أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

سبتمبر 10، 2012

محاولة لفهم ما يجري الآن في فلسطين - عن الربيع الفلسطيني


لأول مرة في فلسطين تخرج مظاهرات شعبية بهذا الحجم ولا تكون موجهة ضد الاحتلال، إذْ اندلعت الاحتجاجات الجماهيرية هذه المرة لدوافع وأهداف اقتصادية، وهذا له دلالات كثيرة، لعل أبرزها أن الأوضاع الاقتصادية والظروف المعيشية لم تعد تُحتمل؛ ففي السابق مرت على الفلسطينيين ظروف قاسية وصعبة، وربما كانت أشد وطأة من الظروف الحالية، ولكنهم كانوا يتعالون على جراحهم، ويتناسون سوء أوضاعهم الحياتية، أو يتكيّفون معها، ويقدّمون النضال ضد الاحتلال على أي شيء آخر. بل أن هذا النضال بحد ذاته كان يمنحهم قوة وقدرة على مواجهة الصعاب، واجتراح الحلول الذكية لتحسين ظروف معاشهم، وقد حققوا في هذا الاتجاه نجاحات مذهلة.
موجة الغلاء الحالية ربما هي الأعلى، وما زاد من تأثيراتها سوءاً هو ترافقها مع أزمة مالية شديدة ومتصاعدة تعاني منها السلطة منذ سنتين، وأنها جاءت في موسم الأعياد وافتتاح المدارس وفي وقت انقطاع الرواتب، وتراجع قيمة الشيكل، الأمر الذي شكّل ضغطا إضافيا على كاهل المواطنين، لدرجة أن البعض لم يقوى على تحمله، فظهرت حالات انتحار، ومحاولات شبان لحرق أنفسهم أمام الملأ، وحتى وإن كان بعضهم غير جاد في ذلك، وأنه يقوم بعملية مسرحية القصد منها لفت الانتباه، إلا أن مثل هذه الحالات لم يكن ممكنا لها أن تظهر لولا توفر الظروف القاهرة والسلبية التي أوصلتهم حد اليأس.
ولمواجهة هذه الأزمات المتلاحقة، ولا سيما معالجة موضوع ارتفاع الأسعار، وجدت السلطة الفلسطينية نفسها أمام خيارات محدودة وصعبة، وجميع المقترحات المقدمة والقابلة للتنفيذ لا يمكن لها أن تحل المشكلة، بل أن أكثر ما يمكن لها أن تعمله هو إدارة هذه الأزمة على أحسن وجه، بالشكل الذي يمنع تفاقمها أولا، ثم يسهم في الحد من الخسارة، ويسعى للتخفيف عن المواطنين قدر الإمكان، ومع ذلك لم يبدأ المواطن بتلمس نتائج أي من تلك المقترحات، وفيما يبدو أن نسبة لا بأس بها من المواطنين فقدت ثقتها بالحكومة، ولم تعد تصدق ادعاءاتها  أنها بصدد اتخاذ حزمة من الإجراءات، وأنها تعكف على دراسة حل للمشكلة، وأن الوضع سيتحسن.
وطالما أن العالم بأسره يمر بأزمات مماثلة؛ حتى أن دولاً صناعية كبرى باتت تئن تحت وطأة الغلاء والبطالة والركود الاقتصادي، وتطلب مساعدة دول أخرى أقوى منها اقتصاديا، فإن نداءات الاستغاثة لن تجدي نفعا، فإذا كان ثمة أسباب خارجية أدت لتفاقم الأوضاع، فإن الحلول لا بد أن تكون ذاتية، وأن تأتي هذه المرة من الداخل.
وفي الاجتماع الذي ضم كبار تجار الجملة والمستوردين والفعاليات الاقتصادية المختلفة مع وزير الاقتصاد الوطني، أجمع الحضور على أن هناك بالفعل ارتفاع في أسعار السلع في الأسواق العالمية، وأن هذا الارتفاع الذي تزايد في الأسابيع الأخيرة هو السبب الرئيسي في موجة الغلاء التي نشهدها حاليا. وإذ يؤكد خبراء اقتصاديون أن أزمة الغلاء في فلسطين هي جزء بسيط من المشكلة العالمية، وأنها انعكاسا لها، لكن هذا الانعكاس كانت تأثيراته أعمق وأخطر من بقية دول المنطقة، وذلك لأن فلسطين يُضاف إليها إلى جانب الغلاء وشح الموارد وعجز الموازنة عاملين آخرين تنفرد بهما هما: خضوعها للاحتلال الخارجي من جهة، وللانقسام الداخلي من جهة ثانية.
وفي اجتماع مجلس الوزراء المخصص لمناقشة ورقة العمل التي أعدتها وزارة الاقتصاد، كان هناك ما يشبه الاتفاق على أن إمكانيات السلطة في الظرف الراهن لا تسمح بتحقيقها كلها، وإذا كان بعضها قابل للتنفيذ، فإن البعض الآخر يحتاج مدة طويلة، شريطة أن يحدث اختراق في الملف السياسي، وأن ما يقيّد تلك الإجراءات ويمنع تنفيذ بعضها أمران: الاحتلال الإسرائيلي بالدرجة الأولى، و"بروتوكول باريس"، وضعف إمكانات السلطة والضائقة المالية التي تمر بها في الدرجة الثانية.
ومن ناحية أخرى اتفق المجلس على أن مقترح دعم السلع الأساسية غير ممكن، لأسباب اقتصادية اختبرتها دول كثيرة، بما فيها دول غنية، وأنه خيار ثبت فشله، حيث أن الأموال المخصصة للدعم عطلت التنمية في قطاعات عديدة، وأنه كان الأجدى لو خُصصت لدعم المشاريع الصغيرة. أما تحديد الأسعار - وهو إجراء ممكن، لكن له محاذيره - إذْ أنه قد يؤدي إلى تقليص إمدادات السوق باحتياجاته الأساسية، وبالتالي مع قلة العرض سيزيد السعر، ما يعني أننا سنبدأ نشهد الطوابير الطويلة والسوق السوداء والتهريب.
وفي الاجتماع الذي عقده رئيس الوزراء في مكتبه مع مجموعة من الكتّاب والصحافيين أوضح د. سلام فياض مظاهر وأسباب الأزمة وسبل مواجهتها - طبعا من وجهة نظر الحكومة – مؤكدا أن حكومته تبذل قصارى جهدها، إلا أن المشكلة أكبر من إمكانيات السلطة، وحتى أكبر من إمكانيات دولا أخرى مستقلة، وأنه لا يوجد في الأفق المنظور أي حل سريع وشامل، ثم فنّد وبلغة الأرقام بعض المقترحات، مثل استيراد المحروقات من الأردن أو مصر، حيث أشار إلى أن هذا المقترح جيد وممكن إلا أنه لن يقلل من الأسعار كما يتوقع البعض. وبالنسبة للسياسات الضريبية قال بما معناه أن لا توجد لدى الحكومات هواية اسمها رفع الضرائب، وأن الحكومة تلجأ لمثل هذا الإجراء عادة عندما لا تجد وسائل أخرى لتحسين إيراداتها وسد العجز في موازنتها، وأن هذا يقلل من الاعتماد على المساعدات الخارجية، ويقوي الاقتصاد الوطني. وفيما يتعلق بإلغاء اتفاق باريس قال أن ذلك غير واقعي، وأن جوهر المشكلة ليس في الاتفاق نفسه - رغم أنه مجحف - بل في خرق إسرائيل لهذا الاتفاق، وبالتالي يتساءل فياض ما الفائدة من تعديل الاتفاق أو إلغائه طالما أن الاحتلال يتحكم في الحدود والمعابر والموارد ويتعسف بإجراءاته ولا يحترم قوانين ولا مواثيق ؟؟ وبالتالي فإن الحل يكمن في تحرر الاقتصاد الفلسطيني من تبعيته للاقتصاد الإسرائيلي، وهذا يتحقق فقط في حال إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
بعض الحضور من الكتّاب والصحافيين تساءلوا عن أسباب خروج الناس للشارع، وهل هذا حِراك شعبي عفوي سببه تدهور الأحوال وإحساس الناس بالجوع والقلق؟ أم أن أطرافا داخلية وخارجية استغلت فقر الناس وظرفهم وحرّضتهم على الخروج لأسباب مختلفة لها علاقة بصراع المصالح ؟ عن هذا الموضوع أجاب فياض أنه لا فرق بين الحالتين طالما أن الناس ساخطة وغاضبة وتطالب برحيله، وإنه إذا كان رحيله سيحل المشكلة فلن يتأخر عن الاستقالة يوما واحدا.
وقد شهدت مدن الضفة مظاهرات ومسيرات وإغلاق للشوارع وهتافات تندد بفياض وتحمله المسؤولية وتدعو لإسقاطه، والملفت للنظر أن هذا الحِراك يجري برعاية الأجهزة الأمنية، وأحيانا بتحريض منها، مع تقديم كافة التسهيلات للمتظاهرين، كما لو أننا في سويسرا !! على حد تعبير أحد الزملاء. فيما رأى البعض أن ما يجري لا يمكن عزله عن المشهد السياسي العام؛ فالأزمة المالية التي تعاني منها السلطة ناجمة عن تخلف الدول المانحة عن دفع المستحقات المالية للسلطة بالقدر والوقت المطلوبين، وأن الدول العربية باستثناء السعودية لا تلتزم بدفع ما يترتب عليها من التزامات مالية تجاه السلطة، بالرغم من قرار الجامعة العربية بضرورة توفير شبكة أمان مالية وسياسية للسلطة، وهذه الأزمة بالإضافة إلى أنها خلقت تباطؤا في النمو الاقتصادي، فإنها أضعفت من قدرة السلطة على الإيفاء بالتزاماتها تجاه شعبها، وجعلتها أضعف في مواجهة الابتزاز الإسرائيلي والأمريكي. فلو كان هناك رضا إسرائيلي وأمريكي على السلطة لما توقف الدعم المالي عنها، ولا يخفى على أحد سهولة استجابة الدول العربية للضغوطات الأمريكية بشأن وقف الدعم المالي عن السلطة.
هذا الموقف السلبي من قبل المجتمع الدولي (بقيادة أمريكا) تجاه السلطة سببه تصلب القيادة الفلسطينية وتمسكها بموقفها الرافض لاستئناف المفاوضات، التي توقفت كليا منذ شتاء العام 2008، وإصرار منظمة التحرير على المضي قدما بموضوع طلب عضوية دولة فلسطين في المنظمة الدولية، وقبل هذا كله بسبب الانحياز التام للطرف الإسرائيلي والرضوخ له، باعتباره الطرف الأقوى في المعادلة، والذي تربطه مصالح حيوية مع الغرب.
هذا الانحياز الأعمى لإسرائيل، وهذا التعنت الإسرائيلي الذي عبرت عنه جميع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، أدى إلى انغلاق الأفق السياسي تماما، وتوقف العملية السلمية، دون أن يقابل ذلك تصعيد فلسطيني في المقاومة، بل جاء ذلك في زمن الانقسام، وفي الوقت الذي تبدأ فيه حماس استعداداتها العملية لإعلان دولة مستقلة على قطاع غزة، وفي الوقت الذي تصعّد فيه إسرائيل حملتها الإعلامية المحمومة ضد الرئيس أبو مازن. وهذا لا يعني أن خلط الأوراق بهذه الطريقة، ومن قِبل جميع الأطراف الهدف منه إسقاط فياض، لكن من المحتمل أن مصالح أطراف مختلفة قد تقاطعت عند هذه النقطة، وبذلك يكون فياض كبش فداء للمرحلة برمتها، وأن موجة الغلاء كانت هي الفرصة السانحة التي انتظرها كثيرون.
وفي المقابل يقول البعض أن ما يجري الآن هو نتاج للسياسات الاقتصادية التي انتهجتها السلطة منذ نشأتها وخضوعها لاتفاقية باريس، وبالذات سياسات فياض المالية والضريبية والأمنية، التي خلقت اقتصادا تابعا مشوها، ولم تبني اقتصاد تنمية حقيقي، ويضيف آخرون أن السبب هو انحراف البوصلة الوطنية عن مسار المقاومة، وتحول فصائل المقاومة إلى أجهزة أمنية، وتحول أولويات الناس من النضال ضد الاحتلال إلى تأمين لقمة العيش. وأيضا فشل السلطة في تقديم نموذج الحكم الرشيد والصالح، وظهور حالات عديدة من الفساد المالي والإداري.
وأعتقد أن جميع وجهات النظر المتباينة فيها قدر كبير من الصواب، ولكن من الصعب قبول أي نظرية تختصر المشكلة في عامل واحد؛ فالموضوع متشابك على نحو شديد التعقيد، وموضوع الغلاء ليس بالأمر الهين أو البسيط، الذي يمكن اختزاله في سبب واحد أو اثنين، ولا ينفع معه الحل الذي يحمّل المشكلة كلها على شخص واحد، أو جهة بعينها، إلا عند أولئك الذين يتصيدون الأخطاء، ويستغلون مثل هذه الأزمات لتصفية حسابات سياسية، أو لتمرير أجندات معينة.
والأهم من هذا كله أن جيل الشباب الفلسطيني يواجه حائطا أصم من الحقائق المرّة، وأن واجبنا جميعا تجاهه وتجاه بلدنا وشعبنا أن يتحمل الجميع مسؤولياته، فمن السهل على أي أحد انتقاد الآخرين، وتحميلهم وزر ما يحصل، ولكن من الصعب تقديم اقتراحات عملية محددة، إما لأن الكثيرين يستسهل الخيار الأول، أو لأن الواقع صعب بالفعل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق