لا شيء يؤثر على الأب أكثر من ابنته الصغيرة:
طلباتها، دموعها، ضحكتها، ترقبها له عند مدخل البيت وعيونها على ما يحمل في يديه
..
عبير .. طفلة مشاكسة، ستكمل عامها السادس بعد شهرين، ولكنها بحاجة عاجلة لحقيبة
مدرسية، لأن غدا سيكون أول يوم لها في المدرسة، اشترت لها أمها الدفاتر والأقلام
من بقالة أبو محمد التي تبيع كل شيء إلا الحقائب .. عبير لها ألف طريق إلى قلب
والديها، ونادرا ما يُرفض لها طلب، لذا قرر أبوها أن يخترق الحصار الذي يفرضه جيش
الاحتلال على القرية، وأن يتوجه عبر الجبال إلى نابلس.
كانت حقول الزيتون في الجهة
الغربية من بورين هي المنفذ الوحيد الذي يمكن أن يوصله هناك، فسلك الطريق الوعر
منذ الصباح الباكر، وبصعوبة بالغة استطاع الوصول .. اشترى حقيبة زهرية اللون،
تزينها صورة الأميرات الثلاث، وعلبة ألوان خشبية، ومطرة ماء، علم من الناس أن
الجيش زاد من تشديده إغلاق كل المنافذ والطرق، وحتى الطرق الالتفافية والممرات
الجبلية، فقرر أن يمضي سحابة اليوم على المقهى، وفي زيارة بعض الأصدقاء إلى أن
يهبط الليل؛ ليعود تحت جنح الظلام.
في المساء عاد من نفس الطريق، كان وحيدا، خائفا،
يتنقل بين الأشجار على مهل، من بعيد لمح بضعة جنود يكمنون بانتظار صيد ما، كان
يسمعهم يتجادلون وأحيانا يضحكون بصوت مرتفع، ظل مكانه ينتظر رحيلهم، قبل أن ينتصف
الليل بقليل لم يعد يسمع شيئا، ساد صمت ثقيل، انتظر بعض الوقت ثم انطلق من مخبئه،
مشى بضعة خطوات فقط قبل أن يسمع رشق رصاصات مزق صوتها السكون، إحداها استقرت في
خاصرته اليمنى، في البداية كانت تشبه اللسعة، غطى الجرح بكفه، وانبطح أرضا، وسرعان
ما اشتد به الألم، لكنه كتم صرخاته، وظل جرحه ينـزف بغزارة، وقواه تخور، وحرارته
تنخفض .. أحس بخوف شديد، احتضن الحقيبة بقوة، حاول أن يبعدها عن مجرى الدم، لتظل
نظيفة زهرية، شعر بدوار خفيف ثم أغمض عينيه على صورة عبير وهي تسأله بلهفة: ما
الذي أخّرك يا بابا .. نحن بانتظارك .. نحن قلقون ..
في الصباح كان الأهالي يتناقلون خبر العثور على جثة
رجل مجهول يحضن حقيبة أطفال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق