أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

مارس 14، 2012

الإيمو


تناقلت وكالات أنباء مختلفة تقارير عن مقتل عشرات الشبان في العراق ممن يُطلق عليهم "الإيمو"، على أيدي مجموعات مسلحة متشددة، ضمن عمليات إعدام في منتهى البشاعة والقسوة، تتمثل بضرب رؤوسهم بقطع من الحجارة الإسمنتية (البلوك) حتى يلاقوا مصرعهم. فمن هم هؤلاء الإيمو ؟ ولماذا يجري قتلهم بهذه الطريقة العنيفة ؟!

اشتقت كلمة إيمو من Emotional بالإنجليزية، وتعني شخصية حساسة عاطفية، ويعود المصطلح لأحد أساليب موسيقى الروك، التي ظهرت في أمريكا منذ منتصف الثمانينات، وكانت تسعى لبث رسائل معينة عن طريق الأغاني الغريبة أو الثورية، أو المحبِطة أحيانا، وغالبية جمهور هذه الأغاني من المراهقين. ويتميز أتباع الإيمو باختيارهم لملابس غريبة غالبا ما تكون سوداء، ولبسهم الحلي الفضية، وقصة شعرهم الطويلة، وبعضهم يجرحون رسغهم في إشارة منهم إلى الأجزاء المظلمة من الحياة، ومع مرور الوقت يصبحون ذوو شخصية انعزالية ومبهمة ومضطربة، ولأن أغلبهم لا يمارسون عملا منتجا، ويعيشون بلا هدف محدد يسعون إليه؛ فان الشعور بالضياع يتمكّن من بعضهم؛ فيصيبهم بالاكتئاب الذي يفضي إلى التفكير بالانتحار، أو بتعاطي حبوب تسبب الكآبة، أو الإدمان على سماع الموسيقى العاطفية الحزينة.
وحسب تقرير بثته BBC، فإن ظاهرة الإيمو انتشرت تدريجيا في العراق في أعقاب الغزو الأمريكي. ونقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن مصادر طبية قولها إن "ما لا يقل عن 15 من هؤلاء المراهقين قُتلوا رجما، أو بالرصاص، بينما تعرض آخرون للضرب المبرح في بغداد"، وأضاف التقرير: "إن قوات الشرطة تقوم باتخاذ تدابير إخلاء جثث المراهقين، ولا تسمح بتدخل سيارات الإسعاف".[1]
وبينما قللت وزارة الداخلية من أهمية الظاهرة، وحاولت نفيها أحيانا، وأحيانا أخرى ألقت باللوم على مجموعات مسلحة مجهولة، رغم أنها أصدرت بيانا تؤكد فيه أنها تشن حملة للقضاء على الإيمو، وأن لديها موافقات رسمية بالقضاء عليها. فيما أكّد شهود عيان أن مجهولين يسمّون أنفسهم "سرايا الغضب" قاموا بتوزيع قائمة تحمل أسماء شبان تتهمهم بأنهم من الإيمو، وتحذر عائلاتهم من استمرارهم إتباع ظاهرة الايمو، وإلا فسينالون عقابهم الرادع.[2] وقد زادت حوادث استهداف الشباب العراقي من أتباع الايمو خلال الفترة الماضية؛ ووفقا لوسائل إعلام عراقية وغربية فقد قارب عدد قتلى الإيمو نحو المائة شخص، منهم 14 شابا على الأقل رُجموا حتى الموت في بغداد خلال الأسابيع الثلاثة الماضية.[3]
الحجة التي يتذرع بها هؤلاء القتلة أن الإيمو شاذين جنسيا، ويتهمونهم أيضا أنهم مصّاصو دماء، وعبدة الشيطان، وأن هذه الظاهرة غريبة على المجتمع العراقي (المسلم)، وبالتالي يتوجب القضاء عليها بأي شكل !! رغم أن الشيخ "عبد الرحيم الركابي"، معتَمَد المرجع الأعلى الشيعي السيد "علي السيستاني" أصدر تصريح، اعتبره كثيرون بمثابة «فتوى»، قال فيه: "إن قتل هؤلاء الشباب هو عمل إرهابي وإجرامي، والإسلام يدينه، لأنه يرفض كل أشكال التصفيات الجسدية، ويدعو إلى التعايش السلمي بين الناس".
كيف ولماذا نشأت ظاهرة الإيمو ؟!
الظاهرة الاجتماعية لا تتكون فجأة، ولا تنشأ من الفراغ، بل تكون إحدى نتائج أو مظاهر مشكلة اجتماعية أكبر وأشمل، ومن الطبيعي أن يفرز التطور الاجتماعي والاقتصادي لأي مجتمع ظواهر سلوكية مختلفة، منها إيجابية وأخرى سلبية. وفي أغلب الأحيان فإن الظواهر التي يعدّها المجتمع سلبية تتركز في جيل المراهقين والشباب، وهذه حتمية اجتماعية نفسية تقوم على مبدأ الصراع بين ثقافات الأجيال. وعادة فإن جيل الشباب هو أول من يعبر عن احتجاجه على ظروف الحياة وواقع المجتمع بطرق مختلفة؛ فعلى سبيل المثال ظهرت في أوروبا وأمريكا في الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين ظاهرة الهيبز، والشباب اللامبالي، وحتى الفلسفة الوجودية، والتي كانت في جوهرها أشكالا من الاحتجاج على حكوماتهم، وعلى سوء الأوضاع السياسية وتدهور الأحوال المعاشية، وانعدام الأمل في المستقبل.
وكما ظهرت الإيمو في أمريكا؛ فقد انتقلت إلى عدد من البلدان العربية ومنها العراق، وربما لأسباب وسياقات متشابهة؛ مع فارق جوهري وهو أن المجتمع الأمريكي لا يفرض قيودا على الحريات الشخصية، ويتيح المجال أمام من يرغب في انتقاد نظام الحكم، خلافا لما هو في البلدان العربية. وإذا كان سبب الظاهرة السيكولوجي هو الشعور بالضياع النفسي الناجم عن الضياع المجتمعي بشكل عام، فإن دوافعها الاجتماعية تكمن في التدهور الأخلاقي الناجم عن استفحال قيم التنافس والفردية والأنانية التي لا تحكمها إلا معايير الربح والبقاء للأقوى، لكن دوافعها السياسية هي الأهم؛ فهي تأتي تعبيرا من الشباب عن سخطهم وعدم قبولهم للنظام السياسي، وهنا تكمن خطورتها؛ لأنها تفضح فشل النخب السياسية وتعرّي فسادهم، وبالتالي تعرض قواعدهم الاجتماعية للخطر. 
وما يميز ظاهرة الإيمو في العراق عن غيرها من البلدان، أن أسباب وعوامل تكونها أقوى في العراق من أي مكان آخر في العالم، وأسلوب تعامل النظام والمجتمع معها لا يوجد له مثيل إلا في المجتمعات التي تنافسه في التخلف والقسوة؛ وإذا كان الاغتراب النفسي والإحساس بالضياع وفقدان الأمل عوامل مشتركة بين (أيمو ) العرب والعراق من جهة، و(إيمو) الغرب من جهة ثانية؛ فإن العراق يضيف أسبابا أخرى، وبجرعات مكثفة؛ فنسبة البطالة والفساد في العراق تكاد تكون الأعلى في العالم، وأيضا انعدام العدالة الاجتماعية، والفرز الطائفي، والتطرف الديني والتعصب المذهبي، وانعدام الأمن الشخصي، وتدهور السلم المجتمعي بأشكال غير مسبوقة. وقد قابل هؤلاء الشبان كل أشكال التطرف السائدة في المجتمع بممارسة تطرف سلوكي مضاد .. وهذا قانون اجتماعي؛ فالتطرف يخلق نقيضه المتطرف.
ولأن الواقع ما عاد يحتويهم، ولا يقدم لهم حلا لمشاكلهم، ولا ينتشلهم من حالة الضياع التي يعيشونها، فإن الانفتاح على شبكات التواصل الاجتماعي العالمية، وجد فيه بعضهم وسيلة للهروب، وحالة من التوحد بآخرين يمنحهم الشعور بوجودهم الإنساني على مستوى العالم.[4]
وفي النتيجة واجهت النخب المسيطرة هذا التطرف السلوكي بتطرف أشد؛ تمثل بقتلهم بهذه الطريقة الهمجية، بعد أن بالغ في وصف حجم الظاهرة ومخاطرها على القيم الإسلامية، بالرغم أنها في حقيقتها ظاهرة عادية، وليست مخيفة؛ فأعدادها لا تصل المئات، وشبابها ليسوا مدججين بالسلاح ولا بأحزمة ناسفة، بل هم مسالمون وحساسون ولا يؤذون أحدا. ولكن السؤال لماذا واجهت المؤسسة الدينية هذه الظاهرة بكل هذه القسوة ؟!
الجواب باختصار هو أن جماعات "الإسلام الطائفي" في العراق، والتي نمت على هامش المشروع الأمريكي وبرعايته، تريد أن تحدد مناطق نفوذ لها، بحيث تسيطر على سكانها، وتفرض عليهم أنماطا ثقافية معينة تتناسب مع أيديولوجياتهم المتشددة. ولكن كيف ؟!
ظاهرة الإيمو ليست مجرد مجموعة شبان يلبسون ملابس غريبة؛ أو شباب ضائعون ومهمشون، لم يجدوا ما يحققون به ذاتهم وأحلامهم في الأمان والسلام والحياة الكريمة، وليسوا مجرد شباب فشلو في الدراسة والعمل لأنهم أغبياء؛ فهم فشلوا بسبب الفساد الإداري والمالي في عموم مؤسسات الدولة، وبسبب هيمنة الميليشيات الدينية على الجامعات والمعاهد والحياة السياسية بشكل عام، وبثها روح الكراهية والتفرقة بين الناس، ما أدى لحدوث كوارث اجتماعية انتهت بالتفكك الأسري، وضياع الشباب في دهاليز مظلمة شرعنتها الطائفية السياسية، ومع استمرار مسلسل القتل والاعتقالات والخطف والمساومة والسيارات المفخخة هاجر الملايين خارج وداخل البلاد.
وبالتالي فإن ما يقوم به الإيمو إنما يبيّن مدى الخواء الذي يعيشه المجتمع، ويكشف هشاشته أمام التحديات الحضارية، ويُبرز حالة الخراب القيمي، وتشوه القيم التربوية، بسبب خراب المؤسسات التربوية والدينية؛ حيث تحوَّل الدين إلى طائفة، وتحوَّل رجاله إلى سماسرة وقتلة. ومن هنا فإن الإيمو تفضح بكل جلاء فساد المنظومة الطائفية التي جرى تقاسم ونهب العراق باسمها، بعد أن تم إلباسها ثوب القداسة على يد أصحاب العمائم (السوداء والبيضاء).
وإذا كانت ظاهرة الإيمو بحد ذاتها مرفوضة ومدانة، فلأنها تكشف عن خلل فادح في المجتمع، ولكن الأخطر منها هو ما تقوم به الميليشيات المسلحة بحجة مكافحتها؛ فعندما تقوم هذه الميليشيات بفرض نظامها الخاص على منطقتها وبغطاء من الحكومة، باستخدام سيارات لا تحمل أرقام مرورية، وهم مدججون بالأسلحة ويرتدون الزي العسكري (بعضهم يرتدون ملابس مدنية)، فإنهم يدبون الرعب في الحي، فيبدأ الأهالي بالهرب، لتكون فرصتهم في خطف أو قتل كل من يعارضهم بالرأي، وقمع كل من ينتقدهم. وفي هذه الجو الإرهابي تتمكن من فرض مفاهيمها الاجتماعية والدينية على الآخرين، وأبرزها تعميق عبودية المرأة من خلال ترهيب الشباب، ليكونوا عبرة للنساء اللواتي يطالبن بالحريات الشخصية والفكرية.
وقد وجدت المليشيات الطائفية في ظاهرة الإيمو فرصة ثمينة، فهي لا تضمن لهم تأييد المجتمع وحسب، بل وتُلحق بضحاياهم الخزي والعار الذي سيطال عائلاتهم ولأمد غير محدود؛ خاصة بعد أن نجحت في إلصاق تهمة الشذوذ الجنسي وعبادة الشيطان في كل من يختلف معهم، أو من كانت لديه معهم حسابات شخصية.
وعمليات الإعدام التي تنفذها هذه الميليشيات لا يمكن إدراجها إلا في خانة الإجرام، وهي انحلال وفساد سياسي لم يشهد التاريخ بمثله من قبل؛ فهي من ناحية تمثل اعتداءً صارخا على الحريات الشخصية (حرية الملبس، حرية الاختيار، حرية التعبير)، ومن ناحية ثانية فإنها تعمق من حالة الفوضى والعنف في المجتمع؛ ومتى ما بدأت المجموعات أو الأفراد بأخذ القانون بيدهم، وتنصيب أنفسهم قضاة وجلادين، فإن المجتمع سرعان ما يغرق في مستنقع الفوضى والإرهاب والحرب الأهلية وعمليات الانتقام المتبادل.
وبدلا من أن يكلف ساسة العراق الجديد أنفسهم عناء البحث عن أسباب بروز ظاهرة الايمو، قاموا بمحاولات القضاء عليها، وهو أسلوب فاشل لا محالة؛ فقد أثبتت الوقائع أن العنف لا يمكن أن يقضي على أي ظاهرة مجتمعية، بل إنه يورث العنف المضاد. وإذا اعتبرنا أن الإيمو مشكلة، فهناك مشاكل عديدة أخطر وأهم تهدد المجتمع العراقي، وإذا أردنا معالجتها والبحث عن حلول لها ولغيرها من المشاكل، علينا قبل ذلك أن نشخص الداء، ثم البحث عن الطرق العلاجية الجذرية والناجعة؛ وبداية الطريق إلى الحل تبدأ ببناء نظام سياسي وطني نظيف، يؤسَّس على مبدأ المواطَنـَة، وإعادة الهيبة إلى الهوية الوطنية الجامعة، وتغليبها على الهويات الفرعية والانتماءات الضيقة، وتأسيس نظام ديمقراطي يحترم الإنسان، ولا يوجد فيه مجموعات تدعي أنها قيّمة على الأخلاق والدين، وتفرض رؤاها على الآخرين.
 أما هؤلاء الإيمو فيمكن إعادة تأهيلهم اجتماعيا ونفسيا، ولا يتم هذا إلا من خلال خبراء مختصين، لا أن نقتلهم بهذه الطريقة اللاإنسانية؛ مع التأكيد على أن حالات الشذوذ الجنسي (التي تُتَّهم بها جماعة الإيمو) لا علاقة لها بالأخلاق والدين والقيم، لأنها حالات مرضية تُصنف علميا تحت مصطلح (اضطراب الهوية الجنسية)، ويعني تحديدا أن الفرد "المثلي" يشعر أنه وُلد في الجسم الخطأ بتركيبة نفسية وبيولوجية مزدوجة؛ فيحصل لديه اضطراب بين هويته النفسية ومشاعره الجنسية وهويته البيولوجية ودوره الاجتماعي. وهذا كله ناجم عن خلل تكويني يؤثر في نمو الدماغ، ويستمر في مراحل الحياة اللاحقة، ولا علاقة له بالتفسخ الأخلاقي والتحلل الاجتماعي، وبالتالي فإن المدخل السليم للتعامل معهم ليس برجمهم حتى الموت، إنما بإحالتهم الى الأطباء والاستشاريين النفسيين.[5]
شباب الأيمو عبّروا عن رفضهم للكبت الديني، وسلب الحريات الشخصية، وهي المهمة التي كنت يفترض بالنخب المثقفة والأحزاب السياسية القيام بها، ولكنها انشغلت بحساباتها الطائفية الضيقة. شخصيا لا أوافق على هذه الظاهرة ولا أؤيدها؛ ولكن الأوصاف التي نُعتوا بها تنطبق في الواقع على غيرهم؛ فالمستهترون الحقيقيون ليسوا شباب الإيمو، بل هم من يفخخون السيارات ويفجرون أنفسهم ليقتلوا الأطفال والأبرياء بذرائع دينية واهية، ومصاصو الدماء الحقيقيون هم القادة السياسيون الفاسدون اللذين دمروا العراق ونهبوا خيراته، وعبدة الشيطان هم الطائفيون وقادة الميليشيات الذي ينحني لهم الشيطان تواضعا، بل ويخجل من أفعالهم وأساليبهم في القتل والتعذيب وتصفية الخصوم، والشواذ الحقيقيون هم من سلَّم البلاد لإيران وللأمريكان.


[1]  BBC، الشرق الأوسط، 11 مارس/ آذار، 2012، www.bbc.co.uk/.../120310
[2]  روسيا اليوم، 11-3-2012 http://arabic.rt.com/news_all_news/news/580557/
[3] www.aljazeera.net/.../7974fd5b-b274-4cb5-b7c1 
[5]  قاسم حسين صالح ، نفس المصدر السابق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق