أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

ديسمبر 16، 2012

حروب غبية


في إفريقيا، يقرع أمراء الحرب طبولهم تحت شعارات مختلفة، ويخوض الجنود الحرب وهم لا يعرفون أسماء أعدائهم، ولا أسماء من سيدافعون عنهم، وغالبا يموتون قبل أن يعرفوا من المنتصر، ومن المهزوم .. أنت تكذب .. طبول الحرب تُقرع في كل مكان، ومنذ أقدم الأزمان .. لكن إفريقيا تفوقت بتجنيد الأطفال .. أنا أصْدَق الضحايا .. في كل حرب كنت أفقد طرفا من جسدي .. وأبيعه حصريا للواشنطن بوست، في الحرب الخامسة قدمت أشلائي كلها هدية مجانية لصحف العالم .. لكن أحدا لم يبكي علي .. بكيت على نفسي .. لأني كنت أخوض حربا تافهة .. لا جدوى منها، ولا مبرر لها .. لكني كنت مجبرا عليها .. كان جدار كوخي من الصفيح، وقد امتلأ بالثقوب .. صرت أسدُّ الثغرات بكفّي لئلا يدخل منها الريح؛ فيبرد أطفالي النيام .. كلما وضعتُ كفي ثقَبَـتْــهُ رصاصة .. وضَعْتُ عيني وراء ثقب صغير لأرى من هذا الذي يؤذيه شخير أطفالي .. فاخترقتها رصاصة طائشة وخرجت من أذني .. لم أعد أسمع جيدا، وصار نظري مشوشا .. تأثر عقلي قليلا .. ما عدت أعرف من المجنون ؟؟ أنا أَم الحرب ؟! أنا "توراي" .. سكنتُ مئات الأكواخ التي غربلها الرصاص .. كان آخرها في "ماخو" ..

في الغرب الأفريقي، وإلى الجنوب من مدينة "كينيما" في سيراليون، وعلى امتداد طريق "بوكيمينا" السريع، وعلى مقربة من نهر مانو، تقع بلدة "جيبينديرو"، وإذا اتجهت صوب الجنوب الشرقي لبضعة أميال أخرى ستجد "ماخو"؛ تجمع سكاني صغير؛ لا هو بالبلدة ولا هو بالمخيم، هو أشبه بقرية صغيرة لم يرد ذكرها في أي خارطة، لا يصلها ساعي البريد، ولا توجد بها خطوط كهرباء، أو شبكات مياه، أو طرق معبدة، بل أنها - شأن آلاف القرى الإفريقية – تنازلت عن صفات أخرى عديدة تتسم بها القرى في بقية أنخاء العالم.

ليس في "ماخو" جامع أو كنيسة، أو موقف للباصات، أو سوقا للخضار، أو أدراج عتيقة تفضي إلى ميدان عام .. كل ما فيها عبارة عن بيوت من القش والقصب، اصطفت إلى جانب بعضها على شكل قوس، أمامها ممر ترابي عريض، ينتهي بسهل معوشب واسع، تحيط به أشجار الكابوك والماهونجي والكينا الضخمة. فما الذي يبقي الناس في قريتنا هذه !؟ كان هذا سؤال "توراي" الدائم لنفسه؛ وأحيانا يسأل أصدقاءه: ليس في قريتنا متحف أو آثار قديمة لتجلب العلماء والمنقِّبين، وليس فيها نفط أو ذهب لتجذب التجار والمهربين .. وناسها مجرد فقراء معدمين يشربون ماء المطر، ويأكلون ما تجود به ماشيتهم الهزيلة، فلماذا أصبحت فجأة عرضة لهجمات الجماعات المسلحة ؟! ولماذا تنقص حيا كاملا في كل موسم اقتتال ؟! ولماذا هي دائمة الترحال ؟ والغريب أنها تأخذ اسمها معها أينما حلت !!

تسكن "ماخو" خاصرة الجبل من الجهة الشرقية، الأمر الذي حماها من رياح الأطلسي العاتية وعواصفه الهوجاء، تطل على جبال لا متناهية من الغابات المطيرة، تمتد بخضرتها اليانعة وأجوائها الرطبة وبأشجارها المجنونة التي تزداد طولا كلما أوغلت صوب الجنوب، حتى تصل إلى خط الاستواء، حيث هناك تكون الغابات قد فقدت عقلها تماما، وتصبح أشجارها أقرب للسماء.

"لمئات السنين، ظلت "ماخو" تعيش بأمن وسلام إلى أن ظهر الماس في مستنقعات وأنهار رومادونج، التي سماها الرحالة البرتغاليون سيراليون، وبدلا من أن تشكل هذه الثروة مصدر سعادة لأهلها، كانت لعنة جرَّت عليهم الويلات والدمار". هذا ما صرَّح به "توراي"، وهو يخاطب رجلا أبيض كان يراه لأول مرة في حياته، بينما كانا محتجزيْن في قبو معتم رطب، تسكنه عشرات الأصناف من الحشرات.

بصعوبة أزاح "توراي" العصبة عن طرف عينيه فلمح شخصا مقيد اليدين ومعصب العينين ممددا على ما يشبه الأريكة في زاوية القبو .. كان من الواضح أنه أجنبي، ولكنه لم يجزم إذا ما كان صحافيا، أم سمسارا، أم سائحا تائها، أم متطوعا مع بعثات الصليب الأحمر ... بارتياب ممزوج بالفضول سأله: من أنت ؟ وما الذي أتى بك إلى هذا الجحيم ؟! أجابه بصوت ضعيف واهن: اسمي "بياترك"، من إيرلندا، وأعمل مراسلا لصحيفة "إيريش دايلي ستار" .

لم يعبأ كثيرا بإجابته؛ فلا شيء يضمن صدقه، وإضافة إلى ذلك، فقد كان "توراي" مشغولا بأفكاره ومخاوفه: ماذا حل بكوخنا ؟ وأين تنام أسرتي الآن ؟ من نجا، ومن مات ؟ وإلى أين سيرحل ما تبقَّ من "ماخو" هذه المرة ؟ ثم ينظر إلى جراحه وكسوره؛ ستلتهب ما لم يعالجها أحد، قد يضطر "سيزيكوم" حكيم القرية لبتر ساقه (إذا نجا من المذبحة) .. لكن أشدَّ ما كان يثير رعبه "الصغير أمورو"، ابن الثانية عشر الذي سيصبح قاتلا محترفا؛ سيقتل أباه على مرأى من إمه، سيبيد عائلات أخرى بكاملها .. سيصبح صوت الرصاص موسيقاه المفضلة ...

-  في الأصل كنتُ عالم أنثروبولوجيا (هل تعرف معنى أنثروبولوجيا ؟) يعني كنت مهتما بدراسة السلالات البشرية وتطورها وتفاعلها فيما بينها، فلاحظتُ أن التاريخ الإنساني عبارة عن سلسلة من الحروب الأهلية، فقررت دراسة سيسيولوجيا الشعوب (هل تعرف معنى سيسيولوجيا ؟) لأعرف لماذا تتقاتل الشعوب فيما بينها، فوجدت نفسي مضطرا لدراسة سيكولوجيا الإنسان (هل تعرف معنى سيكولوجيا ؟) لأغوص في النفس الإنسانية، لعلّني أعرف لماذا يقتل الإنسان أخاه .. هل تفهم عليّ ؟ أم تحسبني أهذي ؟!

-   على كل حال، لهذيانك وقعٌ غريب في أذني؛ فأكمل.

-  قررت إحراق كل الكتب، والتوجه مباشرة إلى ميادين الحروب الأهلية، لأدرسها عن قرب. فوجدت نفسي أمام حصيلة أخبار فظيعة، وهكذا صرت أعمل مراسلا صحافيا.

-  يعني أنك رجل متعدد المواهب.

- ليس تماما؛ صحيح أنني أتقن أربعة لغات، ولي إلمام بلغات أخرى عديدة، وأنّي زرت عشرات البلدان، وصوّرتُ عشرات الحروب، إلا أني ما زلت أبحث عن إجابات محددة، ولا أجدها، أتعايش بصعوبة مع نفسي، حيث هناك آلاف الصيحات المخنوقة تتأهب للخروج من ثنايا الروح ..

- أنت تبحث عن إشباع لمستويات الأدرينالين المتدفقة في دمك .. عن إرضاء لنـزوات غريبة .. مثلك مثل المغامرين المجانين الذين يتسلقون الصخور الصماء، أو يقفزون من الفضاء، أو يتسابقون مع الأرقام ..

-  تفاجأتُ من مستوى ذكائك، وسعة ثقافتك !!

-  عندما تزيل العصبة عن عينيك ستراني بوضوح .. ستجدني مختلفا ..

كانت الحشرات تهاجم الأسيرين بلا رحمة، تنهش جلدهما بلا توقف، كما لو أنها متواطئة مع "سنكوح" السفاح، ومع ذلك بدا واضحا أن الاثنين سبق لهما أن تعرضا لعشرات المواقف الشبيهة، ولكن لسعات الحشرات لم تكن معاناتهم الوحيدة؛ فقد مضى على احتجازهما بضعة أيام لم يذوقا خلالها سوى كسرات من خبز الشعير، ولم يناما جيدا، وآثار الضرب والتعذيب تركت فيهما جراحا عميقة. ومع الخوف والقلق كان حديثهما أشبه بهلوسات فيلسوف صوفي.

-  لا أعرف إذا كنتُ مغامرا أم لا، إلا أن أفكارا غامضة تتململ بين تلافيف دماغي .. وأصوات غريبة في داخلي يتردد صداها بلا توقف .. وعلى ظهري حمولة شاحنتين من الأسئلة، يختصرها سؤال واحد: لماذا اقترن الظلم بوجود الإنسان ؟!

-  الظلم عرفناه فقط منذ أن وطأ الرجل الأبيض قارتنا السمراء محملا بأطماعه وجشعه، حينها غادرها الله، وتركها للعصابات المسلحة والحكومات الفاسدة ..

-  لقد جلتُ على عشرات الحروب الأهلية، ورأيت مناظر مروعة، يشيب من هولها الولدان .. بدأتُها في كمبوديا حين فرّغ المجنون "بول بوت" عاصمته من سكانها لإثبات صحة نظريته، وأدركت من يومها أن أسباب الحروب دائما سخيفة، تأكدت أكثر حين مررت على حروب أفغانستان، والقرن الإفريقي، وحتى في قلب أوروبا؛ في البلقان، إذْ وجدتُ أن القبيلة دوما حاضرة إلى جانب الجهل والتعصب.

-   لا تقل أنه لا توجد في العالم منطقة آمنة من شرور البشر؛ فذلك يغذي يأسنا، ويحطم قلوبنا المتعبة والهشة.

-   صمت مطبق ..  

-  كان أبي يقول: الحرب هي أغبى اختراع للإنسان، والحروب الأهلية هي أشد الحروب غباءً.

-  وردتنا تقارير عن عمليات تطهير عرقي، واغتصاب جماعي، وبتر للأطراف، واعتداءات وحشية على السكان، وحرق قرى، ومجازر مرعبة .. فجئت أتحقق.

-  القصة باختصار أن رجال "فوداي سنكوح" اجتاحوا منطقتنا بأسرها، بدعم من "تايلور" رئيس ليبيريا، في البداية ظننا أنهم يريدون الإطاحة بالرئيس "موموه"، ثم تستقر الأمور، لكن تبين أنها حرب من أجل نهب الألماس؛ وأن هذا سيكون إيذانا بفتح أبواب جهنم علينا.

-  مع أني كنت في هذه الأثناء في أتون حرب البوسنة والهرسك، إلا أني صُدمت من هول ما سمعت؛ فجئت لأصور تلك الأحداث المروعة !! وقد أدفع حياتي ثمنا لشهادتي على جرائم الحرب ..

-  كل ما يهمكم مجرد صورة، لتفوزوا من خلالها بإحدى الجوائز .. أما نحن؛ فجائزتنا الوحيدة هي الموت !! وبأبشع الصور !!

-  أنا مثلك متورط في الحرب، لكني حربي لا تكاد تنتهي حتى تبدأ من جديد، لا أعرف أين ومتى ستبدأ حربي الجديدة ؟

-  تنشب الحرب عندما تُكسر مرآة الإنسان، وتسيل منها صورته البهيمية، عندها يتقيأ الإنسان كل شروره، ويرتد إلى بدائيته.

كان "سنكوح" قاسي الملامح، عديم الرحمة، وجهه مستطيل شديد السواد، عيناه ضيقتان، يبرقان بشعاع غاضب لئيم، مجرد ذكر اسمه كان يثير الرعب في قلوب الأهالي .. وقَفَ ببذلته المموهة على مقدمة سيارة جيب عسكرية، وهو يمسك بمنظارهِ تارةً ويشير بعصاه تارة أخرى، ويصرخ بصوت حاسم، وكلمات قليلة .. بينما جنوده يواصلون تمشيط البيوت، كلما دخلوا بيتا أطلقوا بضعة عيارات نارية، صوت أنين مكتوم، ثم صراخ هستيري، ثم طفل يُجــرُّ بقسوة ظاهرة خارج المكان .. بعد ساعة كانت القرية قد أبيدت تماما، رجالها قتلوا على الفور، أما نساؤها فقد تم اغتصابهن أولاً .. بضعة أطفال تم سوقهم إلى معسكر قريب ..

عائلة "توراي" وأربعة عائلات أخرى كانوا قد فروا إلى داخل الغابة قبيل الهجوم بساعات .. يا إلهي أين "أمورو" ؟! بحث الأب عنه في كل مكان .. ربما كان يلعب في الطرف الآخر من الغابة .. ربما هرب إلى قرية أخرى .. ربما خطفه رجال "سنكوح" .. تأخر "توراي" .. يا إلهي .. لا تنسانا من رحمتك .. صاحت الأم بخوف وحسرة: كنا نبحث عن واحد، صرنا نبحث عن اثنين ..

لم يجدوا "أمورو" بين أكوام الجثث .. لكنهم وجدوا عربة من الأسلاك المعدنية على هيئة سيارة كان قد صنعها قبل يومين .. كانت محطمة .. وعليها آثار دماء .. قالت الأم "موكا" علينا انتظار عودته .. فهذه ليست دماؤه .. قلب الأم لا يخطئ .. سيعود "أمورو" .. وسيعود "توراي" .. سننام بضعة ليالي في الغابة .. الوحوش سترأف بحالتنا .. ستتفّهم أننا مجرد عابرين ننتظر عودة أحبتنا .. ربما تجلس معنا بعض الضباع وتنتظر عودتهم مثلنا  .. لا بل إنها ستساعدنا في عمليات البحث .. سنشكرها على صبرها على الجوع .. ربما نعطيهم قليلا من لحم الموتى .. بعض ما تبقى من وراء "سنكوح" ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق