أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

ديسمبر 01، 2012

كيف يفكر العقل السياسي العربي ؟!



كالعادة، انقسمت الآراء إزاء مسألة رفع تمثيل فلسطين إلى صفة عضو مراقب في الأمم المتحدة إلى قسمين على طرفي نقيض؛ من أيّد الخطوة رآها إنجاز تاريخي، ونصر كبير، ومن رفضها اعتبرها خيانة وتفريط، واحتدم الجدال بين الطرفين، ولكن ضمن معادلة صفرية، يرى كل طرف فيها أن الآخر إما مزاود وعبثي، وإما مستسلم وانبطاحي.

وقبل مناقشة هذه الخطوة أو غيرها، ولفهمها فهما موضوعيا، علينا بدايةً أن نقر بأن العقل السياسي العربي أبتلي بجملة من أنماط التفكير السلبية، التي غالبا ما توصل أي نقاش فكري بين طرفين إلى مثل هذه النتيجة العدمية، إذْ أن البعض – وللأسف - ينطلقون في تفكيرهم وإصدار أحكامهم من حالات نفسية مرَضيّة، بحيث تصبح الحاجة لطبيب نفسي أكثر من الحاجة لمحلل سياسي، حتى يتسنى لنا فهم ما يقولون.

لكن الحديث عن هذه الأنماط المختلفة من التفكير، لا يعني أبدا أننا ضد التنوع والاختلاف والتعددية في الآراء، بل هي مجرد دعوة لإعادة التفكير في مفاهيمنا وأحكامنا (السياسية). وإذا كنا نعترف بأن كل واحد منا يمارس واحدة أو أكثر من هذه الطرائق السلبية في التفكير، فهذا لا يعني تبرئة الذات، أو إدانة الآخرين، أو أن ما يقوله الغير خطأ لمجرد أنه يفكر بطريقة سلبية، فقد يكون ما يقوله صحيحا؛ لكنه يتعامل مع المعطيات بطريقة سلبية. وإذا كانت تلك هي سمات العقلية العربية عموما، فإنها مناسبة لنعرف أخطائنا، ونبدأ بتصحيحها.

أبرز هذه الأنماط رؤية الأمور بلونين فقط: إما أبيض وإما أسود وعدم الاعتراف بأية مساحة بينهما؛ فهنا إما تفاؤل مفرط وإما تشاؤم محبط ! وبهذه العقلية الحدية يتعامل الكثيرون في الحكم على الأحداث، فيفهمونها كأشياء مطلقة، لا تخضع لقوانين النسبية.

وهناك أيضا، الخضوع لديكتاتورية الرأي العام؛ ففي المجتمعات العربية التي تستمد ثقافتها من قيم القبيلة والعشيرة، نجد أن الفرد يحتمي دوما بالجماعة التي يعيش في كنفها، والتي يتوقع منها أن تؤّمن له الدعم؛ ولذلك من النادر أن يرغب أحد بالخروج عن القيم والمفاهيم السائدة، وكذلك لأن من خصائص الطبيعة البشرية أنها شديدة التأثر بما يوحي العرف الاجتماعي إليها من قيم واعتبارات؛ فالإنسان يود أن يظهر بين الناس بالمظهر الذي يروق في أعينهم، ولهذا السبب نجد أن الفرد يتساوق بسهولة مع الرأي العام، يردد الشعارات السائدة حتى بدون تفكير أحيانا، ويقوده عقله الباطني للاحتماء خلف نصوص وشعارات جاهزة محفوظة وتحظى باحترام الأغلبية.

ومع ذلك، أحيانا نجد معيار الحكم على الأشياء، ودافع القبول أو الرفض مجرد حالة مفرطة من الفردية النرجسية، بحيث يعمد المتحدث إلى شخصنة الأشياء، ورؤيتها من الزاوية الشخصية الضيقة التي تجعل من الشخصية مركزا لكل ما يدور من حولها، وبالطبع ستكون هذه الرؤية خاضعة لحالة المزاج وتقلباته، وهنا يتم الحكم على الأشخاص بدلا من الحكم على المواقف.

وأيضاً، التوهم باحتكار الصواب، وامتلاك الحقيقة المطلقة، والادّعاء بالخبرة والمعرفة، وهو ما يُعرف بالخطاب المغلق؛ أي الخطاب القائم من طرف واحد، حيث يغيب تماماً أو يُغيّب الطرف الآخر، ويكون الحديث معه بمنطق الأستاذ وأسلوبه الفوقي، وبلغة تقريرية صارمة لا تقبل الجدل.

وفي أغلب الأحيان نجد أن "عقلية الخطاب المغلق" تؤدي إلى خلق ذهنية متزمتة ذات أفق ضيق، تحمل وجهة نظر واحدة ثابتة بقالب جاهز، تلجأ إلى طرح المأثورات المحفوظة عن ظهر قلب، وترديدها في كل مناسبة، والتعامل بقوالب فكرية جامدة تحيطها هالة من القداسة، وهذا بدوره يقود إلى التعصب والغلو؛ فيبدأ كل طرف بتكفير الآخر، وتخوينه لمجرد الاختلاف معه في وجهات النظر.

ومن أسوأ أمراض العقل السياسي ما يُعرف بالقراءة الانتقائية لخطاب الطرف الآخر، حيث يأخذ منه ما يريد ويترك ما يريد، وينتزع الجمل من سياقاتها ويشوهها ويشوه دلالاتها، ويقوّلها ما لم تقله، وينسب إليها ما هو موجود أصلاً في ذهنه من أحكام صادرة ضد هذا الخصم أو ذاك، على مبدأ {وَيْلٌ لِلْمُصَلّينْ}. أو نزع الأحداث عن سياقاتها التاريخية المتصلة، فلا يرى في الحدث إلا الواقع الراهن معزولا عن ماضيه، وبالتالي يقيم حكمه استنادا إلى المشاهدة الأخيرة، وبطريقة مبتسرة.

أما الآفة الأخطر، فهي ما يسمى بالاستلاب الفكري، والتي نجدها واضحة عند بعض الشرائح الاجتماعية التي مُنيت بهزيمة في روحها وعقلها، فآمنت بالهزيمة، وأقرت بها في عقلها الباطن، ومارست نتائجها في عقلها الظاهر، وتعاملت معها كواقع لا يتغير، وقَدَرٍ لا فكاك منه، حتى باتت الهزيمة جزءا أصيلا من فكرها، ومنطلقا لآلية تفكيرها.

والعقلية المستلبة تدفع صاحبها لأن يصدق كل تصريحات العدو، ويأخذها على محمل الجد كمسلّمات، وينظر إلى تهديداته بخوف واحترام، بينما سينظر إلى تصريحات من هم من بني جلدته ونواياهم وخططهم باستخفاف وإهمال، وهذا ليس غريبا فقد امتلأ قلبها بالتشاؤم ولم تعد ترى سوى الجزء الفارغ من الكأس، وبهذا المعنى ستكون العقلية السوداوية هي الوجه الآخر للاستلاب الفكري ونتيجة له.

ومن الأنماط السلبية أيضاً، الذهنية الغيبية، التي تؤمن بالخرافات والتنبؤات والتفسيرات الحالمة، وغير العقلانية، واللامعقولة، وحاجة الإنسان للذهنية الغيبية هي حاجته لليقين والأمان على شاطئ حتى لو كان وهميا، وهي تريحه من عناء التفكير ومشقة البحث، وتتلاءم مع رغبته في اختيار أهون الحلول وأقلها تعقيداً وتكلفة، وهي أيضاً تُسـْعِدُه عندما يقرر تأجيل معركته ومواجهته للحقيقة المرة والواقع الصعب، فيركن إلى التسليم والرضوخ والقبول بالأمر الواقع، وهي أيضاً ذهنية تناسب العامة والبسطاء وأدعياء الثقافة ذلك لأن قدراتهم المحدودة لا تمكنهم من الغوص في الأعماق والبحث عما وراء الأشياء، وهي في النهاية ستعفيهم من تحمل مسؤولياتهم، وتجد لهم العذر والعزاء في ذلك.

إن الذهنية الغيبية هي التي أرتنا صورة الانتصار على وجه القمر إبان الأزمات وأثناء الحروب، أي في أوج حاجتنا إلى النصر السريع على طبق من ذهب دون أن نخسر قطرة دم، أو دون أي تضحية مهما صغر شأنها، هي التي أوجدت لنا العزاء بأن نظل متفرجين، وهي التي تجعلنا بأمسّ الحاجة إلى زعيم مخلّص يعيد لنا كبريائنا المكسور، فنتكئ عليه ونحمّله أوزارنا، فكان عقلنا الباطن يصور لنا ما نتمنى رؤيته، ويعمينا عن الحقيقة، فيمتزج الحلم بالواقع وتنقلب الأمور رأساً على عقب، وتكون النتيجة الحتمية هزيمة أخرى تضاف إلى مسلسل هزائمنا، ببساطة لأننا لا نريد أن نضحي، ولا نريد أن نفهم.

هذه العقلية الغيبية هي النقيض المباشر للعلم والمنطق، فهي لا تضع الأمور في مكانها الطبيعي، والأحداث في سياقها التاريخي؛ وكأن الأشياء معلقة في الفراغ، أو وُلدت من العدم، وهي لا تؤمن بالنسبية والتاريخية وقوانين الطبيعية، وتعزل الأمور عن بعضها البعض وفق أهوائها، وكأنه لا وجود لقوانين ناظمة تحكمها وتسيرها.

ثم نجد العقلية النصوصية الجامدة، التي تقيد نفسها بالنصوص، والمشكلة هنا ليست في النصوص بحد ذاتها، بل المشكلة في فهمها وآلية التعامل معها؛ فالعقلية النصوصية تفـهم النص أو الشعار- الذي تؤمن به ويتمشى مع قناعاتها - فهماً مطلقاً جامداً، وكأنه معلق في الهواء ولم ينـشأ في بيئـة معـينة، ولم تكن له ظروف سياسية اجتماعية اقتصادية أحاطت به في زمن تشـكله، وتُبقي على هذا الشعار جثة هامدة بلا حراك، تتناقلها من جيل إلى جيل، وتعتقد بأن هذا الشعار يصلح لكل زمان ومكان، وبذلك يصبح عندها نصاً مقدساً لا يجوز المساس به أو تعريضه للنقد والمراجعة، أي تجعل منه "تابو" لتستخدمه كإسقاط فكري في كل حدث وفي كل مناسبة. وبهذا الفهم الميتاتاريخي يصبح الشعار خارج الواقع، وبهذه القراءة السطحية للنص تجعلنا نفهمه فهماً خيالياً وهمياً، ليصبح غير عملي، وتعلقه في فضاء الأحلام والمثاليات، وبالتالي تمنعه من التطور والتكيف مع المتغيرات.

ولعل أشهر الأنماط السلبية تلك التي تربط دوما بين الأحداث وبين مؤامرة أعدها الأعداء، وهي التي يُطلـق عليهـا "ذهنية المؤامرة"، وأصحاب هذه العقلية يؤمنون بوجود مثل هذه القوى (الخفية) القادرة على التخطيط والتنفيذ والتحكم بالنتائج بما يحقق مصالحها، ويرون أن هذه القوى لها القدرة الخارقة على نقل الأمم من مرحلة إلى أخرى، وتسيير دفة التاريخ، والتخطيط المسبق لمئات السنين. وهذه العقلية فضلا على أنها تنطلق من نفسيات مهزومة، ومن عقليات مستسلمة للخرافات والتصورات الغيبية، فإنها تتناقض تماما مع المنطق العلمي لتفسير حركة التاريخ، وإضافة إلى ذلك فإن ذهنية المؤامرة تضلل الجماهير، وتجعلهم في واد والحقيقة في واد آخر، لأن تفسيرها للأحداث ينبني على أساس وهمي خرافي سيوصل بالضرورة إلى نتائج مشوهة مضللة، وهي أيضا تجعل الجماهير متفرجين ينتظرون النتائج، بدلا أن يكونوا لاعبين مؤثرين يصنعون الحقائق والتاريخ، لأن الحياة على حد تعبيرهم مسرحية أعد فيها كل شيء بعناية، وما تصريحات الأطراف ومواقفهم إلا توزيع أدوار.

وهناك عقلية التشكيك في كل شيء، ومحاكمة النوايا، وتقمص دور القاضي والجلاد، والتسرع بإطلاق الأحكام حتى بدون توفر المعلومات الكافية، أو حتى لو كانت المفاهيم ضبابية وملتبسة وغير واضحة، أو حتى لو كان الموضوع مجرد إشاعة؛ ففي هذه الحالة يصبح كل شخص محلل سياسي وخبير اقتصادي وقائد عسكري وعالم نفس ... لديه القدرة على الإفتاء في كل شيء، بدون أي درجة من التواضع.

وهناك أيضاً الرفض لأجل الرفض؛ وبالنسبة للرافضين دوما، البعض منهم ينطلق من باب الحرص والتخوف من النتائج السلبية، وأحيانا يكون بسبب الخوف من المجهول وعدم الثقة بالمستقبل والرغبة في إبقاء الأمور على ما هي عليه، وعدم الرغبة بإجراء أي تغيير. والبعض ينطلق من أحكام سياسية مسبقة، وأحيانا يكون الرفض لأن المبادرة أتت من الاخرين، ولم تأتي من قبل الطرف الرافض؛ وهو ما يُعرف بعقلية "عصا المارشال"؛ وهو ذلك الجندي المغمور الذي سُرَّ بهزيمة جيشه لأن الجنرال لم يستشره بشأن خطة الهجوم، فتأبط عصاه ومشى بين الجنود يقول: لو سمعتم كلامي. فإذا حقق غيره إنجازا سياسيا أو أحرز نصرا عسكريا سيكون بالنسبة له مجرد هزيمة وإخفاق.

ومقابل الرفض المطلق، هناك بالطبع القبول بكل شيء، والحالتين تدلان على منهج غير صحيح في التفكير؛ فمن يقبلون بكل شيء هم المتفائلون أكثر من اللازم، الذين ينتظرون الفرج على طبق من فضه، ويراهنون على أشياء غير واقعية، أما الرافضون لكل شيء جديد، الذين عملوا على تأليه النصوص وتحويل الشعارات إلى أصنام، تُعبد وتقديم الشعب قرابين على مذبحها، هؤلاء وبعد عقود طويلة من الصراع ما زالوا متسمرين في المربع الأول، في نفس أماكنهم لم يبرحوها، يتغنون بالشعارات، ويجترون الماضي، ويواصلون إطلاق أحكامهم، ولا مانع لديهم أن يبقى الوضع على ما هو عليه قرونا أخرى،  في حين يواصل العدو تقدمه، ويبني وقائع على الأرض كان من الممكن تجنبها بكثير من العمل وقليل من الضجيج.

وهناك أيضا العقلية التطهرية، وهي عقلية مزاجية نزقة انفعالية قصيرة النفس محدودة الأفق، تُغِّلب الجانب العاطفي على الجانب العقلاني، وتعاني من حساسية مفرطة، وإذا كانت ميزتها الإيجابية تكمن في الطهر والاستقامة ونُبْل الأخلاق، فإن أهم سلبياتها هو عجزها عن التكيف والمواجهة وانعدام مرونتها، فهي مزاجية متقلبة تصل روحها المعنوية حالتها القصوى عندما تؤمن أن النصر وشيك، ولكن سرعان ما تهبط معنوياتها عندما ترى معالم قوة الأعداء. وهؤلاء التطهريون في الغالب لا تدوم مشاركتهم في الفعل السياسي طويلا، إذْ يتحولون إلى متفرجين ناقدين.

ومن مظاهر التفكير السلبي وغير العلمي، الحكم على جميع الأحداث والمؤتمرات والاتفاقات والخطوات السياسية مهما كان نوعها بنفس الألفاظ والتوصيفات؛ وهذا ما لاحظناه على مدى القرن الماضي، إزاء كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية على سبيل المثال. وباستعراض بعض أهم وأشهر هذه المقولات، بما فيها تلك المغرقة في السطحية سنجد:
"هذه الحركة هدفها اضفاء الشرعية على وجود اسرائيل، وتثبيت وجودها"، "لقد باعوا القضية"، "إذا أقدم فلان على كذا فإن ذلك يعني بالتأكيد تصفية القضية"، "هذا المؤتمر تم التخطيط له قبل خمسين أو مائة سنة"، "هذه الحرب من أجل تلميع فلان"، "هذه التصريحات لإلهاء الجماهير، وتكبيلها، منعها من أداء دورها" .. إلخ

ومن وجهة نظرهم، تم بيع القضية عشرات المرات، أي بعدد المؤتمرات التي عُقدت في المائة سنة المنصرمة. والسؤال مادام هناك بائع فلا بد أن يكون في المقابل مشتري؛ فأين هو هذا المشتري الذي يدفع ثمن بضاعته كل مرة ؟ وطالما أنه بهذا الغباء كيف تمكن من الانتصار في معظم حروبه العسكرية والإعلامية ؟ وإذا تمت تصفية القضية عشرات المرات؛ أي بعدد الاتفاقات المبرمة والفاشلة، وتم القضاء على حلم الشعب مع كل مبادرة سياسية أي كان منطلقها !! فكيف نفسر أنه بالرغم كل هذه التصفيات للقضية إلا أنها لا زالت جذوتها مشتعلة !! ولا زالت تشغل العالم وتؤرقه ؟! وما زالت الجماهير تناضل وتقدم الشهداء والأسرى.

هؤلاء المحللون ينطلقون من هواجس (غير صحيحة) تدور في فلكين: كل شيء معد للاعتراف بإسرائيل، وكل شيء الهدف الخفي منه هو إلهاء الشعوب وتكبيلها .. علما بأن إسرائيل لا تحتاج اعترافا من أحد، ولا تسعى لتحقيق أي استقرار داخلي، ولا تسعى أبدا للسلام والصلح والتطبيع، وأي شخص يقرأ عن الصهيونية ويفهم طبيعة الدور الوظيفي لإسرائيل، والسياقات التاريخية لنشأتها، وتركيبتها الداخلية، وطبيعة علاقتها بالغرب عموما، وبأمريكا على وجه الخصوص، سيتأكد من هذه الحقائق، وسيعرف أنها دولة "مجتمع عسكري" أقيمت من أجل شن الحروب، وأن نقيضها المركزي هو السلام الحقيقي .. وفيما يتعلق بالشعوب العربية؛ فإن لا إسرائيل ولا أمريكا تحسبان لها حساب، ولا تفكران بوجودها أصلا، والمرة الوحيدة التي بدأتا التفكير جديا بدور الشعوب هي بعدما انطلقت الشعوب بأخذ زمام المبادرة في ثورات الربيع العربي، وقبل ذلك، كانتا تشنان الحروب، وتحتلان البلدان، وتقتلان، وتعربدان دون أن تعبأ بأي ردة فعل جماهيرية.

وفيما يتعلق بالمعاهدات وعقود الصلح؛ فهي لم تكن في يوم ما وفي أية مرحلة من التاريخ عائقا أمام الشعوب والثورات، ولا حتى الحكومات والجيوش، إذا ما أرادت أن تدوس هذه المواثيق وتضعها من ورائها. والتاريخ يزخر بالأمثلة، فالأمر بكل بساطة ليس مسالة نصوص مكتوبة ومواثيق موقعة؛ بل يعتمد على موازين القوى، وعلى الإرادة والتصميم.

كما أن الانتماء الوطني لا يخضع للنصوص ولا تُبطله المعاهدات ولا تلغيه الدبابات ولا يسقط بالتقادم، والذاكرة الوطنية تتناقلها الأجيال، والأرض تُورّثُ كاللغة، وهي باقية ما دام الشعب باقيا، ويافا وحيفا والناصرة والنقب خالدة في وجدان الشعب، وحية في ضميره مهما ادلهمت الخطوب وتلبدت الغيوم وتوالت السنون. وإذا كان المسعى الفلسطيني الحالي دولة "صغيرة"؛ فإن الوطن الذي ننتمي إليه كبير، والحلم كبير، والثورة مسؤولة عن إبقائه متقدا، وأمينة عليه، تحرسه بالشهداء والدماء.

والأجيال القادمة تستحق منا ما هو أكثر من الشعارات والقصائد وذكريات الموت والشهادة، تستحق منا أن تجد شيئا على الأرض تبني فوقه وتواصل من خلاله مسيرة التحرير، وأن تنطلق من رام الله ونابلس وغزة والخليل، بدلا من الانطلاق من عواصم الشتات، وتكرار المأساة التي ضربت أجيال ما بعد النكبة.

أما حسم الصراع، وحله جذريا، وإنزال الهزيمة التاريخية بالمشروع الصهيوني .. فهذا أمر لا يمكن أن يتم بالاعتماد على العامل الفلسطيني بمفرده، وهو يتطلب كشرط أساسي توظيف عناصر القوة العربية بأكملها: السياسية والعسكرية والاقتصادية والبشرية، وبما أن الواقع العربي والدولي كان يحول دون ذلك على الدوام، والواقع الراهن لا يمكن أن يعطينا كل ما نريد، دفعة واحدة، وأنه لا يبدو في المدى المنظور والبعيد أي إشارات تدل على تغيير في المعادلة السياسية التي تحكم العالم؛ فإن البديل الواقعي هو الإبقاء على جذوة الصراع متقدة. أي الصمود والتجذر فوق الأرض، ومشاغلة المشروع الصهيوني للحيلولة دون استقراره، والحفاظ على ما تبق من الأرض، والعمل على الاستمرار والتقدم وتحقيق الانجازات التي يُبنى عليها، أي الانطلاق من السكون والتقدم نحو الأمام، وتقديم شيء بدلا من الانتظار، والتحرك بدلا من شتم الواقع والتباكي على الشعارات.

وما يصفه الرافضون بالخيانة والتنازل، يعتبره الآخرون خطوة للأمام، ومحطة انتقالية، تأتي في سياق برنامج مرحلي يسعى في هذه الخطوة إلى تحرير جزء من الوطن، وتثبيت الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني على الخارطة السياسية العالمية، كأداء فعالة وسلاح بالغ الأهمية في مواجهة المشروع الصهيوني باعتبارها النقيض المركزي لـه كمقدمة لمحاصرته ومنع تمدده.

وأخيرا، كل الحلول السياسية المطروحة، سواء كانت فاشلة، أم ناجحة، لا ولم ولن تعيق أي أحد من المضي قدما نحو تحرير كل فلسطين دفعة واحدة، وهي عائق فقط أمام من يبحث عن أعذار ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق