أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

نوفمبر 23، 2012

حرب غزة .. هزيمة أم نصر ؟


في أغلب الحروب، وعلى مر التاريخ، لم يكن هناك نصْرا مطلقا؛ ولا هزيمة مطلقة. وهناك حكمة قديمة (لا أدري من قائلها لكني أراها صالحة)، تقول: "إذا عجز القوي عن تحقيق الانتصار فإنه مهزوم، وإذا رفض الضعيف الاعتراف بهزيمته فإنه منتصر". فليس كل انتصارٍ انتصاراً، ولا كل هزيمةٍ هزيمةً، حتى أن انتهاء الحرب بصيغة لا غالب، ولا مغلوب، بالمعنى العسكري، يمكن أنْ نراها بالمعنى السياسي نصراً لأحد الطرفين، وهزيمةً للآخر. وفي التاريخ نجد أحيانا "نَصْرا حقيرا"، يقابله "هزيمة مُشَرِّفَة"؛ وكم من الهزائم العسكرية فاقت بقيمتها الاعتبارية أرفع الانتصارات، وكم من الانتصارات الحاسمة جُلّلت بعار الهزيمة. وأمامنا صورة كربلاء، التي ظلت شاهدة على خِسّة المنتصر ونُبل المهزوم.  
ومن المهم معرفة أن حسابات النصر والهزيمة في الحروب لا يتم احتسابها وسط ضجيج المعارك، ولا تُفهم فقط من خلال لغة الأرقام والإحصاءات؛ بل تُسجَّل في المحصلة النهائية بعد انقشاع غبار المعارك، وما يتمخض عنها من تفاهمات واتفاقات، والأهم من ذلك، أن مفاهيم النصر والهزيمة يجب احتسابها "وطنيا"، وبشكل شمولي، وليس "حزبيا"؛ فانتصار حزب لا يعني بالضرورة انتصار كل الوطن، إلا إذا كان هذا النصر في إطار إستراتيجية وطنية شاملة .
كما أنه وعلى المستوى الإستراتيجي لا تتوقف مفاهيم النصر والهزيمة عند النتائج العسكرية، بل على كيفية التعامل مع الواقع الجديد؛ فعلى سبيل المثال تعرضت كل من ألمانيا واليابان لهزيمة عسكرية ساحقة في الحرب العالمية الثانية، وفُرضت عليهما شروطا مذلة، إلا أن هاتان الدولتان تخطّتا البعد السيكولوجي السلبي للهزيمة، واجترحتا معجزة الانبعاث، وهاهما الآن ثاني وثالث قوة اقتصادية في العالم، وشعبهما يهنأ بالأمن والاستقرار.
وبالعودة لحرب غزة، وتحديد المنهزم والمنتصر، سنجد أن الآراء قد انقسمت على نحو متعاكس إزاء هذه المسألة؛ فبينما يرى البعض أن حماس ومعها كافة قوى المقاومة انتصرت، لأنها دكّت مدناً إسرائيلية بالصواريخ طالما اعتقدت أنها آمنة، وكسرت هيبة جيش الاحتلال، وأجبرته على التفكير مليا قبل الإقدام على أي اجتياح بري لقطاع غزة. وأنها غيرت إلى حد ما قواعد الاشتباك، وأوجدت معادلات جديدة .. يرى آخرون أن حماس لم تُلحِق أي هزيمة بإسرائيل، وأنه يصعب وصف ما حصل على أنه نصرا ربانيا .. ليس بسبب التفاوت الكبير في أعداد الضحايا وحجم الخسائر على الجانبين؛ بل وأيضا في شروط وكيفية وقف الحرب، وصيغة التفاهمات التي تمت، والاتفاقيات التي أُبرمت، ويتساءل هؤلاء: كيف يمكن قراءة الاتفاق الذي سيؤدي إلى وقف كافة أشكال المقاومة على أنه نصر للمقاومة ؟!!
ومن ناحية ثانية، يرى البعض أن إسرائيل حققت معظم أهدافها التي أعلنت عنها لشن الحرب، وأهمها تجريد المقاومة من أسلحتها، وضمان هدوء جبهتها الجنوبية ولأمد طويل. وفي المقابل يرى آخرون أن حماس حققت نتائج سياسية على أكثر من مستوى لم يكن لها أن تحققها بدون هذه الحرب؛ فقد خرجت من الحرب أكثر قوة وصلابة، واستعادت صورتها في المخيال الشعبي كحركة مقاومة باسلة، بعد أن ألحقت بكرامة إسرائيل إهانة كبيرة، ستظل آثارها لآماد طويلة.
وأمام هذا الاختلاف في رؤية نفس المشهد، تتعقد الصورة أكثر؛ خاصة وأن الكثير من الدلالات الرمزية تفرض نفسها بقوة: على الجانب الفلسطيني دأبت حركات المقاومة على اعتبار أي مواجهة مع جيش الاحتلال نصرا مؤزرا لها، وهزيمة منكرة لإسرائيل .. فإذا كانت كل هذه الهزائم قد لحقت بإسرائيل، فكيف نفسّـر تفاقم بؤس واقعنا وضعفنا، في مقابل قوة إسرائيل المتزايدة، وتفوقها على كافة المستويات، وزيادة غطرستها وشراستها وعدوانيتها !!
وعلى الجانب الإسرائيلي، نجد نفس التباين؛ البعض لم يرضَ عمّا أنجزه الجيش، لأنهم لم يكتفوا من الدم الفلسطيني، والبعض أصيب بجرح نرجسي سببته تلك الصواريخ التي وصلت تل أبيب والقدس، والبعض رأى أن الجيش أصاب أهدافا كبيرة من خلال جولة صغيرة، والبعض تفاجأ من قدرة المقاومة الفلسطينية على النهوض من تحت الردم، وتطوير منظومتها الصاروخية، بعد أن ظن أنه قضى عليها، أو أضعفها في الحرب السابقة.
في النتيجة، يصعب القول بأن إسرائيل انتصرت، رغم الخسائر الفادحة في الأرواح والممتلكات التي ألحقتها بالجانب الفلسطيني، ورغم تفوقها العسكري الكاسح؛ فكل المباني والمقرات التي قصفتها وهدمتها تقع في بيئة مدنية لا تمتلك أي مضادات للطائرات، وبين الجانبين خلل فادح في موازين القوى، وغالبية ضحايا الهجمات الإسرائيلية هم من الأطفال والنساء والشيوخ والمدنيين، وليس في هذا أي بطولة، ولا يمكن اعتباره نصرا بأي مقياس، بل هو عمل خسيس وجبان ولا أخلاقي، ولا يقبل به أحد، حتى أشد الناس تعاطفا مع إسرائيل.
وأيضاً، لا يجوز إغفال المنجزات التي حققتها قوى المقاومة، حتى لو كانت معنوية؛ ففيها دلالات رمزية ذات قيمة كبيرة،  يمكن البناء عليها وتطويرها في المستقبل، إلى الحد الذي يفرض على إسرائيل القبول بالحقوق الفلسطينية والاعتراف بها. المهم هو أن تخرج الفصائل من عباءتها الحزبية الضيقة، وأن يفكر الجميع ويعمل بالروح الوطنية الأوسع والأشمل، وفي هذه الحالة سيكون كل نصر لحماس أو لغيرها نصرا لفلسطين.
ويجب أن لا ننسى أن حالة المقاومة التي مثلتها حماس والجهاد الإسلامي وبقية الفصائل قبل هذه الحرب وخلالها، لا يمكن فهمها بمعزل عن السياقات التاريخية للنضال الوطني الفلسطيني ككل؛ بمعنى أنه لا يجوز لأحد اجتزاء التاريخ وقراءته قراءة مبتسرة، وكأن تاريخ المقاومة قد وُلد للتو .. فهذا "النصر" الذي تحقق في غزة – بغض النظر عن نوعه وحجمه – لم يكن ممكنا تحقيقه لولا تاريخ طويل من المواجهات والحروب والمعارك .. بدأتها "فتح" عندما فجرت الثورة الفلسطينية ,, وبنت حينها مدرسة نضالية كان على رأسها خليل الوزير وياسر عرفات، واستمرت وتصاعدت وراكمت خبرتها الكفاحية بفعل كافة الفصائل والقوى الشعبية، وبفعل صمود الشعب الفلسطيني فوق أرضه، وفي الشتات، وتمسكه بحقوقه الوطنية.
فإذا رأينا صواريخ القسام امتدادا للكلاشنكوف والإر بي جي والحجر. وعندما نفهم المقاومة في غزة كمرحلة في سياق تاريخ ممتد؛ وامتدادا للتجربة الكفاحية الفلسطينية، فإن هذا سيصب في صالح الكفاح الوطني الشامل، وستتعزز بها الوحدة الوطنية. بمعنى أنه إذا ما تمكن الفلسطينيون من استعادة وحدتهم وطي ملف الانقسام، فإنهم يكونون بذلك قد أحبطوا المخطط الإسرائيلي، وهذا هو الانتصار الحقيقي. أما إذا انقشع غبار المعركة عن تكريس لحالة الانقسام، فإن هذا (النصر) سيكون بمثابة انتحار ذاتي غير مسبوق.
بكلمات أخرى، سينقلب هذا النصر الرمزي المشرف إلى نصر غير مشرف في حال تُوِّج بالتوقيع على اتفاق هدنة وتسوية سياسية تؤدي إلى تثبيت الانقسام، وتجعل من حماس رغم انتصارها المشرف حارسة لبنود الهدنة ... ففي هذه الحالة سيكون من غير المقبول لأي مقاوم التفكير بتحرير فلسطين ومقارعة العدو .. لأن ذلك يعني حرفيا خرقا للهدنة وبنودها .. باختصار، نخشى أن يكون اتفاق الهدنة خطوة للوراء في طريق النضال الوطني.

هدنة .. أم وقف لإطلاق النار ،، وتخوفات مشروعة

ثمّـة صلة وثيقة بين حالة المقاومة في غزة، وبين حالة الغضب الشعبي التي تفجرت في مدن ومخيمات الضفة الغربية، كان لهذه الصلة دورا هاما في لجم العدوان، وأيضاً، وإلى جانب هذا الحراك الجماهيري الواسع، ومسيرات التضامن والتأييد التي سارت في كل شوارع فلسطين، وفي مدن العالم وعواصمه، كان للفعل السياسي والنشاط الدبلوماسي في المحافل العربية والدولية دورا كبيرا في إنهاء الحرب، والتوصل إلى تفاهمات وقف إطلاق النار.
هذه المظاهرات والمواجهات التي عمت شوارع الضفة، وعلى نقاط التماس وعند الحواجز وعلى تخوم المستوطنات، فاجأت القيادة الإسرائيلية، وربما أربكتها، وكانت من بين الأسباب التي دفعت القيادة الإسرائيلية لإنهاء الحرب، وقد عبّر "شمعون بيريس" في تصريح متلفز عن صدمته من موقف الرئيس عباس، وأعرب عن استغرابه من أنه نسي ما فعلت به حماس .. كما أعربت قيادات إسرائيلية أخرى عن خشيتها من عودة العمليات التفجيرية داخل المدن الإسرائيلية، بعد عملية تفجير الباص في تل أبيب، والتي نُسبت إلى كتائب شهداء الأقصى. وأيضاً وفي ذات السياق، تفاجأ كثيرون (عربا وفلسطينيين) من حالة النهوض الشعبي والدعوات الواضحة لاستعادة الوحدة الوطنية والصحوة الفتحاوية، التي أسقطت كل الحسابات التي راهنت على استكانة الفلسطينيين، وأن قضيتهم الوطنية تحولت إلى موضوع رواتب.
المهم أن محصلة هذه الحرب أسفرت عن الاتفاق على تفاهمات لوقف إطلاق النار، هذه التفاهمات أسعدت الكثيرين، لأنها ببساطة ستجنب المدنيين ويلات الحرب، لكنها من ناحية أخرى أثارت قلق ومخاوف قطاعات واسعة من الشعب، سيما وأنه يمكن قراءتها على أكثر من وجه؛ وقد تعني للبعض نصرا وللآخرين هزيمة ..
ومن أبرز تلك التخوفات: الخوف من دخول الإخوة في الجهاد الإسلامي لهذه المتاهة من بوابة الهدنة واحترامها؛ فإذا كان الإخوة في حماس لديهم مصالح وحكومة يخشون عليها، فإن حركة الجهاد الإسلامي التي عرفناها حركة مقاومة زاهدة في السلطة، ندخرها دوما كاحتياط إستراتيجي كفاحي في حالة أقدم الجميع على التسوية، ليبقَ على الأقل من يتمسك بالمقاومة، ونخشى أن تقع الجهاد في نفس الفخ الذي وقعت فيه حماس، عندما دخلت عالم السياسة وأصبحت سلطة تخشى على حدود حكمها.
ونخشى أيضا (ونرجو أن نكون مخطئين في خشيتنا) أن دافع حماس للقبول بالهدنة هو حماية المصالح المشتركة التي تربطها مع الجماعة الأم (الإخوان المسلمين)، وهذه الجماعة كما هو معروف تنظيم عالمي، لها مصالح جديدة تبلورت في زمن الربيع العربي وبعد استلام الإخوان الحكم والسلطة في أكثر من بلد، وبالتالي أصبحت بحاجة لدعم الناتو وللرضا الأمريكي، حتى وصل بها الأمر إلى مستوى تشكيل محور جديد (قطر، تركيا، مصر)، وهي دول تتمتع بعلاقات مميزة مع الولايات المتحدة. وقد تطلب هذا من حماس مغادرة المحور السابق الذي كانت تتغنى بمقاومته وممانعته، أي محور (إيران، سورية، حزب الله).
وهذا يفسر فتور تفاعل حزب الله وإيران مع العدوان على غزة، وفتور خطاب السيد حسن نصر الله ولسان حاله يقول: ماذا نفعل مع ناكر الجميل الذي زودناه بالأسلحة والتدريب، ليشكر في النهاية قطر وتركيا !! بالرغم أن قيادات حماس تداركت الأمر فيما بعد، وشكرت إيران على دعمها لها بالمال والسلاح. 
ونخشى أيضا، (ونرجو أن نكون مخطئين في خشيتنا) أن حماس بعد أن خرجت من الحرب مزهوة بنشوة الانتصار، وأصبح لديها معبر بري يربطها بالعالم الخارجي، ودول ستغدق عليها بالأموال (قطر)، مع اعتراف رسمي إسرائيلي بوجودها وسلطتها، ورضا أمريكي .. نخشى أن تكون هذه أسباب إضافية لامتناعها عن إنهاء الانقسام، وإغواء لها لتثبيت دويلة في غزة. أرجو أن أكون مبالغا في تخوفاتي .. وأن تكون ثقتي في محلها بأن حماس ترنو إلى فلسطين، كل فلسطين ... وأنها تسعى نحو وطنيتها، بدلاً من إخوانيتها ... وأنها تفكر كفصيل وطني فلسطيني يضع المصلحة الوطنية في المقام الأول.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق