أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

ديسمبر 02، 2012

جامعات الأعشاب



وقفت إيزابيل على مدخل الكنيسة، وأعادت مرة ثانية ترتيب الأطباق التي حملتها على صينية من القش، لتعطيها للأب سيفيليان، ثم طرقت الباب بهدوء، وقالت بصوت خجول: تفضل يا أبانا، قد أحضرت لك فطورك، جاءها صوت ضعيف من الداخل يدعوها للدخول، كان المكان أشبه بالقبو؛ رطوبة خفيفة، وضوء خافت يتسلل من نافذة علوية صغيرة، وسكون متصل لا ينهيه إلا زقزقة عصافير قليلة تتطاير على مقربة من شجرة الصنوبر الهرمة التي تُظِل على المكان. أما هو فقد بدا نحيفا، قصير القامة، في عينيه ابتسامة ذابلة تخفي حزنا عميقا، وقد أكسبه شعره الأبيض وصوته الدافئ مزيدا من الوقار. كان ممددا فوق لوح خشبي مثبت على أربعة حجارة كبيرة، وتغطيه فرشة من الصوف، يمكن تسميته بالسرير، وقبل أن ينهض بادرته بالسؤال: متى ستتذكركم روما ؟ ألن تبعث من أموالها ما يصلح حال هذه الكنيسة المتهالكة ؟ حتى "تولوز" وهي لا تبعد عنا أكثر من مسيرة يومين، لم ترسل يوما من كنيستها الكبيرة كيسا من الطحين، ولا حتى نسخة من الكتاب المقدس !! ابتسم البطرك بطمأنينة، وقال: يكفي أن الله معنا .. ونحن لا نحتاجهم بشيء.

ربما كانت كيبان تلك القرية الصغيرة النائية محظوظة بطبيعتها الساحرة، وناسها الطيبين، لكنها كانت محظوظة أكثر بسبب بعدها عن المركز، فهي تقع في الجنوب الفرنسي، وعلى مقربة من الحدود الإسبانية، الأمر الذي جعلها منسية، حتى الملاك والإقطاعيين كانوا لا يعرفونها، وقد تناهى إلى أسماعهم أنها قرية مجدبة، طرقها وعرة، والوصول إليها محفوف بالمخاطر .. ولهذا ظلت كيبان هادئة وادعة.. تعيش عزلتها مع نفسها بسلام.

ولكن يا أبانا، أنظر إلى حالتك، وأنظر إلى قريتنا التي يسكنها الفقر والجوع، في الشتاء الماضي مات صغيري من شدة البرد، ألسنا رعايا الكنيسة، ولنا حق بالحياة !؟ ولكنك يا بنيّتي لا تعرفينهم؛ إذا تذكّرونا سيرسلون فقط الجباة والعسس، وقد يعزلونني ويأتون براهب آخر يبيعكم صكوك الغفران ويأخذ أرضكم. ولكني يا أبانا أسمع عن جيوش القشتاليين التي بدأت تغزو المدن الغربية، وأخشى أن تمتد حربهم مع المسلمين لتصلنا، أو أن يحكمنا أحدهم بالسيف، ولهذا نحتاج حماية الملك لويس، ورعاية البابا. لا تتعجلي الأمور، ولا تيأسي من رحمة الله أيتها الأَمَة الصالحة.

لم يمض وقت طويل، حتى صحت إيزابيل ذات صباح على صوت أطفال يتصايحون ويهتفون بصخب، نادت على ابنتها منزعجة: ما الأمر يا ميلينا ؟ أجابت: لست متأكدة، ولكني سمعت يوم أمس أن بطركا جديدا سيأتي لكنيستنا، ليساعد الأب سيفيليان، فهو كما تعلمين مريض، ويقولون أن مبعوث البابا يحمل معه هدايا كثيرة.

مضى شهران، وبدت أحوال الناس تتغير، انتهى الصيف ولم تشهد كيبان عرسا واحدا، ساحة القديسة ماريا خلت من السمّار، أزقة القرية صارت مهجورة معظم الوقت، وأدراجها بدت كئيبة، ومع قدوم الخريف، أخذ اللون الأصفر يغطي أشجار القرية ووجوه الكبار .. حتى الصغار لم يعد أحد يسمع ضحكاتهم. أي لعنة حلت بنا يا أمي ؟ قالت ميلينا، صمتت أمها برهة، وصوبت ناظريها نحو الأفق تتأمل بصمت وحزن .. ثم قالت: احملي طعام الإفطار للأب كوستا، وسأوافيك هناك بعد قليل.

وصلت ميلينا، فوجدت باب الدير مفتوحا، واصلت مسيرها نحو بهو الكنيسة، فوجدته مفتوحا أيضا، دخلت، ووضعت صينية الطعام على منضدة خشبية كان البطرك الجديد قد أحضرها معه إلى جانب أغراض أخرى كثيرة، التفتت للخلف على وقع أقدام مسرعة؛ فوجدت الأب وراءها تماما، احمر وجهها خجلا، وقالت متلعثمة صباح الخير أبونا. صمت برهة وهو ينظر إليها بتأمل، ثم قال: تبارك الخالق .. ما هذا القوام الممشوق، والوجه النضر .. تعالي بنيتي أضمك لصدري وأمنحك بركات الرب .. وجَدَت نفسها فجأة بين يدين خشنتين صارمتين، وقد بدأ البطرك بتقبيلها من خديها، ويضمها بقوة أكثر، ثم أخذ يمرغ لحية الكثة فوق صدرها، وهو يتلو صلوات غير مفهومة .. أحسَّت بحرارة جسمه، ولم تعرف ماذا تفعل .. خفق قلبها بشدة، وخافت، أطلقت صرخة مكتومة .. صاح بها بصوت كالرعد: أتهربين من قدر الله ؟! استسلمت بلا وعي وخرّت على الأرض مغشية، رفعها بين ذراعيه مرة ثانية، وضع فمه فوق فمها بنهم، وجسده يرتج.

أعدت إيزابيل منقوع الشيح، ثم صفّته، وأحضرت ماء مغليا، وأضافت عليه وريقات من إكليل الجبل، وأزهار الزيزفون، وقشر الرمان، ثم وضعت الخليط فوق الشيح المصفّى، وحركت جيدا، ثم صبت الرائق منه في جرة فخارية، ومضت بطريقها للدير. كانت خائفة على الأب سيفيليان؛ فقد ساءت أحواله مؤخرا، لذلك أمضت الليالي الأخيرة تصلي للرب ليشفيه. دفعت باب الدير مسرعةً، وقبل أن تصل للقبو، سمعت صوت مكتوما يأتي من داخل الكنيسة، أسرعت هناك، لتُصدم بالمشهد.

أفلت البطرك الفتاة من يديه، على الفور رفعت ثيابها وهرعت نحو أمها باكية، لم تجرؤا أن تنطقا حرفا واحدا، مضت الأم وابنتها ببطء وانكسار نحو القبو، كان الأب سيفيليان نائما، أيقظته، ثم أسندته على ظهره، ثم اسقته دوائها، دون أن تتحدث.. وتمنت له الرحمة .. ومضتا في طريقهما للبيت.

بعد ثلاثة أيام، طرق حارس الكنيسة ومعه ثلة من الجنود الباب بعنف، ثم خلعه بركلة من رجله، وصاح بأعلى صوته: أيتها المهرطقة .. ستنالين عقاب الرب، قبل أن تستفيق من الصدمة، كان الجنود يجرونها من شعرها، ويقتادونها إلى ساحة القديسة ماريا.

 تفاجأت إيزابيل أن كل أهل القرية كانوا متجمعين هناك، وفي وسط الساحة أُعدَّ ما يشبه المسرح، ومن حوله قد اصطف الجنود والخيالة ورهبان غريبين أتوا من تولوز على عجل، إضافة إلى ثلاثة نساء أخريات من القرية، وسبعة أخريات جلبهن حراس الكنيسة من القرى المجاورة.

ظهر الأب كوستا بردائه الأسود، وياقته البيضاء التي بدت شاحبة من شدة وساختها، ووقف إلى جانب المسرح وهو يحمل بين يديه الكتاب المقدس، يقبّله تارة ويضمه لصدره تارة أخرى، ثم بدأ يخطب بصوت جهوري فصيح، وبعد مقدمة تقليدية، أخذ يشير نحو النساء المقيدات بحبل واحدةً واحدة، ويصيح بانفعال: هؤلاء كافرات مهرطقات؛ منهن من تزعم أن الرب اصطفى المجدلية خليلة ليسوع، ومنهن من رآهن الحراس يجمعن الأعشاب التي تخفف من آلام الولادة، ومنهن من ثبت عليهن تعلم القراءة والكتابة، ومنهن من تجرأن على الكنيسة، ومنهن من عملن بالسحر والمداواة، أما هذه الملعونة (وأشار نحو إيزابيل) فقد قتلت الراهب الطيب سيفيليان بالسم.

تعالت أصوات الجمهور على نحو فوضوي، وأخذ الرهبان والحراس يصيحون بصوت موحد: النار النار النار .. مصير المجدفين والكفار ..

في صبيحة اليوم التالي كانت رائحة الشواء لا تزال نفاثة، وتزكم الأنوف .. وميلينا تبكي بصمت .. على الراهب، وعلى أمها .. وعلى الأيام التي تنتظرها .. وهي واثقة بأن أطفالا آخرين سيموتون بردا هذا الشتاء، ونساء أخريات سيُحرَقْن مع أوراق كل خريف قادم ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق