أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

نوفمبر 23، 2012

حرب غزة .. في مفهوم توازن الرعب


يبدو مصطلح "توازن الرعب" من أكثر المصطلحات رواجا، وأكثرها غواية وإرضاءً للشعب الفلسطيني الذي يعجز – لأسباب موضوعية – عن تحقيق توازن استراتيجي عسكري مع إسرائيل، فيسعى عوضا عن ذلك إلى تحقيق توازن "نفسي" بتكاليف مادية أقل. وفي السنوات الأولى من انتفاضة الأقصى، عندما كانت المدن الإسرائيلية تشهد عمليات تفجيرية تثير هلع وقلق السكان، كان مبرر الجهات الفلسطينية التي تنفذ هذه العمليات الفدائية هو تحقيق توازن الرعب، ولكن النتائج النهائية أثبتت أن هذا المفهوم لم يكن ليحقق أي توازن للرعب بين الطرفين؛ فبينما بدأ السكان الإسرائيليون يتكيفون مع الواقع الأمني الجديد، ويعتادون عليه، كان الفلسطينيون يدفعون الثمن الأكبر والأغلى من فاتورة الصراع، وفي المحصلة النهائية لم يحقق هذا التوازن النتائج المرجوّة.
في حرب غزة، تكررت الصيغة، ولكن بصورة مختلفة؛ فقد حلت الصواريخ مكان الأحزمة الناسفة، وعلينا أن ندرك أن الموضوع ليس في عدد الصواريخ ومدياتها، رغم أن هذ مهم جدا، ولكن الأهم منه هو طريقة إدارة الصراع؛ فمثلا كوريا الشمالية تمتلك صواريخ عابرة للقارات تهدد بها أمريكا، لكنها دولة فقيرة ويتهددها شبح المجاعات، وكذلك فقد امتلك صدام حسين صواريخ بالستية قصف بها تل أبيب، لكنها كانت السبب في الإطاحة بحكمه ووقوع العراق بأكمله تحت الاحتلال الأمريكي، وأن نتذكر أيضاً أن حزب الله أطلق أكثر من ثلاثة آلاف صاروخ على حيفا ومدن إسرائيلية متعددة، ولكن النتيجة كانت إزاحة قوات الحزب 40 كلم شمال الحدود، ثم توقفه تماما عن إطلاق حتى رصاصة واحدة باتجاه إسرائيل.
صحيح أن الصواريخ الفلسطينية وصلت ولأول مرة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني إلى تل أبيب والقدس ومدن أخرى. وأنها ولا شك أثارت الهلع في قلوب الإسرائيليين، ولكن هذا الهلع إذا لم يكن ضمن استراتيجية وطنية مدروسة تؤدي إلى تحقيق نتائج سياسية، فلن يفيد الفلسطينيين بشيء، وسيكون صالحا فقط للتندر.
والرعب الذي يصيب السكان في أي مكان في العالم إذا ما تعرضوا لقصف أو تهديد من أي نوع هو حالة إنسانية طبيعية، لا ينجو منها أي إنسان، خاصة إذا كان لديه أطفال، وعلينا أن نتذكر أن الإسرائيليين الذين يركضون أو ينبطحون خشية وخوفا من صواريخ المقاومة سيجدون ملاجئ محصنة تحميهم؛ بينما العائلات الفلسطينية التي تتعرض للقصف الإسرائيلي تسكن أكثرها في أكواخ من الصفيح بالكاد تقيها من حبات المطر، وليس لهم أية ملاجئ، وبالتالي سيصابون أيضا بالذعر، ليس لنقص في شجاعتهم؛ بل لأنهم بشر.
والخوف خصيصة إنسانية؛ سيّما وأن شدة القصف وحجم وقوة التفجيرات لا تُقارن بين القذائف والصواريخ الإسرائيلية من جهة، وبين صواريخ المقاومة محلية الصنع من جهة ثانية؛ فقد تسبب صواريخ إسرائيل بمقتل 167 فلسطينيا، وجرح أكثر من 1500 آخرين، منهم من فقد يده أو رجله أو تشوه وجهه .. في حين لم يسفر إطلاق نحو 1500 صاروخ فلسطيني على المدن الإسرائيلية إلا عن مقتل أربعة فقط، ومعظم الجرحى الإسرائيليين هم عبارة عن حالات فزع وصدمة نفسية. هذا لا يقلل من أهمية صواريخ المقاومة؛ ولكن علينا أن لا نقع ضحية المبالغات والتهويل التي لا تخدمنا أبدا.
البعض وقع في فخ الدعاية الصهيونية التي كانت تروج صورا لسكان إسرائيليين "مدنيين" وهم في حالة ذعر وفزع، مع أنه من المفترض في حالات الحروب أن تسعى الدولة إلى إظهار شجاعة مواطنيها، من أجل تماسك الجبهة الداخلية وارتفاع معنويات جنودها، ولكن العكس حصل هذه المرة في إسرائيل !! والسبب وراء نشرها هذه الصور التي تنطوي عل قدر من المبالغة، هو التغطية والتمويه على الجرائم الإسرائيلية بحق المدنيين العزل في غزة، وإظهار إسرائيل في صورة الضحية الواقعة تحت "إرهاب" حماس وصواريخها، وبالتالي تكسب الدعم والتعاطف الدولي، وإمعانا في ذلك كانت قيادة الجبهة الداخلية الإسرائيلية تتعمد إطلاق صافرات الإنذار في أي مدينة حتى لو كانت لا تتعرض لخطر حقيقي، ومع علمها بتواضع القوة التفجيرية للصواريخ الفلسطينية، ومن المعلوم أن صوت هذه الصفارات مزعج ومثير للرعب، وهو بحد ذات كافي لإثارة الهلع، لكنها كانت تفعل ذلك لسبب إضافي؛ وهو إبقاء الجبهة الداخلية في حالة شعور بخطر العدو الخارجي، لأن هذا الإحساس (المخيف) هو العامل الوحيد القادر على تذويب كافة تناقضات المجتمع الإسرائيلي وصهرها في بوتقة موحدة، وتصدير أزماته الداخلية للخارج، أو تأجيل بلورتها وخروجها أطول فترة ممكنة، وإسكات قوى المعارضة، ودفع الجمهور نحو اليمين أكثر فأكثر، ونحو مزيد من التطرف.
صحيح أن الخسائر التي أوقعها القصف الصهيوني بالفلسطينيين أكبر بكثير ماديا وبشريا من الخسائر التي لحقت بإسرائيل؛ إلا أن الخسائر الإسرائيلية على ضآلتها تعتبر فادحة، على الأقل من الناحية المعنوية، حيث أن "مفاجأة" الصواريخ التي سقطت في تل أبيب والقدس ستظل جرحا نرجسيا لن يندمل سريعاً.
وهذا يعني أن توازن الرعب الذي بدأ منذ أن تفجرت الثورة الفلسطينية، وتنامى وتطور مع نضالات الشعب الفلسطيني، لم يصل بعد إلى مستوى التوازن الحقيقي، بالدرجة التي تردع إسرائيل عن ارتكاب أي عدوان في المستقبل، ومن أجل الوصول إلى تلك المرحلة أمام الفلسطينيين مشوار طويل من النضال والإعداد والعمل، وإذا كان الصاروخ الذي وصل تل أبيب قد سقط هذه المرة في البحر، أو اعترضته القبة الحديدية، فإن تنامي القدرة الصاروخية لقوى المقاومة إذا ما استمر بالوتيرة التي شهدناها سيعني أن صواريخ المقاومة في المستقبل ستكون أكثر دقة، وبقوة تفجيرية أكبر، وستحقق توازن رعب حقيقي، كما يأمل الفلسطينيون.
وهذا سيكون في مقدمة أسباب جولات جديدة من العدوان، ما يعني أن حرب غزة لن تكون آخر الحروب مع إسرائيل, بالرغم من التفاهمات التي تم التوقيع عليها؛ فالشعب الفلسطيني يناضل من أجل حريته وكرامته، وتحرير وطنه، وبناء دولته المستقلة، وانتزاع حقه في تقرير مصيره، ولا يناضل فقط من أجل فتح معبر، أو تحقيق منجزات كانت متحققة أصلا قبل الانقسام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق