قبل
ثورات الربيع العربي بمدة طويلة، كانت الحركات الإسلامية تحث الخطى نحو تحولها إلى
أحزاب وطنية محلية؛ مبتعدةً بذلك ولو قليلا عن خطابها التقليدي، دون أن تتخلى عن
شعاراتها الأممية والعقائدية، ولكن مع مرور الوقت كانت الفجوة تتسع بين تلك
الشعارات وبين الممارسات الفعلية؛ جماعة الإخوان في الأردن تحولت إلى جبهة العمل
الإسلامي وصارت تمارس السياسة كأي حزب آخر، في فلسطين نمت الفكرة الوطنية والاعتراف بالخصوصية الفلسطينية لدى
الإخوان المسلمين تدريجيا، وتُرجمت بتأسيس "حماس"، في لبنان كان
واضحا أن حزب الله منشغلا في القضايا الداخلية وفي أدق تفصيلاتها، حتى أن مبرر
حمله للسلاح - كما كان يصرح - هو تحرير "مزارع شبعا" اللبنانية.
ولكن
هذه التحولات تحمل أيضا معانٍ سياسية، لها علاقة بخدمة هذه الأحزاب لتوجهات خارجية،
ولتنفيذ مشاريع أكبر وأخطر، وبترتيب الخارطة السياسية للإقليم لصالح قوى خارجية.
بعد
الربيع العربي، وبعد أن وُضِعت على المحك، قدمت الحركات الإسلامية التي فازت في
الانتخابات، أولى التنازلات بتعهدها احترام الاتفاقيات الدولية، وبشكل خاص
اتفاقيات كامب ديفيد، ثم بعثت برسائل تطمين للغرب تؤكد سعيها لبناء دولة القانون، وترسيخ
المجتمع المدني، وتمسكها بالديمقراطية، وبالشرعية الدولية، وبصرف النظر عن مدى صدق
نواياها، لكنها وعلى ما يبدو أيقنت أن المواجهة مع الغرب لن تكون أيديولوجية، أو
بلاغية، بل ستكون سياسية، اقتصادية ودبلوماسية، وبعضها اختار المصالحة مع الغرب
بدلا من التصادم معه. وعلى المستوى الداخلي أيقنت أنها لن تكون إزاء جدل فقهي نظري
يخضع لمبدأ الحجية، بل إزاء الواقعي والحيوي والمتحرك، والذي لا يرحم. وأن
الاهتمام لا بد أن ينصب على مسائل محلية مثل البطالة، ظروف المعيشة للمواطنين، نسب
التضخم، أرقام التنمية البشرية، إغراء المستثمرين الأجانب، حتى لو كانت متيقنة من
عجز برامجها وشعاراتها على مواجهة هذا الواقع، إلا أنها لا تجد مناصا من طمأنه
شعوبها ببعض الشعارات "العصرية".[1]
باستثناء
بعض القيادات التقليدية التي لم تستوعب الدرس جيدا، وما زالت توزع الفتاوى بكل الاتجاهات،
كما لو أنها خارج العصر، سنجد أن معظم الأحزاب الإسلاموية تريد أن تستلهم تجربة
حزب العدالة والتنمية التركي؛ خاصة بعد النجاح الواضح الذي حققه في بلده؛ في مصر،
أطلق الإخوان المسلمون على حزبهم اسم حزب العدالة والحرية، في المغرب حزب العدالة
والتنمية، وفي ليبيا حزب التنمية والإصلاح. كما لو أن غياب كلمة
"إسلامي" من تسمية الأحزاب واستبدالها بمصطلحات عصرية مثل التنمية
والعدالة، ليس مجرد صدفة بحتة، بل هو من ضرورات العصر، وتعبيرا عن رغبة في تغيير
الواجهة، ودليلا على تراجع الأيديولوجي النظري لصالح الوطني العملي.
بعض هذه الأحزاب
غيرت تحالفاتها وخطابها متناسيةً فتاواها وتصريحاتها السابقة بشأنها، ولعل تحالف
"حماس" مع النظام السوري، حتى وقت قريب، هو ترجمة لهذه التحولات، حيث لم
يمنع خلاف النظام البعثي مع الإخوان المسلمين في سوريا، ووجود قانون يقضي بإعدام أي
عضو من الإخوان استمرار هذا التحالف، وهذا بحد ذاته شكل من العلمانية السياسية، والبرجماتية
الوطنية.
ولكن، لتبديد
الالتباس، وإزالة التناقض الظاهر بين البعد "الدولي العالمي" لمشروع
الإسلام السياسي العابر للقارات والحدود، وبين البعد "الوطني المحلي"
للجماعات الإسلامية، لا بد من التأكيد على أن الانخراط في الهم الوطني لأي حزب
إسلامي لا يعني تخليه عن تحالفاته مع غيره من الأحزاب لتحقيق المشروع العالمي الذي
يصنّف العالم إلى فسطاطين ( فسطاط الحق وفسطاط الباطل ) على الأقل على المستوى
النظري، وهذا يكشف عن وهن هذا الطرح وتهافته أمام حقائق العصر، ويؤكد على أن من
يتحمل تبعات هذا المشروع (العالمي) ومن يدفع أثمانه هم الشعوب المغلوب على أمرها،
والأحزاب الإسلامية الصغيرة، والقيادات المغامرة، الذين تم تضليلهم من قبل من هم
أعلى منهم شأنا ومرتبة. أي أولئك الذين لا يتورعون عن توريط غيرهم في حروب صغيرة –
لكنها مدمرة - لا مصلحة لهم فيها.
[1] عبد القادر أنيس، الثورات
العربية، الحوار المتمدن، العدد 3644 . http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=295993
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق