أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

نوفمبر 22، 2012

الحرب على غزة .. رؤية من زوايا مختلفة (الجزء 1)


في العادة، لا تكشف الدول والجهات المتصارعة عن كامل أهدافها من شن الحرب، ولا عن كامل استراتيجياتها في إدارة الصراع؛ وهناك دوما أهدافاً معلنة وأخرى خفيّة، وأحيانا يكون الخفي من الأهداف أخطر من المعلن.
والحرب العدوانية التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة لا تخرج عن هذا المفهوم، بل أن بعض المحللين يتحدثون عن مخططات إسرائيلية وصفقات مشبوهة عجزت السياسة ع
ن تمريرها، سيتم تمريرها الآن تحت ضجيج الصواريخ، ودوي القصف وحالة الدمار الرهيبة، ومناظر الأشلاء التي تدمي القلب.

وفي هذا المشهد الدامي ثمّـة أسئلة مغيَّبة، لا يطرحها أحد، وإذا طُرحت، فإن الكثيرين لا يودون سماع إجابات. وثمة دلالات رمزية لا تقل أهمية عن الواقع، وأحيانا تحتل مكانه، أو تتقدم عليه، وهناك الكثير من نزعات الإشباع النفسي والرضا عن الذات، والبحث عن إنجازات رمزية تصل إلى حدود الوهم.

حرب اختبارات

إسرائيل هي التي بدأت الحرب، وهي التي اختارت التوقيت والمكان وحددت الأهداف، وبهذا المعنى؛ فإن الحرب تكون قد فُرضت على غزة فرضاً، ولم يكن أمام حماس ومعها بقية قوى المقاومة من خيار سوى قبول التحدي، والدفاع عن النفس. وقد أجمع كثير من المراقبين على أن هدف إسرائيل من الحرب على غزة القيام بجملة من الاختبارات التي على ضوئها ستقيّم النتائج وتستخلص العبر على المستويات الإستراتيجية والتكتيكية؛ من أهمها اختبار كفاءة منظومة الدفاع الصاروخية المضادة للصواريخ، أي ما يُعرف بالقبة الحديدية، وفي نفس الوقت اختبار قدرات الصواريخ الفلسطينية من حيث مدى دقتها والمسافات التي يمكن أن تصلها وقوتها التفجيرية وغير ذلك. وأيضا اختبار جاهزية الجبهة الداخلية (الإسرائيلية) وتدريب السكان بشكل عملي على التعود والتكيف مع أجواء الحرب، وكيفية التصرف (السليم) إذا ما تعرضت مدنهم لقصف صاروخي كبير.

ويمكن إضافة اختبارات أخرى كتدريب الطيّارين الجدد على القيام بطلعات استطلاعية وهجومية في ظروف حرب حقيقية، وصقل مهارات الجيش، والحفاظ على لياقته البدنية، وإدامة أجواء ومفاهيم الحرب في الثقافة الإسرائيلية خاصة للأجيال الجديدة.

هذه الاختبارات ضرورية جدا بالنسبة لدولة عسكرية عدوانية مثل إسرائيل، وتأتي في إطار تطوير وتعزيز قدراتها في حالة قيامها بأي حرب شاملة في المستقبل سواء مع إيران، أو مع غيرها. وإلى جانب هذه الاختبارات تهدف إسرائيل إلى استنـزاف ترسانة الصواريخ الفلسطينية، وتدمير قدرات المقاومة، وتحطيم بنيتها التحتية، واغتيال قادتها، وتدمير إمكانية تجديد وترميم قوات المقاومة في المستقبل، وتأمين الحدود بما يضمن عدم تهريب صواريخ وأية معدات قتالية. أي بعبارة موجزة تأمين الجبهة الجنوبية لإسرائيل، وضمان هدوئها لأمد طويل.

وإضافة لذلك، فإن إسرائيل معنيّة باختبار موقف النظام المصري الجديد، وكذلك اختبار ردات الفعل الجماهيرية في مصر وبقية البلدان العربية في زمن الربيع العربي، وقياس مدى ونوعية الاختلاف بين ردود الأفعال الحالية (الرسمية والشعبية) عنها في الزمن السابق.

أي أن إسرائيل جعلت من غزة ميدان رماية للتدريب بالذخيرة الحيّة؛ لكنه ميدان يقطنه بشر من لحم ودم. ولا أعتقد أن هناك جريمة أبشع وأخس من هذه الجريمة.

ولكن هذه الاختبارات (الحرب) كان يمكن تأجيلها، أو القيام بها في أي وقت آخر، إلا أن إسرائيل اختارت هذا الوقت بالذات لتحقيق هدف إستراتيجي آخر، وهو عرقلة جهود السلطة الوطنية الرامية لانتزاع اعتراف عالمي بدولة فلسطين كعضو مراقب في الأمم المتحدة، والتي ستكلل بزيارة الرئيس عباس لنيويورك في التاسع والعشرين من نوفمبر الحالي. وهذه الإعاقة ستتم من خلال توقيع هدنة واتفاق سياسي بين إسرائيل وحكومة حماس من شأنها تثبيت الانقسام بشكل نهائي، ما يعني أن جهود عباس في هذه الحالة ستكون بلا جدوى. طالما أن جزءً مهما وأساسيا من الدولة التي يطلب الاعتراف بها منفصلة عنها.

والسبب الآخر لاختيار هذا التوقيت، يأتي في سياق الدعاية الانتخابية لأحزاب اليمين الإسرائيلية المتحالفة مع بعضها في هذه الفترة (نتنياهو/ ليبرمان)، والتي تتعزز فرص نجاحها في أجواء الخوف والحرب، والشعور بخطر التهديد الخارجي. وطالما جعلت الأحزاب الإسرائيلية من الدم الفلسطيني مادة للدعاية الانتخابية، وهي جريمة أخرى لا تقل بشاعة، تتورط فيها إسرائيل.

طبيعة هذه الحرب

إذا كانت إسرائيل هي البادئة في الحرب، فإن هذا لا يعني أن بإمكانها إنهائها بالطريقة والوقت الذي تحدده بنفسها، وإذا كانت قد أعلنت عن أهدافها لشن الحرب، فإن حماس هي التي ستحدد مطالبها لإنهائها. علما بأن الطرفين التزما بالأهداف التي أعلن كل طرف عنها بشكل واضح. بالنسبة لإسرائيل: بالإضافة للأهداف التي ذكرنا، فهي ركزت على وقف صواريخ المقاومة من قطاع غزة، ولم يتحدث أي قائد إسرائيلي عن احتلال القطاع، أو إسقاط سلطة حماس. وبالنسبة لحركة حماس فأن ما تريده هو فتح معبر رفح البري بشكل نهائي، وإنهاء الحصار، ووقف العدوان والتوقف عن سياسة الاغتيالات، ولم يطلب أي قائد حمساوي من العرب مددا عسكريا أو سلاحا، ولم يتحدث أحد عن مطالب سياسية لها علاقة بقضايا القدس والمستوطنات والجدار وغيرها. ومهما وصلت الأمور بين الطرفين فإن ذلك يدخل في إطار تحسين الوضع العسكري لتحسين شروط التهدئة فقط.

هذا يعني أن العلاقة الضمنية والملتبسة (الحالية) بين حكومة حماس وإسرائيل بصيغتها الراهنة لم تعد مجدية، وباتت غير مقبولة للطرفين؛ بمعنى أن إسرائيل تريد من هذه الحرب إعادة صياغة علاقتها مع قطاع غزة، على أسس جديدة ومختلفة، وأن حماس أيضا تسعى لذات الهدف، ولكن كل طرف من وجهة نظره الخاصة، وبما يخدم أهدافه ويضمن مصالحه، ولكن على أن تكون هذه العلاقة موثقة وبضمانات عربية ودولية.

وللتوضيح، يمكن إجراء مقاربة سريعة بين الحرب الحالية على غزة والحرب السابقة (2008-2009)؛ حيث بدأت إسرائيل الحرب السابقة بغارات جوية مكثفة على مجموعة من الأهداف الحيوية والهامة بالنسبة لسلطة حماس (مقار الشرطة, السرايا, المباني الحكومية), بما يشبه الضربة المباغتة على الرأس, وأتبعتها بهجوم بري، أيضا اغتالت قيادات سياسية (سعيد صيام، نزار ريان)، وهي قيادات لا علاقة لها بكتائب القسام .. فبدا وكأن إسرائيل تهدف إلى إضعاف حكومة حماس، أو إسقاطها؛ فكان الهم الرئيسي للحركة آنذاك الحفاظ على قواتها وتماسك حكومتها, لذلك كانت حريصة على عدم الزج بقواتها العسكرية (كتائب القسام) في المواجهات, ولم تدفع بها للميدان، بل ادخرتها لمواجهة تداعيات الحرب التي كان من الممكن أن تؤدي إلى إسقاط سلطتها. بينما في الحرب الحالية بدأت إسرائيل باغتيال أحمد الجعبري (قائد كتائب القسام)، ولم تعمد إلى اغتيال قيادات سياسية، لأنها هذه المرة كان واضحا أنها لا تريد إسقاط حكم حماس، بل تريد تأكيد نتائج وأهداف حربها الأولى، وهي القضاء على قوتها العسكرية الضاربة، بمعنى أنها تريد حكومة حمساوية ولكن بلا مخالب؛ أي تريد سلطة مدنية مسالمة في غزة, تضمن بقاء الجبهة الجنوبية هادئة ومستقرة، وبالشكل الذي يكرس الانقسام، وهذا هو لب الموضوع.

ولكن هذا لا يعني نجاح المخطط الإسرائيلي بالضرورة؛ فعلى سبيل المثال قام الجيش الإسرائيلي باجتياح لبنان عام 1982 بما أسماه عملية "سلامة الجليل"، ولكن بدلا من تأمين سلامة الجليل جاء حزب الله إلى الجنوب وخاض حربا طويلة أدت في نهاية المطاف إلى هزيمة إسرائيل في جنوب لبنان. وأيضاً، فأن عملية "الرصاص المصبوب" للقضاء على التهديد الصاروخي من غزة في شتاء العام 2009، لم تقض عليه؛ بل مكّنت حماس وبقية قوى المقاومة من تطوير صواريخ أبعد مدى وأكثر فاعلية.

وفيما يتعلق بتكريس الانقسام وتجزئة الوطن وتثبيت دويلة في غزة، (أي القضاء على حلم دولة فلسطينية) فإن إسرائيل لا يمكن لها أن تنجح في هذا المخطط إلا إذا لاقت تجاوبا من حماس، وفي هذه الحرب لاحظنا أن جميع القيادات الحمساوية كانت تؤكد على تحقيق الوحدة الوطنية وإنهاء الانقسام، وتظهر حسا عاليا بالمسؤولية، وحرصا على إنجاح خطوة الرئيس عباس في الأمم المتحدة.

الموقف المصري .. هل من جديد ؟

تباينت وجهات النظر بشأن موقف النظام المصري الجديد؛ فالبعض رأى أن سحب السفير المصري من تل أبيب، وطرد السفير الإسرائيلي من القاهرة، وعبارات التهديد في خطاب الرئيس مرسي، وزيارة رئيس الوزراء وأيضا زيارات الوفود الشعبية والرسمية الأخرى إلى القطاع، إلى جانب فتح معبر رفح وتقديم المساعدات الإغاثية والطبية .. على أنها تطور نوعي ومهم، وأنه أفضل بكثير من مواقف النظام السابق. فيما رأى آخرون أنها خطوات غير كافية، وأنه كان يجب اتخاذ مواقف أكثر حزما وقوة، مثل إعلان إنهاء الحصار نهائيا، منع البوارج الإسرائيلية من استخدام قناة السويس، إلغاء كامب ديفيد، وقطع العلاقات الدبلوماسية كليا، والبعض طالب مصر بإعلان الحرب الشاملة على إسرائيل.

على أية حال لسنا هنا بصدد إجراء مقاربات بين مواقف النظام المصري قبل وبعد الثورة – رغم أهمية ذلك – وما يعنينا هنا (وهو ما يهم إسرائيل كذلك) هو قياس مدى فعالية الموقف المصري وقدرته على إنهاء العدوان فورا، ومنع إسرائيل من الإقدام على هجمات عسكرية على القطاع في المستقبل، وإلى أي مدى يمكن لمصر أن تصل في مواقفها ؟ وهل هناك ترجمة حقيقية ومؤثرة لاعتبار مصر قطاع غزة جزء أساسي ومهم من الأمن القومي المصري ؟!

على ما يبدو، أن الموقف المصري الجديد – رغم تطوره النوعي – لم يرقَ إلى مستوى الطموح، ولم يشكل أداة ضغط قوية قادرة على لجم العدوان، ولن يشكل أداة ردع لإسرائيل في المستقبل، وهذا ما ستضعه إسرائيل في حساباتها الإستراتيجية، لكنها لن تغفل (ونحن أيضا يجب أن لا نغفل) عن حقيقة أن مصر بإمكانها أن تطور مواقفها وتجعلها أكثر تأثيرا، بعد أن تستقر الأمور على جبهتها الداخلية، وتستعيد عافيتها وثقلها وقدراتها، وتنهض من جديد، لممارسة دورها القومي، كما هو مأمول؛ وهو أمر لا يبدو أنه سيتحقق خلال السنوات القليلة القادمة.

لكن الموقف المصري الذي فاجأ كثيرين، هو لعبها دور الوسيط بين حماس وإسرائيل، مع استبعاد لدور السلطة الوطنية أو منظمة التحرير، ما أثار مخاوف قيادات السلطة أن تفضي هذه المباحثات إلى اتفاق سياسي وهدنة طويلة الأمد تؤدي إلى تكريس الانقسام، وفصل القطاع وإلقاءه في حضن مصر. وهذا أكبر خطر يمكن أن يلحق بالكيانية الفلسطينية، وبالقضية الفلسطينية، وهناك ما يشير إلى قيام محور (قطري تركي مصري) ضاغط على قوى المقاومة للقبول بشروط إسرائيل لفرض التهدئة، وتجريدها من ترسانتها الصاروخية، وإحكام السيطرة على الحدود بما يضمن عدم تهريب أسلحة وصواريخ في المستقبل، وهذا بضمانات مصرية سياسية ستقع على عاتق الحكومة. ولا يخفى على أحد طبيعة العلاقات المميزة التي تربط دول هذا المحور مع الولايات المتحدة، خاصة وأن رعاية المباحثات مع قوى المقاومة كانت تتم بحضور قيادات مخابرات هذه الدول، وأنها تُوجت برعاية أمريكية مباشرة، حيث حضرت هيلاري كلنتون شخصيا للإشراف على وضع اللمسات الأخيرة للتفاهمات التي تم بموجبها الإعلان عن وقف إطلاق النار. وفي نفس السياق فقد أبدت قطر استعدادها لتمويل إعادة إعمار القطاع، فيما تجهزت الشركات التركية للقيام بعمليات الإعمار، كما لو أن هذه الدول جاءت لتتآمر على غزة، وتتقاسم غنائمها، بدلا من دعمها.

وهكذا، وبعد سبعة أيام ونصف من العدوان المتواصل، والقصف المكثف، والتراشق الصاروخي "المتبادل"، توصلت قوى المقاومة وإسرائيل برعاية مصرية إلى إبرام تفاهمات، تنص على وقف إطلاق النار. ومع سعادتنا الغامرة بتوقف المجازر الوحشية بحق الأطفال والمدنيين في غزة؛ إلا أنه يتوجب علينا إدراك أن هذا الاتفاق الذي وقعته حماس والجهاد الإسلامي، وضمنت تطبيقه مصر، وباركته الولايات المتحدة، يعني أن كافة أعمال المقاومة (عمليات عسكرية، صواريخ، إطلاق نار .. ) ستتوقف تماما، وسيناط بحكومة حماس وأذرعها العسكرية مهمة تأمين التزام الكل بالتهدئة، وهذا الوضع وإن كان قائما بحكم الأمر الواقع منذ سنوات عدة، فإنه الآن قد تم توثيقه رسميا، وسيأخذ الصفة القانونية، وستحرس حماس الحدود بكل جدية.

وهذا يعني أن حماس، وأيضا مصر (الإخوانية) قد دخلتا مرحلة جديدة مختلفة كليا في فهمهما للصراع، وهذا بحد ذاته يعتبر تغير أيديولوجي عميق. أو على الأقل الإعلان عن تحول كانت ملامحه واضحة منذ زمن.
وإذا توقف الأمر عند اتفاق تهدئة، فليس لنا اعتراض، أما أن تتحول التهدئة إلى هدنة، واتفاق سياسي يضمن إنهاء الصراع قبل حصول الشعب الفلسطيني على أبسط حقوقه الشرعية، فهذا لا يمكن القبول به بأي شكل. لأن هذا يعني أن الحرب شُنت من أجل فرض هدنة استراتيجية مع حماس، تؤدي إلى ترسيم حدود نهائية بين غزة وإسرائيل، وتضمن التزام حماس بوقف كافة أشكال المقاومة منها ومن قبل أي طرف فلسطيني آخر، مقابل فتح معبر رفح بشكل كامل لتصبح الحدود المصرية مع غزة حدود دولية مع تعهد إسرائيلي بوقف الاجتياحات، ودون هذا الالتزام الواضح من حماس لن تستطيع الحكومة الإسرائيلية تمرير إهانة قصف تل أبيب والقدس بصواريخ فلسطينية.

ولكنا نظل على ثقة كبيرة بأن قيادات حماس لن تنجر إلى هذا المخطط المشبوه، ولن تقع في هذا الشرك، وقد سمعنا من كافة قياداتها تصريحات مسؤولة تنم عن حرص وطني صادق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق