أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

نوفمبر 18، 2012

سـلام هيلانة



أخيراً، نام سلامُ ليلته الأخير في ثلاجة الموتى .. في الصباح جئنا لنلقي عليه نظرة الوداع، قال لنا الطبيب: إذا كنتم تحبونه فعلاً، وتودون أن يبقى وسيما في ذاكرتكم .. أرجوكم لا تكشفوا عن وجهه .. قلنا: لمَ تمنعنا عنه ؟ قال: أفرغ الجنود مخزنا كاملا من الرصاص في وجهه من المسافة صفر، ثم مثّلوا به .. ولكم أن تتخيلوا المشهد .. قلت: هل بمقدور أي بشري أن يحمل في صدره كل هذا الحقد ؟! قيل: لأن "سلام" كان كابوسا للاحتلال ..
في تلك الثلاجة اللئيمة، وقبل أن نهيئ الشهداء الثلاثة (سلام، ناصر، محمد) لجنازاتهم، جاء الوالد المكلوم، يصرخ بصوت متحشرج حانق: انهض يا ناصر، لماذا قبلت بالموت ؟ ما زال قلبك يافعا وروحك غضة ؟؟ لو سمعت كلامي وبقيت قرب طفلك ؟؟ آه يا ناصر .. قتلوك أخيرا ..  كان يكلم ابنه كما لو أنه حياً، ظل يهز جسده ويبكي .. إلى أن جفَّ حلقه وخفت صوته .. صار غضبه حزنا كسيرا .. لم يقترب منه أحد .. كنا جميعا نراقب المشهد بصمت، وقد أصابنا الذهول .. وحدها الدموع التي كانت تنزف بغزارة .. أخيرا عانق ابنه بقوة، ثم قبّله من خديه وأسند ظهره برفق .. وسار بطيئا لا يعرف أين يتجه ..
قبل أسبوع من استشهاده، التقيته في جنازة أبو عمار، قال لي "سلام" حينها: "صحيح إنه في بينا ثار كبير وقديم، بس هالمرة غير عن كل مرة" .. وكان في ذهنه أشياء كثيرة لم أدركها آنذاك .. فقد بات على قناعة بأن "المقاطعة" لم تعد ملاذاً آمناً للمطارَدين بعد رحيل أبو عمار؛ فبدأ بتأمين مساكن جديدة لهم، ينقلهم بسيارته فرادى .. وفي المرة الأخيرة .. باغتته وحدة المستعربين في شارع يافا برام الله، بعيدا عن منزله بما لا يزيد عن عشرة دقائق.
بعد رحيله بعام، طلب مني صحافي أجنبي أن أعطيه قصة واقعية تختصر الحالة الفلسطينية؛ أخذته إلى بيت "سلام هيلانه" في قرية "عين عريك"، كانت أخته قد فرغت للتو من كيّ قميصه الأرجواني، وأمه تحمل بيدها غلاية القهوة، وأباه يحمل صورته ويضعها فوق تابلو السيارة وهم في طريقهم لزيارته .. قلت له: من بيته تبدأ القصة، وعند قبره تنتهي، وبينهما ستجد كل الرموز والدلالات الفلسطينية مكثفة واضحة، ولا تقبل إلا تفسيرا واحدا.
أسماه ابن عمه - الذي استشهد فيما بعد - "سلام"، لأنه وُلد في يوم المحبة والسلام، في عيد الميلاد المجيد، عاش مناضلا من أجل السلام، لكنه ظل مقاتلا صلبا، اعتقل مرات كثيرة، ونزف من أيامه سنوات عديدة في عتمة الزنازين، وظل رغم ذلك حرا .. كانت الوحدة الوطنية هاجسه الأكبر، لا يعرف أصدقائه أنه مسيحي إلا بعد مرور الوقت، وبالصدفة. كان يعمل بصمت؛ لم يعرف أقرب الناس إليه أنه مثّل حلقة الوصل بين كتائب شهداء الأقصى والقيادة السياسية لحركة فتح إلا بعد استشهاده، كما لم يعرف أحد علاقته بعشرات العمليات الفدائية لكتائب الأقصى، وأشهرها عملية "عين عريك" إلا بعد رحيله .. لم يكن مجرد سطر في الرواية الفلسطينية، بل كان سِفرا كاملا .. عطاؤه كالسنبلة، حياته أشبه بالخرافة .. أما دمه فقد كان الحقيقة المطلقة.
في جنازته سار الآلاف، عند مدخل الكنيسة كانوا يهتفون: "لا إله إلا الله، والشهيد حبيب الله"، وبعد قدّاسه المهيب، تناولنا الغداء في مسجد القرية، وما أن غادرنا المقبرة، حتى انهمل المطر غزيرا .. وبعد شهرين زرت قبره .. كانت رائحة التراب وبقايا المطر تعبق بالمكان .. وبعض أزهار الحنون التي نمت حديثا تحف بالقبر .. ناديته بصوت مكتوم: لـمَ أنت نائم لوحدك في البرد ؟؟ ألا تعلم أن أمك مشتاقة لك، وأنها منذ غبت عنها لم تعد تعرف النوم !!
لم يجب سلام .. ظل صامتا .. مشغولا بشهادته ..

سلام إلى سلام .. في ذكراه الثامنة .. سلام إليه إلى أبد الآبدين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق