أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

ديسمبر 03، 2012

آخر نصف ساعة من حياة هندي أحمر



كان "يلو بيرد" مداويا بالأعشاب، لديه وصفات سحرية تنجي من سم الأفاعي المجلجلة، ومن الحمّى، ووصفات أخرى تساعد على إنجاب الذكور، وتجبير الكسور، وتخليص الأطفال من المغص، كما كان عرّافا ومتنبئاً، ويحظى بهيبة واحترام القبيلة.

على ضفاف نهر شايان، وبينما كان القمر يشق ضياءه بين الغيوم على استحياء، جلس "يلو بيرد" قبالة الموقد الحجري وقد أخذت نسمة خفيفة تداعب ألسنة اللهيب فتزيد من وهجها، نظر إلى الزعيم "سيتنج بول" الذي كان يضع على رأسه إكليلا من ريش النسور، وقال له: سأعلمكم رقصة الشبح؛ الرقصة التي ستنجيكم من الموت، وستحميكم من رصاص الرجل الأبيض، وتحولكم إلى أشباح؛ تصولون وتجولون ولا يرونكم أبدا. وعلى الفور تجمع العشرات من الرجال، وبدؤوا يطوفون حول النار، ويغنون، ويؤدون رقصتهم المدهشة ..

كان "جيمس ماكلولين" يراقب المشهد من بعيد، ويستمع إلى ما توصله الريح من شظايا كلمات غريبة ومخيفة، ركب حصانه وانطلق مسرعا حتى ذاب في العتمة، شرح خطورة الموقف للجنرال "نيلسون مايلز" الذي أمر بجمع الجنود على وجه السرعة، وقبل أن تطلع شمس الصباح كان مئات الفرسان بأسلحتهم الفتاكة يحيطون بمضارب قبيلة "السيوكسس" الهندية، ويطلقون عليها وابلاً من النيران.

عند المساء دارت مفاوضات بين الجنرال الأبيض والزعيم الأحمر على شروط الاستسلام، في خيمة صغيرة أعدت على عجل تنّهدَ "سيتنج بول" وأطلق زفرة طويلة، ومرت دقائق من الصمت بدت كأنها ساعة، تذكر خلالها الزعيم سجالات ثلاثة قرون وأكثر من المعارك والحروب، وجولات الكر والفر .. تذكر نفسه طفلا يركض في البراري، تذكر أباه حين لبس فروة أسد الجبل، وتذكر الفتيات اللائي أحبهن، وصبغ وجهه بالأحمر والأسود كرمى لعيونهن .. تذكر أسلافه وحكاياتهم عن روح الأرض، وعن الأيائل، وعن الإله الذي انحاز للبيض، وعن الجواميس التي بدأت أعدادها تتناقص .. تذكر خطبة الزعيم الأخير لقبائل اللاكوتا "سياتل"، حين قال لحاكم واشنطن "ستيفنز" قبل نصف قرن: "كان أبناء شعبي مثل العشب الذي يكتنف البراري الفسيحة، أما اليوم فهم قليلون، مثل شجيرات متناثرة في سهل كنسته العاصفة, كانوا بعدد النجوم في قبة السماء، ومع كل يوم كان ينطفئ نجم منها، حتى غدت السماء قاتمة كئيبة. وقد علمت أن الزعيم الأبيض الكبير، والذي أخاله طيباً أيضا،ً يرغب بشراء أرضنا مقابل أن يوفر لمن تبقَّ منا عيشاً مريحاً. وهذا يبدو حكيماً بعض الشيء؛ لأننا لم نعد في حاجة إلى أراض فسيحة".

اليوم، وبعد مذابح كنساس، وأيوا، وداكوتا، ونبراسكا .. ورغم معاهدات الصلح الفاشلة، ورغم نداء "سياتل" للرجل الأبيض بأن يكون عادلاً وأن يرأف بشعبه، ورغم تحذيره لهم بأن الموتى ليسوا أبداً بلا حول .. وأن أرواحهم تظل تطوف بالمكان .. استشرف"سيتنج بول" ببصيرته نهاية قومه المحتومة، وأدرك أنه لا مناص، وأن هذه ستكون الهزيمة الأخيرة .. وليس أمامه إلا إنقاذ أرواح بضعة مئات من قبيلته المحاصرة، فهم آخر من تبقى من شعبه العظيم. ذرف دمعة ساخنة، وقال بحزن وانكسار: فلتجمعوا السهام والبنادق والأقواس، ولكن لتترفقوا بالأطفال والنساء.

كان "بلاك كويت" لا يعرف الإنجليزية، بل ورافضا أن يتعلمها، وعندما جاء الجنود لأخذ بندقيته، أطلق منها آخر رصاصتين؛ فقتلت جنديا وجرحت آخر .. فأحاط به الجنود، بعد أن أثخنوه بالجراح .. وتركوه ينزف آخر نصف ساعة من حياته .. حتى تسللت روحه رويدا رويدا .. وخرجت أخيرا من جرحه المفتوح.

لكنهم لم يقتلوا الآخرين بنفس الطريقة البطيئة؛ فخلال دقائق كانت مئات الجثث تتكدس فوق بعضها .. وسيل الدماء يجري بغزارة نحو النهر .. طفلٌ رضيع كان يلقم ثدي أمه قبل بدء المذبحة .. أصابت رصاصة مباشرة جبين أمه، واصل الطفل رضعته وهو لا يعرف أن مرضعته قد ماتت للتو .. ولم يتسنى لنا أن نعرف إذا ما ظل حليبها دافئا، أم جف على الفور .. لكن الرضيع قال للصحافة بعد أن كبر .. من قال أني قد قُتلت ؟! ليس في الأمر ثمّة  موت .. هناك فقط تبديل عوالم .. وأضاف: حتى أمواتنا لا ينسون أبدا أن هذه لأرض قد منحتهم الحياة ذات يوم، وأنهم يظلون ممتنون لها.

أدرك "بلاك كويت"، أن معركة "الركبة الجريحة"، ستكون مختلفة هذه المرة، وأنها ستجعل من شعبه مجرد ذكرى مخنوقة بالنشيد، رأى الليل الهندي شديد السواد، وقد خلى تماما من أي نجمة، وتلك البراري والسهول الفسيحة على اتساعها لا توجد فيها شجرة واحدة تمنح الأمل، ثم سمع ريحا حزينة تعوي في المدى ..

في نصف ساعته الأخيرة كانت صدى كلمات "سياتل" ترن في أذنيه، كان يحفظها عن ظهر قلب، تذكره حين قال بصوته الشجي: "إن كل هذا الثرى مقدس في عين شعبي .. كل سفح شهد عرسا .. وكل وادٍ نام فيه صياد، وتحت كل شجرة وضعت أمٌ وليدها .. وكل إبرة صنوبر منحتنا رائحة الجنوب، وكل ذرة تراب تخفي تحتها حكاية سعيدة وأخرى حزينة .. هنا عشنا في الأيام الخوالي التي طواها الزمان .. وحتى الصخور كانت تذيب موجات المحيط بحنان، والرمال تسح عرقها تحت شمسنا المهيبة .. حتى عين الشمس لنا .. وشاطئ البحر، كلها تمور بالذكريات .. وهذا التراب الذي تقفون الآن عليه، تفهم أقدامنا العارية لمسته الحانية؛ لأنه مُزج بدم أسلافنا، والرجال الجسورون، والأمهات المحبات، والعذارى ذوات القلوب السعيدة، والأطفال الصغار الذين عاشوا هنا ومرِحوا لفصل قصير. كل هؤلاء الذين طوى النسيان أسماءهم، سوف لن يكفوا عن عشق هذه القفار الكئيبة، وسوف يلقون التحية على الأرواح الغامضة التي تعود في المساءات مثل الظلال .. ".

عاش لحظات صعبة من الألم والقلق، تذكّر أن زعيمهم "سياتل"، طلب من البيض أن لا يسمّوا البقعة التي وُلد فيها على اسمه؛ لأن روحه ستقلق في كل مرة ينطق فيها أحد باسمه بعد موته؛ ومع ذلك منحوه بحقدهم قلقه الأزلي، وسموا المدينة الكبيرة التي سالت عليه دماء قبيلته "سياتل". وأدرك أنهم ربما سيطلقون اسم قبيلة "الأباتشي" التي أبادوها عن بكرة أبيها على مدينة أخرى، أو على سلاح قاتل سيخترعونه، وربما يطلقون اسم "بلاك هوك" الزعيم الذي قتلوا قبيلته كاملة على سلاح آخر يقتلون به شعوبا أخرى. وخشي أن يسمون إحدى أنواع النبيذ على اسمه، فلا يهنأ له نوم في مماته.

بهذا التورط العميق في طقس الحياة، والانخراط الوثيق بتفاصيلها، وبتلك الواقعية المذبوحة، ودّع"بلاك كويت" ذكرياته الحالمة، ورأى بعين دامعة آخر هندي أحمر يدخل الغابة، ويختفي فيها، ولا يبقى منه سوى طيف ذكريات، وخيال سحابة عابرة فوق البراري.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق