مطرقة وتتذكر وعده لها بأن لا يتخلى عنها أبدا، وقوله لها: "حتى لو عبرتُ القطب من أوله لآخره سيرا على الأقدام، ستحملني رياح الشوق، وسآتيكِ طائعا محبّا".
في بلاد الأسكيمو .. كل شيء يتجه نحو حده الأقصى؛ متطرف ولا معقول: البرد قارص إلى درجة لا تُصدَّق .. الليل طويل .. طويل؛ كأن صباحه تأخّر في السهر فغطَّ في نوم عميق .. الصمت يلف بالمكان على نحو مدهش؛ فإذا سكنَتْ الريح لا تسمع شيئا أبدا، حتى تظن أن الكون بأسره في حالة سبات .. في هذه العزلة الصامتة يختفي كل أعداء الإنسان، حتى أولئك الذين يسكنون داخله، لا تعود لهم حاجة، فيعم سلام داخلي من نوع غريب، والحب أيضا متطرف في هذه الأصقاع النائية .. ولا حدود لتطرفه.
وضعت "كريستين" أصابعها في أصابع "باولو" على نحو متشابك، وأحست ببرودتها، فقالت له: عندما نتزوج سنرحل عن هذه الديار الموحشة؛ ما الذي يبقينا هنا في هذا العالم المتجمد ؟!! نظر إليها باستغراب، ورد بصوت مشوب بالقلق: كيف نرحل عن ديارنا ؟! هذه أرض آبائنا وأجدادنا. ردت بلهجة عصبية: وأين هي هذه الأرض، لا أرى سوى الجليد والثلج المتراكم من فوقه !! رد باولو بلهجة تقريرية: ألا تعلمين أن أسلافنا جاؤوا إلى هنا من جوف الأرض، ونفَذوا عبر خنادق ممتدة في باطنها أوصلتهم إلى أقصى شمالها، وأنهم أسلاف كل البشر الآخرين .. هم الوحيدون الذين نجوا من حر الشمس ولهيبها، فيما قضى الآخرون عطشا وجفافا، وهم ينـزلقون تباعا من شمالها لجنوبها ..
كانا يحسّان في أعماقهما أن حالة الحب بينهما مستعصية، بل ومستحيلة؛ أبوها رافض، أمها مستكينة. هي تحبه بشغف، لكنها تريد الهجرة، ولا تريده صيادا. هو يحبها بجنون، لكنه يرفض الرحيل، ولا يعرف شيئا غير الصيد. هما لا يلتقيان إلا خفية، وعلى عَجَل. أهله يريدون له زوجة أخرى؛ أصغر سنا، وأقل تطلبا. هما لا يريدان سوى بيت صغير، ولا يملكان إلا قلبين محبين .. دافئين؛ في عالم لا يعرف إلا البرد. الفقر يحيط بالجميع، والأيام تمضي مسرعة, وتسرق منهما في كل يوم جديد خيارا آخر .. وعاصفة ثلجية ستأتي عمّا قليل ..
أمام بيتها، وفي مشهد مقتضب، ودّعَ "باولو" محبوبته، قائلاً لها: هذه المرة سأطيل الغياب؛ فأمامنا سفر طويل وشاق، جئت لأقول لكِ انتظريني رغم كل شيء .. سأعود لأخطفك من أهلك، إن هم أصروا. وبسرعة خطف قبلة منها .. ثم مضى وهي تشهق بدموعها، وتنظر إليه وتلوّح بيد مرتجفة، فيما هو يلتفت للخلف كلما مشى خطوتين .. وظل يبتعد حتى ذاب في الضباب.
التقى مع أربعة رجال آخرين، كانوا بانتظاره، وقد أعدوا زلاجتين تجرُّ كل واحدة منها عشر كلاب، وقد وضعوا فيها ما يحتاجون من مؤن وسلاح، وخيام صغيرة، وانطلقوا على الفور في طريقهم نحو الشرق. بعد يومين من المسير، لم تعد لأحد منهم رغبة في الكلام؛ ففي ذهن كل واحد منهم غابة أحلام .. يحتاج شهورا ليحتطبها .. لكل واحد قصة مختلفة، ومحبّين ينتظرون عودته، لكنهم جميعا خرجوا للصيد، لتأمين عوائلهم ما يعينهم على ليالي الشتاء الطويلة .. حيث تنضب الموارد، وتخبّئ الطبيعة مكنوناتها تحت طبقات من الجليد، ومن لا يحتاط لمثل هذا الجحيم المتجمد سيموت جوعا وبردا.
 كان "باولو" يرتدي معطفا جلديا سميكا, حاكته له أمه من فراء دب قطبي، ومع ذلك كان يخشى أن يدوس على جليد رقيق، فيبتل بدنه بالماء المثلج، وهذا آخر شيء يريده؛ لكنهم كانوا يبحثون عن مثل هذا الجليد الرقيق، وما أن عثروا على بقعة هشة، حتى ضربوها بالحراب، فأحدثوا فيها فتحة تتسع لشخص واحد، رمى فيها "باولو" طرف خيط طويل في نهايته عوامة جلدية منتفخة بالهواء، وجلس ينتظر خروج فقمةٍ ما؛ لم يمض وقت طويل حتى كان قد غرس طرف حربونته في صدرها، مسيلة بقعة من الدم الأحمر القاني، غطت وجه الثلج بثنائية مدهشة. دقائق معدودة كان جلدها قد سُلخ، ولحمها النيئ قد قُطِّع .. وقد ضمنوا زادهم وزاد كلابهم لبضعة أيام.
كانوا قد اصطادوا وعلين، وست فقمات، قبل أن تداهمهم عاصفة ثلجية أجبرتهم على تغيير مسارهم، والتوقف، بحثا عن أي ملاذ. وبعد ساعة من صفير الريح العاتية كان "زانوف" قد دُفن تماما تحت الثلج، وقد جمَّدت خمسون درجة تحت الصفر أطرافه التي بدت سوداء متفحمة. فيما تماسك الباقون وتعاونوا معاً على رص قطعٍ مكعبة من الجليد، فوق بعضها البعض على شكل حلزوني، وخلال ساعتين كانوا قد أنهوا بناء كوخين مقبّبين يمكنهم الاحتماء بداخلها، والمبيت بضع ليال إلى أن تنجلي العاصفة.
كيف يمنح بيتاً قُـدَّ من الجليد الدفء لسكانيه ؟! تلك هي معجزة شعب اليوويت؛ مضى يومان على العاصفة، طلب "باولو" من "بوشكين" أن يخرج لإحضار قطعتين من اللحم المقدد، وأن يطمئن على رفيقيهما في القبة الثانية؛ فيما كانت الريح تزمجر غاضبة في الخارج، وتثير الرعب، كان "باولو" مستغرقا في أفكاره .. ويحلم باللقاء .. ها هي "كريستين" تمشي خببا فوق الثلج، وتقترب أكثر، يكاد يشم عطرها، وينعم بدفء قلبها .. إنها توشك على الوصول .. بعد دقيقتين ستدخل من هذا الباب الضيق، ستنادي بصوتها الناعم لأوسّع لها الفتحة .. ها هي تطل بقامتها الممشوقة، مثل سمكة شهية، ستبتسم قبل أن تخلع معطفها الرمادي .. وعلى غير عادتها ستقول بصوت حاسم: لا أريد عتابا ولا لوما، لن أسألك لم أطلت الغياب؟ ولن أقول لك هل نسيتني؟ ولن أذكّرك بجرحي المفتوح .. كل ما أريده الآن أن تضمّني بين ذراعيك، وأن تعصرني فوق هذا الثلج، حتى تسيل روحي وتذيبه، أريد أن أرى الحنين يتفجر من كل خلية فيك .. سأطلب من أقرب غيمة أن تحملنا معاً، وتشيّعنا إلى باب الحديقة.
تذكَّر أباه حين قال له ذات مرة: "نساء اليوويت، لسن كغيرهن من النساء .. يصعب إرضائهن، إذا كَسَرت شيئا بداخلهن، ستحتاج عمرا بأكمله لإصلاحه، إذا غضبن بانت تجاعيد الزمن على وجوههن، وإذا أحببن تتورد وجوههن، ويغدون أجمل نساء الدنيا، وتصير دمائهن جمرا يذيب الجليد". وتذكر أمه حين رجعت من زيارة صيفية إلى فنلندا، وكانت أول مرة تغادر الديار، واستغربت حينها من الشوارع والسيارات والبيوت، والشمس الدافئة .. كانت تظن أن شعب اليوويت هم وحدهم من يسكن كوكب الأرض.
وكلما سرح في فكرة، تدخل عليه "كريستين" .. سنرحل إلى إفالو، هي أيضا مدينة متجمدة، لكنها على الأقل مدينة، وربما نهبط جنوبا إلى هلسنكي، هناك أيضا ما يكفيك من الجليد والبرد .. يجيبها: لكن كيف ؟ هل هناك سأصطاد السمك من الثلاجات ؟!!
كانت "كريستين" طوال الأسبوعين تعد الساعات والدقائق، تجلس أمام النافذة، وترقب المدى .. تنتظر أي قادم من صوب الشرق، فرغم سفراته المتكررة؛ إلا أنها لم تعتد على غيابه، في كل مرة تفترسها نفس الأسئلة: هل ستنال منه الذئاب ؟ أم سيقضي نحبه تحت ردم من الثلج ؟ أم أنه سيضل طريق العودة ؟ كانت تصارع كل الوساوس والمخاوف، لكنها لم تشك للحظة أنه سيتخلى عنها .. وعندما يستبد بها القلق تراه أمامها بابتسامته الماكرة، وعيناه الصافيتان، اللتان رغم ضيقهما تتسعان لكل العالم، يقول لها بصوت يقطر شغفا، كم أنا مشتاق. يستمر المشهد ساعة أخرى .. هدوء مطبق يخيم على المكان، وصخب متدفق يعتمل في صدرها .. إلى أن ينال منها التعب، فتغمض عينيها ليكمل حديثه في الحلم. تنهض عن كرسيها الخشبي وتمسح بطرف كمّها جانبا من الضباب المكدس فوق النافذة، تركّـز ناظريها إلى البعيد .. فلا ترى سوى طيف حنينها، ولا تسمع إلا صدى الصمت .. تعود لمقعدها لتبدأ الحلم من جديد.
عاد الأربعة يجرون حصاد صيدهم وأشواقهم .. كان "باولو" أسرعهم، ليس لأنه الأصغر بينهم؛ بل لأن حُــبّـه يلحُّ في طلبه، لم يكن أمامه سوى مشهد واحد؛ في خلفيته حقول من أزهار البنفسج، وصدى ضحكات يرتد في جنبات الوادي، وأشواق تنزف من عيون ذبّلها طول السهر، يركضان باتجاهين متعاكسين، وقبل أن يحملها بين ذراعيه، تأتي غمامة بيضاء، فتبتلعها، يركض من جديد، يبحث عنها بخوف ولهفة .. يعيد صياغة المشهد .. يخبئها هذه المرة داخل معطفه لئلا يفقدها .. يصحو على صوت "بوشكين": بقي نصف نهار ونصل .. يحثان الخطى،  وكلما اقتربا أكثر، خفق قلبه أسرع.
قبل أن يتجه لبيته، عرّج على كوخها؛ فرأى سراجها مطفأً، خاف واضطرب .. وبدأت الشكوك تدهمه تباعا؛ ربما هي نائمة، ربما تركت الديار، ربما تنتظره تحت شبّاكه كما كان يفعل معها، ألف ربما تجتاح رأسه .. رغم البرد والتعب والجوع .. لم ينم تلك الليلة. في الصباح علم أن أبويها طريحا الفراش؛ أمها تعثرت، وانكسر حوضها، أما أبوها فقد هدّه المرض والكِبر ..
في تلك البلاد، يبدأ الشتاء باكرا، في أيلول يتساقط أول الثلج، ولا يتوقف قبل بدء آذار، وفي هذه الأيام القاسية تقتات الكائنات في سباتها العميق على مخزونها الدهني، بينما يستمد العشاق طاقتهم مما تخزنه قلوبهم من ذكريات؛ ففي هذا الشتاء الموحش لا يصمد من خلا قلبه من عشق .. في حزيران وتموز يأتي صيف قصير خجول، ليكشف عن غطاء الأرض، ويتيح للكائنات أن تتزاوج فيه، وأن تمارس طقوس حبها بدفء وحنان.. منذ سنين عديدة والعاشقان ينتظران صيفا خاصا بهما فقط .. في هذا العام أيضا، تأجل حزيران لأسباب قطبية .. وعليهما أن ينتظرا الصيف القادم.
سنين كثيرة مضت .. الشباب يذوي، والأيام تضيع في مهب العمر، و"باولو" ما زال يخرج للصيد قبل كل شتاء، وفي ذهابه وإيابه يعيد إنتاج أحزانه وأشواقه، "كريستينا" تجلس على نفس المقعد الخشبي، تمسح بطرف كمها ضباب اليأس عن نافذتها، وكلما لاح قرص الشمس فتحت شباكها وألقت ببصرها إلى آخر الطريق ..
في آذار الماضي، استغلت "كريستينا" نوم والديها، وخرجت وقد فاض بها الحنين، وعلى بعد ميلين فقط، بدأت نُذُر عاصفة هوجاء تلوح بالأفق، لمحا من بعيد قبة ثلجية .. كان بابها موصدا، وقد غمر الثلج نصفها، شقّ "باولو" فتحة صغيرة ودخلا ليحتميان من عواء الريح، ولشدة دهشتهما وجدا هيكلين عظميين نائمين يغطيهما رذاذ ثلجي، قال لها: كيف لم يكتشف أحد موتهما كل هذي السنين ؟ قالت: هل هما زوجان ناما على خاصرة الزمن فنساهما، أم عاشقين هاربين مثلنا ؟ قال: يصعب تحديد ذلك، فقد مضى على موتهما مائة عام على الأقل، بالنظر لبطء تحلل الجثث في هذ الأصقاع الباردة، حيث لا تجرؤ حتى الجراثيم أن تصل هنا.
أخرجا الجثتين، وقاما بدفنهما باحترام، ثم عادا للقبة .. وبكفّيه عالج شقاً صغيرا كان يدخل منه برد ينخر العظام، قالت له بابتهاج: أخيراً ها نحن معاً لوحدنا .. نتحايل على قصتنا المستحيلة، ولا نعرف إلى أين ستحملنا الريح ؟ أجابها بكثير من اليقين: في هذه القفار الموحشة لا تنبت سوى زهرة الحب.
بعد ساعة كانت جدران القبة الثلجية تسيح ببطء .. وكانا رغم كل شيء في غاية الدفء ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق