اليوم
وبعد مائة سنة من بدء الاحتفال بيوم المرأة، وبعد سنة من بدء ما يسمى بالربيع
العربي، يجب أن لا نبالغ في التفاؤل بإمكانية تحسّن وضع المرأة، وتغير نظرة
المجتمع لها، فسنة واحدة لا تكفي لمثل هذا النوع من التحول. والتغيرات الاجتماعية
الكبرى عادة إما أن تتشكل عبر مراحل تاريخية طويلة بفعل التراكم وصراع الأجيال،
وإما أن تتشكل ضمن فترة قصيرة، إذا ما رافقها تغيرات سياسية واقتصادية جذرية، عادة
ما تكون مصحوبة بالعنف، أي عندما تكون ناجمة عن ثورة شعبية عارمة، بعد أن تنضج
ظروفها الذاتية والموضوعية. والمجتمعات العربية في تعاطيها مفاهيمها الثقافية
والاجتماعية ظلت طوال الفترات الماضية واقعة تحت تأثير اتجاهين متناقضين، يتصارعان
ويراكمان نتاجهما، وهما الاتجاه السلفي، والاتجاه التقدمي، دون أن يحسم أحدهما
الصراع لصالحه.
ومع
بداية العام 2011 اندلعت في أكثر من بلد عربي ثورات شعبية عارمة، تمكنت من إسقاط
أنظمة، وهز عروش أنظمة أخرى، وخلقت واقعا سياسيا جديدا، كان من المفترض أن ينشأ
عنه تغيرات اجتماعية تتناسب مع مستوى الحدث، لكن النتائج فاجأت الكثيرين، وربما
أتت مخيبة لآمال البعض؛ وبنظرة سريعة على نتائج هذه الثورات، وبتقييم أولي
للإنجازات والإخفاقات التي أصابتها، يمكن القول أنها لم تغير سوى القشرة الخارجية،
لكن صميم البنية الاجتماعية والثقافية للأمة ما زال بحاجة لكثير من الجهد والعمل؛
وهذا طبيعي لأن نجاح الثورات لا يُقاس بقدرتها على هدم القائم الموجود، بل بقدرتها
على بناء واقع أفضل، أي أن المسألة ليست مجرد التخلص من رموز النظام، بل بمدى نجاح
الثورات في تغيير آليات تفكير المجتمع، وبنيتها الثقافية والقانونية، والقدرة على
خلق نظام تقدمي حضاري، يضمن المساواة والعدالة والتعايش السلمي بين كل مكونات
المجتمع، ومن الواضح أن هذا لم يتحقق بالشكل المطلوب، ذلك لأن المرحلة التي تعقب
الثورات عادة ما تتسم بالفوضى والعنف؛ والمرحلة التي تمر بها الشعوب العربية في
الوقت الراهن هي مرحلة تشكُّل تاريخية في غاية الخطورة، والمقبل من الأيام سيكون
له بصماته البينة في تاريخ المنطقة ولأمد طويل.
وأحد أهم المؤشرات لنوعية التغيير
الحاصل، هو الموقف من المرأة، لأن أي تغيير سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي إذا لم
يشمل المرأة، ولم يسعى لتحريرها من الظلم والاستغلال، ومنْحها حقوقها الكاملة ومساواتها
مع الرجل، لا يعتبر تغييراً حقيقياً، بل يمكن وصفه بالردة الحضارية.
والمرأة العربية رغم أنها شاركت
بفاعلية وشجاعة في ثورات الربيع العربي، إلا أن عطائها قوبل بالجحود والنكران،
والمعطيات الأولية تشير إلى أن أوضاعها لم تتحسن؛ بل تعرضت لانتكاسات؛ ما يؤكد أن المرأة
التي تكون في البداية عنصرا ً مساعدا ًوأساسيا، سرعان ما تتحول إلى دور هامشي؛ ففي الكويت
مثلا، وهي التي مثلت أول ديمقراطية في الخليج العربي (القبلي) جرت انتخابات
تشريعية أسفرت عن فوز واضح للتيار السلفي، كانت أولى نتائجه طلب منع تدريس
الموسيقى في المدارس، ثم منع تداول بعض الكتب، ثم إغلاق معرض للفنانة الكويتية "شروق
أمين" بعد ساعات من افتتاحه، بدعوى أنّه مخلّ بالآداب العامة، ليمثّل سابقة
خطيرة لم تشهدها كويت الفن والثقافة. وفي حقيقة الأمر، فإن المعرض عبارة عن دراسة
لمجتمع الرجل الشرقي، حاولت الفنانة بلوحاتها كشف جوانب من عالم الرجل السري
المرتبك بين التقاليد والرغبة، وعلاقته الخفية بالمرأة، وتفكيك البنية السرية
للمجتمع الذكوري الذي يستخدم المرأة كأداة لإشباع غرائزه. دون أن يحمل المعرض أي
ملمح إباحي. لكن الفنانة "شروق" لم تكن تعلم أنها بذلك انتهكت عوالم
طالما حرصت المجتمعات المحافظة على إخفائها، وفضحت ممارسات سرية تتناقض مع تصريحات
علنية تختفي خلف أحكام الشريعة.
وفي تونس التي فاز فيها حزب النهضة
الإسلامي، ورغم تطمينات "الغنوشي" المرأة التونسية بالحفاظ على حقوقها
المكتسبة، وتعهده بعدم فرض سلوكيات معينة على المجتمع واحترام حقوق المرأة؛ إلا أن
واقع الحال يقول أن الإسلاميون عامة هم ضد مدونة الأحوال الشخصية التونسية، وضد قانون
(1956) الذي يمنح المرأة مساواة كاملة مع الرجل، بل ويرونه متناقضا مع الثوابت
الدينية، خصوصا في مسألتي الطلاق والتعدد. ولا يخفون رغبتهم في إعادة المرأة لدورها
التقليدي؛ بل إن حزب "الانفتاح والوفاء" التونسي، طالب بإقرار قانون في
الدستور ينص على حق كل تونسي في اتخاذ جارية إلى جانب زوجته، والتمتع "بما
ملكت يمينه"، وهذا يترك انطباع أن رؤية التغيير للنخب الجديدة بعيدة كليا عن
رؤية المرأة للتغيير، والذي نزلت من أجله إلى الشارع.
وفي ليبيا كان أول تصريحات القائد السلفي "مصطفى
عبد الجليل" الدعوة لتعدد الزوجات، ولم تشغل المرأة الليبية سوى موقع واحد من
بين أكثر من أربعين منصبا رئيسيا في حكومة المجلس الانتقالي. وفي الأردن تقدمت
مؤسسات مدنية وشخصيات حكومية، بطلب قرار يعتبر جريمة "الشرف" جريمة
كاملة يعاقب عليها القانون، لكن البرلمان صوّتَ ضد القرار وأسقطه. أما في مصر، فقد
عانت المرأة من التهميش السياسي، بدءً من إلغاء الكوتة النسائية، وصولا إلى
استبعادها تماما من كل مواقع صنع القرار، واستبعادها من لجنة الحكماء لتعديل الدستور،
وتجاهلها في التشكيل الحكومي، إلى جانب محاولات تعديل قوانين الأحوال الشخصية،
وحملات إلغاء المجلس القومي للمرأة. فضلا عن تعرضها للعنف الجسدي على أيدي رجال
الأمن، والتحرش من قبل الشبان نتيجة الانفلات الأمني. وعندما تقدمت هيئات نسوية
ومدنية بطلب قانون يعاقب الرجل على ضربه للمرأة والأطفال، رفض مجلس الشعب ذلك.
أما العراق الذي تسيطر عليها
الميليشيات الطائفية، فقد شهد أخطر الانتكاسات ليس في وضع المرأة وحسب، بل وعلى
كافة الصعد الثقافية، وأهمها فصل التدريس في المدارس المختلطة الابتدائية، والسعي
لفصل التدريس في الجامعات، مع محاولات لعدم السماح للإناث بإكمال دراستهن الجامعية،
ومحاولات لتغيير مناهج التربية والتعليم، واعتبار بعض المواد دخيلة على المناهج
كاللغة الانجليزية والفيزياء.
في اليمن، ربما يكون الإنجاز الوحيد
الذي حققته المرأة هو حصول "توكل كرمان" على جائزة نوبل لدورها الريادي
في قيادة التظاهرات، وهو إنجاز يخضع لمعايير دولية، ولو بقي حكرا على المجتمع
المحلي لما حصلت المرأة اليمانية على شيء، فقد رأينا كيف قابل مجتمعها تلقيها الجائزة
بردة فعل سلبية، ولم نرى دورا ملموسا للمرأة في تشكيل الحكومة.
اليوم ورغم التغييرات الكثيرة التي حصلت في الواقع
العربي، ما زال ينظر للمرأة على أنها مخلوق عديم الأهلية، وكائن عاطفي غير عقلاني،
لا يحسن التصرف إلا في ظل وصاية الرجل، وأنثى لا تحسن في الحياة إلا إمتاع الرجل، وأن
دورها في المجتمع عظيم ولكنه ينحصر في تربية الأولاد فقط، بل أنها ما زالت في نظر البعض
عورة، وفتنة شيطانية، ومصدر غواية للرجل، وعلى المستوى القانوني ما زال قرار
الطلاق أحادي الجانب، والمرأة محرومة من منح جنسيتها لأبنائها، ولا تستطيع الحصول
على جواز سفر إلا بموافقة الزوج أو ولي الأمر، هذا الوضع تفاقم مع تباشير
"الربيع العربي"، فكيف سيكون الوضع عندما يزهر ويثمر ذلك الربيع السلفي
؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق