أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

ديسمبر 04، 2012

في الطريق إلى جوهانسبيرغ



"ميراسا" قرية صغيرة، تبعد مسيرة يومين إلى الشمال من "ديرأبان"، بيوتها أكواخ من الطين، اصطفت إلى جانب بعضها لتبدو من أعلى الجبل كما لو أنها خلايا نحل، يتوسط الكوخ عامود خشبي يحمل على كاهله سقفا من الأغصان الجافة التي تحيط بها الأعشاب وسعف جوز الهند، أما الأرضية فهي من تراب بيوت النمل الناعم الذي يُصقل من حين آخر بروث البقر البليل، الباب عبارة عن فتحة صغيرة يضطر المرء للانحناء عندما يهم بالدخول.

وعندما توقد الأسرة نارها للدفء أو للطهو؛ يتصاعد الدخان عبر السقف، أما الطعام فكان في أغلب الأحيان إما فاصوليا يابسة، أو طحين الذرة، أو مربى اليقطين، في حين كان السكر والشاي ميزة للأغنياء في البلدات الكبيرة.
في صغرهِ لم يكن يميز بين أشقائه وبين أبناء عمومته، أو بنات أخواله .. كان يرضع من أي أم متوفرة، ويوبخه أي أبٍ عابر في الطريق مصادفة، كان ينقل المياه على دابته ويوزعه على بيوت القرية، وأحيانا يتعب قبل أن يصل الدور إلى أمه الأولى .. في هذه المشاعية البدائية وُلد وكبر "ساباتا" ..

في صباه، كان يذهب بصحبة والده إلى "ديرأبان"، ولم يكن يفهم حينها كيف أن شاطئا طويلا يمتد على محيطين ولا يبعد عن ناظريه سوى ساعة على الأقدام ولا يستطيع السباحة فيه، ولا حتى الوصول إليه، ولم يفهم لماذا تقسم المدينة إلى قسمين، أحدهما جميل ونظيف، ويحتل معظم المدينة، والآخر شوارعه ضيقه وقذرة، وبيوته متلاصقة، وبلا إنارة.

بعد أن هدَمَت أمطارُ الشتاء كوخَه، وأمضى ليلته في البرد .. أقسمَ "ساباتا" أن يرحل من هذه القرية الكئيبة. وفي كوخ مجاور، قال لمضيفه: غدا سأتدبر تصريح مرور، وسأسافر إلى جوهانسبيرغ، هناك سأعمل في أحد المناجم، وسأسكن مدينة كبيرة في منزل حقيقي، له سقف من الإسمنت .. أجابه "أمبيكيلا": لكن جوهانسبيرغ بعيدة جدا، والوصول إليها مكلف، القطارات لا تسمح للسود بركوبها، وفي قريتنا كلها وفي القرى المجاورة لا توجد سيارة واحدة .. فكيف ستصل إذن ؟ قال له: أعرف صديقا أسودا من سكان "ديربان" .. هو الوحيد الذي لديه رخصة سواقة ويمتلك سيارة .. رد عليه مضيفه بلهجة تحذيرية: لكن العمل في المناجم غير مضمون، وهو أيضا متعب جدا، وستمتلئ رئتيك بالقار والشحبار والغازات السامة، هناك ستمضي كل النهار مدفونا تحت الأرض، وفي الليل محشورا في أكواخ حقيرة، ولن تخرج من منجمك إلا إلى القبر .. أنسيت أنك أسود !! وأن هذه هي الحياة الوحيدة المتاحة لنا !!

باع "ساباتا" جاموسه الوحيد، واستدان من أقاربه ما يكفيه من المال، وفي اليوم الموعود قبّلَ يدي أمه ووجنتي أخته الصغير "مومانو"، واصطحب معه أخاه الصغير "رولي" وانطلق مشيا على الأقدام في طرق وعرة لا تصلها دوريات البيض .. كانت جبال "دراكسنبيرغ" إلى الشمال تبدو شاهقة مخيفة، ومن الجنوب تهب عليهم نسمات الليل محملة برائحة المحيط، وكان الصمت يحيط بهما من كل جانب .. وبعد طول المسير وصلا "ديرأبان" مساءً.

ألقى في يد صديقه القديم "كريس" خمسون راند، مقابل أن يوصلهما إلى "جوهانسبورغ"، لم يتردد "كريس" طويلا، وخلال ساعة كانت السيارة تنطلق في رحلتها صوب الشمال، وقد اختاروا هذا الوقت المتأخر للسفر لأن شرطة السير تكون فيه نائمة في أغلب الأحيان، وآخر ما يحتاجونه هو رؤية شرطي أبيض.

شقت السيارة طريقها إلى خارج المدينة، وصلت الطريق السريع الذي يعبر البراري الفسيحة، كانت العتمة تطبق على المكان، وأصوات حيوانات متداخلة تأتي من أطراف الغابات البعيدة، والغيوم تتوارى قليلا لتسمح لقمر صغير أن ينير جانبا من السماء .. بعد ساعتين لم يريا خلالها سيارة واحدة، وصلا إلى أطرف الجبال، وبدأت الطريق تصعب وتتلوى مطلة على وديان سحيقة .. وعند أحد المنعطفات الحادة، ظهرت فجأة سيارة قادمة أبهرهم ضوءها العالي، فلم يستطع "كريس" أن يلتفت يسارا أو يمينا، فما كان منه إلا أن صدمها من الجانب، فارتدت للخلف بقوة، واستقرت بعد أن ارتطمت بشجرة ضخمة على جانب الطريق.
شُج جبين السائق، أما "ساباتا" فقد أصيب برضوض متوسطة في صدره، بينما تلقى "رولي" قوة الصدمة الآتية من الخلف؛ فكانت إصابته بليغة. ترجّلَ "ساباتا" من السيارة، واتجه نحو السيارة الثانية لتفقد الأضرار، وتبادل المساعدة، سيّما وأن الظلام دامس، والمكان موحش وبعيد ..

في السيارة الثانية كان السائق رجلا أبيض، وإلى جانبه ابنه الصغير، الذي بدا قد تلقى إصابة لا تقل خطورة عن إصابة "رولي"، توجه "ساباتا" نحو السائق، وقال بتلقائية بلغة التيمبو: مساء الخير سيدي، نشكر الله على سلامتك .. لم يجب الرجل الأبيض. تدارك الأمر فسأله بأدب بالإنجليزية: هل تحتاج أي مساعدة ؟ هل أعاونك في حمل الصبي ؟ صاح الأبيض بلغة الأفريكانز وبصوت حاسم: إياك أن تلمس ابني .. ابتعد هناك .. وأحذّرك من الاقتراب منا .. أجابه "ساباتا" بعفوية: ولكننا يا سيدي لسنا مسلحين، ولا نضمر لك أي عداء .. أجابه بنفس الصوت الصارم: ألا ترى أني أبيض وأنك أسود ؟ أم أنك لا ترى في العتمة ؟!

كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل بقليل؛ الطفلين كل واحد منهما ممداً في سيارة، وينزف ببطء .. الأبيض ينتظر مرور أي سيارة لتنقله وابنه إلى أقرب مستشفى .. الأسود ينتظر طلوع الشمس لقطف بعض الأعشاب ليداوي بها جراح أخيه الصغير وتمنع تقيحها؛ فهو يدرك أن المستشفيات لا تستقبل السود ..

ظل الجميع ينتظرون طلوع الفجر .. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق