قبل مدة انتشرت على صفحات الفيسبوك صورة لرئيس
الوزراء المقال "إسماعيل هنية" وهو ينحني مقبّلاً يد الشيخ "يوسف
القرضاوي". ولتبرير تلك الصورة، قال أنصار هنية أن تقبيل الأيدي نوع من
الاحترام والتوقير لرجل دين وعالم كبير !! بينما قال المعارضون أن "القرضاوي"
ليس مجرد رجل دين، بل هو رجل سياسة، فهو منظّر الإخوان المسلمين، ومفتي حلف
الناتو، وخطيب الدوحة، ونصير النظام القطري، وهي أدوار سياسية يؤديها القرضاوي بكل
براعة، وبالتالي فإن الصورة تحمل دلالات أخرى غير التوقير والتبجيل، لعل أهمها الإعلان
عن تبعية حكومة حماس للمرشد الأعلى للإخوان المسلمين (أو لقطر).
لم يتوقف الأمر عند تلك الصورة، فقد ظهرت صورة أخرى
لهنية وهو يقف كتلميذ مؤدب في حضرة أمير قطر، وفي عينيه علامات الانتظار والخضوع
بابتسامة مصطنعة، بينما كان الأمير جالساً باسترخاء واضح، وقد فسّر الفاهمون بلغة
الجسد تعابير وجه هنية على أنها تعبير عن الخضوع والتبعية.
وحتى لا يكون حديثنا محاكمة للنوايا، ولا تفسيرات
غير مؤكدة للغة الجسد؛ تعالوا لنفهم معاً كيفية استقبال هنية لأمير قطر على أرض
غزة ظهيرة هذا اليوم؛ إذْ لم يكتفي هنية بإظهار فرحته الغامرة باستقبال الأمير بابتسامته
العريضة؛ بل جلَب معه طابورا من المبتسمين .. لا يهمني من الطابور الوزراء
والشخصيات الرسمية وقادة العمل السياسي، ولا حتى الفضوليون من عامة الناس؛ بل
يهمني بعض قيادات الفصائل، أي أولئك المحسوبين على المقاومة والممانعة .. الذين من
المفترض أنهم فدائيون .. يفرضون احترامهم على العدو قبل الصديق، ويحيرون العالم
بتحركاتهم، وسكناتهم وتصريحاتهم .. لكنهم بدلا من ذلك، كانوا اليوم شيئا آخر .. شيئا
مختلفا عن طبيعتهم؛ فبعد أن كانوا فرسانا في الميدان، يردون عن العدو هجماته، تمكّن
هنية من جلبهم إلى حضرة الأمير حمد، للإعلان عن إخضاعهم، وتثبيت أفضل وأمتن تهدئة
عرفتها الأراضي الفلسطينية.
وحتى لا نصنَّف مع المزاودين، أو العدميين؛ نؤكد
أننا لسنا ضد الزيارة من حيث المبدأ، ولا نقول أنه يحرم على الفدائي أن يكون
دبلوماسيا، وأنه على المقاتل أن يظل في خندقه متجهما عابسا .. فهذا طرح سخيف، إلا
أن الزيارة بشكلها ومضامينها تثير العديد من الأسئلة المهمة:
يقول هنية أن أمير قطر كسَر الحصار الظالم على
القطاع، وأن هذا لم يكن ممكنا لولا الربيع العربي !! حسنا، لكن مثل هذه الزيارة
وحتى لو كانت الأولى لمسؤول عربي لا يمكن لها أن تنهي الحصار، لأن الحصار مفروض
على الناس لا على زيارات شخصيات تأخذ تصريحا مسبقا من إسرائيل، وإذا كانت من نتاج
الربيع العرب؛ فإنه من الأولى أن تكون لرئيس مصر، أو تونس .. فهما من جاءا
بانتخابات شعبية فرضها الربيع العربي، وهما رئيسان إسلاميان تربطهما بحماس علاقات
قوية.
وفي كلمته في خانيونس، أخذ هنية يعدد المشاريع
القطرية المزمع إنشاؤها في القطاع، ويذكر تكاليفها بالأرقام .. وهذا يذكرنا بنفس
الموقف حين عاد هنية من زيارته الأولى لطهران عقب توليه رئاسة أول حكومة حمساوية،
حيث وقف يخاطب الجماهير ويعدد المشاريع التي ستقيمها طهران، والتي تجاوزت حسب
تصريحاته آنذاك المائة مليون دولار .. وإذا كانت إيران قد أخفقت أو امتنعت عن
الوفاء بوعودها، فإننا لا نعلم إذا كانت قطر ستنفذ ما تعد به غصبا عن إسرائيل، أم
بموافقتها، بمعنى هل ستُدخل الإسمنت والحديد والأخشاب بالطائرات الحربية القطرية ؟
أم ستدخلها بالتنسيق مع إسرائيل ؟
وإذا كان هنية فرحا بالمشاريع القطرية إلى هذه
الدرجة، فلماذا لم يرحب بنفس الحفاوة بخطة إعادة إعمار غزة، التي دعت إليها الدول
المانحة في مؤتمر شرم الشيخ الذي عُقد بعد انتهاء الحرب العدوانية على غزة في شتاء
2009 ؟؟ وللتذكير فقد رصدت الدول المانحة نحو خمسة مليارات دولار لإعادة إعمار ما
دمرته الحرب. لكن حماس أصرت حينها أن يتم تنفيذ المشاريع برعايتها وتحت إشرافها،
وقد تنازلت السلطة عن حقها في ذلك حتى لا تتعطل عمليات الإعمار، ووافقت أن يكون
التنفيذ مباشرة من قبل الدول المانحة نفسها، وبمراقبة ومعرفة جامعة الدول العربية،
لكن رفْض إسرائيل إدخال مواد البناء حال دون ذلك.
وفي مؤتمر "أنابوليس" الذي عقد في العام
2007 حصلت السلطة الفلسطينية على وعود بدعم مالي بلغ سبعة مليارات دولار، خُصص 40%
من المبلغ لصالح مشاريع في غزة، لكن إسرائيل رفضت السماح بالبدء بتشغيل هذه
المشاريع، وبالتالي لم تدفع تلك الدول ما وعدت به.
اليوم في الزيارة المهمة لأمير قطر، تم التوقيع على
مشاريع تبلغ قيمتها 400 مليون دولار .. فإما أنها مجرد وعود كغيرها، أو أن قطر
واثقة من قدرتها على تنفيذها، وفي هذه الحالة، يعني بكل وضوح أن قطر حصلت على موافقة
إسرائيل وأمريكا، وبالتالي، فإن السؤال المنطقي بماذا تختلف مشاريع قطر عن غيرها
؟؟ وما الذي يجعل إسرائيل موافقة على إعادة الإعمار هذه المرة ؟؟ ألا يعني ذلك أن
هذه المشاريع البنائية مجرد غطاء لمشروع سياسي أكبر وأهم ؟! خاصة وأن قطر لعبت
أدوارا سياسية خطيرة في ليبيا وسورية، وغيرهما، في إطار ما يسمى بالربيع العربي ..
في الحقيقة لا بد من شكر قطر على كل دولار دفعته،
ولكن إذا اعتبر البعض أن 400 مليون دولار هو مبلغ ضخم، فهو مجرد فتات بالنسبة
لدولة غنية مثل قطر، ومن ناحية ثانية فإن السلطة الوطنية (التي ما زال هنية يتهمها
بالعمالة لأمريكا) قد دفعت لغزة من موازنتها خلال السنوات الخمسة الماضية أضعاف
هذا المبلغ، على شكل نفقات مباشرة، ورواتب موظفين (لا يعملون) وفواتير كهرباء
ووقود وغيرها. ولولا ذلك لانفجرت القنبلة الاجتماعية ومشاكل البطالة في وجه حكومة
هنية.
اليوم، كالَ هنيّــةُ على ضيفه عبارات الشكر
والمديح والتفخيم ما يتجاوز الأعراف البروتوكولية، حتى اعتقدنا لوهلة أن حمد بن
خليفة صار نصير المظلومين، وكاسر الحصار، وجالب النصر العظيم .. وكدنا أن ننسى أن
هذا الأمير قد بدأ حياته السياسية بانقلاب على أبيه، وأنه جعل من بلاده محمية
أمريكية، ومن موانئها تمخر البوارج الحربية، ومن قواعدها تنطلق الطائرات المقاتلة،
لتقصف بغداد والفالوجة !! وأنه في حرب تموز على لبنان (2006) زار رئيس وزرائه
"حمد بن جاسم" تل أبيب، ومنها انطلق بطائرته للمشاركة في القمة العربية
في بيروت !! وأن الطائرات الإسرائيلية التي قصفت غزة بالفسفور الأبيض كانت تأخذ
حمولتها من القنابل من القواعد الأميركية في قطر !! يعني أن أبناء الشهداء الذين
صافحهم اليوم كان قرار قتلهم قد تم في قطر. هل يريد السيد هنية منا أن ننسى كل
ذلك، وأن نعتبر أمير قطر بطل المقاومة ؟!
لا نقول هذا الكلام للتقليل من شأن الزيارة، ولا
مناكفة لحماس .. بل لفهم طبيعة الدور الذي تؤديه قطر، وللتذكير بأن ما يقوم به
أمير قطر لا يمكن عزله عن سياقاته التاريخية والسياسية، وأنه لا يقدم على خطوة مثل
هذه ما لم تكن جزء من مخطط أكبر تم إعداده في واشنطن وتل أبيب، وأنها ليست مجرد زيارة
بريئة، رغم المحاولات المكشوفة لإضفاء الصبغة الإنسانية عليها.
ولكن لنقفز عن ذاكرتنا الوطنية، وننسى كل ما سبق،
ومع ذلك، نسأل: لماذا كل الدعم القطري لغزة ؟؟ ألا تستحق القدس جزءً من هذا الدعم
؟! لماذا لم يخصص جزء منها لمشاريع في الضفة الغربية ؟ أليست هي أيضا تحت الاحتلال
؟ لماذا لا تسمح حكومة قطر لشباب غزة بالعمل في قطر ؟؟ وهل الإعلان عن مشاريع بهذا
الحجم يتطلب زيارة أمير البلاد ؟ ألا يكفي
مثلا إرسال إداريين وفنيين لغزة للوقوف على التفاصيل ؟ ألا يدل هذا أن الزيارة
تحمل أبعادا سياسية ؟
صحيح أن قطر رعت اتفاق المصالحة بين فتح وحماس،
والذي عُرف باتفاق الدوحة، وهذا جهد مشكور، ولكن ألا يثير توقيت الزيارة التساؤلات
والشكوك، خاصة بعد أن استنفذت كل وسائل تحقيق المصالحة الوطنية، وتعثرت جهود تشكيل
حكومة وحدة وطنية، سيّما بعد أن تمكن التيار المتشدد في حماس من إقصاء خالد مشعل،
الذي كان مصرا على إنهاء الانقسام !!
كثير من المراقبين اعتبروا أن الزيارة لا تكرس الانقسام
وحسب، بل هي إيذاناً بتثبيت الانفصال، والاعتراف بدويلة الأمر الواقع في غزة، رغم
كل عبارات الإشادة بالوحدة والدعوة لإنهاء الانقسام؛ فإذا كانت حماس تريد ذلك
فعلا، فلا أسهل من السماح بإجراء الانتخابات، وينتهي الانقسام للأبد، ولو كانت قطر
حريصة على الوحدة، لأخذت الزيارة شكلا ومضمونا آخر.
ولمعرفة الأسباب غير المعلنة للزيارة، والأهداف
القطرية بعيدة المدى، وبالربط بينها وبين الدور الذي تلعبه قطر في المنطقة، سنجد
أنه ولذات الأسباب، ونفس
المصالح التي التقت بين قطر ودول الناتو في الحرب على ليبيا، وبعد أن انتقل الصراع
إلى منطقة حيوية أخرى، هي سوريا، توطدت المصالح والعلاقات بين قطر وحلف الناتو
أكثر، لأن الصراع في سوريا سيزيد من أهمية هذه الشراكة إذا ما عرفنا أن قطر
(الدولة الثانية على مستوى العالم في إنتاج الغاز) بصدد تنفيذ مشاريع مد أنابيب
غاز عبر الأراضي السورية، الأمر الذي يتطلب إسقاط الدولة السورية.
وبعد
اكتشاف حقول الغاز قبالة شواطئ غزة، وحقول أخرى قبالة شواطئ حيفا وبالقرب من
الحدود اللبنانية، وبالنظر لمصالح قطر على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، صار ضروريا
لها فتح قنصلية قطرية في قطاع غزة، ومشاركتها لحركة حماس في إعادة إعمارها،
واستثمار حقول الغاز في المياه الإقليمية الفلسطينية، واستملاكها لمقدرات الشعب
الفلسطيني في القطاع أسواقا واستثمارات ومرافق حُكم. إضافة للدخول مع إسرائيل كشريك
(غير معلَن) في استخراج الغاز المسال من حقل حيفا، وصولا - من خلال هذه الشراكة - إلى
احتكار قطري/ إسرائيلي لبقية حقول الغاز على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، وخاصة شواطئ
فلسطين ولبنان التي يصعب العمل فيها دون موافقة دولة الاحتلال الإسرائيلي.
على هنية أن يعي الأبعاد الاستراتيجية لزيارة
أمير قطر، وأن يكف عن حمل صور وأعلام الدول الأخرى، فقبل أيام رفع صورة الرئيس المصري،
واليوم يرفع صور الأمير القطري وينشد له الأناشيد، ولا نعلم غدا صور من سيرفع !! ويد
من سيقبل ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق