من بين المفاجآت التي حملتها الانتخابات المصرية فوز حزب النور الإسلامي، وحصوله على الترتيب الثاني بعد الإخوان المسلمين، ولا تكمن المفاجأة بكون هذا الحزب حديث العهد وعمره لا يتجاوز الأشهر، ذلك لأنه امتداد للتيار السلفي الموجود أصلا على الساحة المصرية ومنذ زمن بعيد. ولكن المفاجئ أن ينال مرشحي الحزب هذا العدد من الأصوات؛ بالرغم من أن أكثرهم ينتمون للجماعات السلفية المتشددة، وهي الجماعات التي طالما اقترن اسمها بالتفجيرات والعنف وقتل السيّاح والفِتَن الطائفية. كما أن العديد من المراقبين يؤكدون بأن السلفيين لم يقدموا طوال تاريخهم أي مشاركة سياسية فاعلة، ولم يتبنّوا برامج اجتماعية أو اقتصادية تعنى بالقضايا الجوهرية التي تمس حياة الناس، ويرون أن جُل تركيزهم كان منصبا على الحجاب والنقاب والمرأة، وعلى محاربة الظواهر الاجتماعية والإنسانية التي اعتبروها مخالفة للشريعة، كالاختلاط والخمور والفن والموسيقى وغيرها، ويؤكدون أيضاً أنهم لم يكونوا جزءًا من ثورة 25 يناير. ويفسرون إخفاقهم في التحول إلى حزب سياسي جماهيري - كما هو حال جماعة الإخوان – بسبب شعبيتهم المنخفضة، ذلك بفعل سلوكهم ومظهرهم المتزمت من ناحية، وتركيبتهم الحزبية وطبيعة منهجهم التصادمي من ناحية ثانية.
وإذا كان فوز جماعة الإخوان متوقعا، بالنظر لتاريخهم الطويل من المشاركة السياسية ودخولهم البرلمان أكثر من مرة، ولما عُرف عن خطابهم بالاعتدال ومحاكاة روح العصر مقارنة بخطاب السلفيين، فإن غير المتوقع هو فوز التيار السلفي، وخاصة في الدوائر التي تعتمد على السياحة؛ لأن سيطرتهم على تلك المناطق - وبشكل قانوني – ستضرب عصب اقتصادها.
ومع ذلك، فقد حصَدَ التيار السلفي أصوات الناخبين. فهل هذا يعني بداية تحول في المزاج الشعبي المصري، الذي طالما عُرف بالوسطية والتسامح والاعتدال ؟! أم أن المرحلة التي تمر بها المنطقة تتسم بالفوضى وتشوش الرؤية ؟! وبالتالي فإن نتائج الانتخابات والدلالات التي تحملها ستبدو طبيعية ومنطقية ؟!
البرنامج الانتخابي الذي تقدم به حزب النور، ينفي عن نفسه كل تهم التشدد والتزمت والانغلاق، بل إنه يدعو للتعددية السياسية، وللتعايش بين الطوائف بسلام، وإلى تحقيق العدالة الاجتماعية، ومحاربة الفساد، مع تأكيده على إيمانه بالمنهج الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة عبر الانتخابات، وإلى غير ذلك من شعارات[1].
فهل أن رسائل التطمين التي حملها مرشحي الحزب انطلت على جمهور الناخبين، أم أن الناخب المصري كان على دراية تامة وفهم عميق لما يعنيه انتخابه لحزب إسلامي متشدد ؟!
الإجابة على هذه التساؤلات لا تكون بمعزل عن فهم ما جرى في الانتخابات المغربية والتونسية، التي أسفرت أيضا عن صعود لقوى الإسلام السياسي، على حساب الحركات والأحزاب الليبرالية واليسارية والوطنية. مع ملاحظة أنها أول انتخابات تجري في تلك الدول يمكن وصفها بالديمقراطية والحرة، والأكثرية الساحقة من الناخبين مارسوا حقهم الانتخابي لأول مرة في حياتهم، ما يعني ضعف الوعي بآليات ودلالات العملية الديمقراطية. مع التأكيد على احترامنا لخيارات الناخب وقبولنا بها، حتى لو اختلفنا معها.
من الصعب إنكار حالة المد الإسلامي التي أخذت تجتاح المنطقة منذ عقود، ولكن ليس من الصعب رصد بعض أسباب هذه الظاهرة، ومع ذلك لا يمكن حصرها بعدة نقاط على وجه الدقة. حيث سنجد في خلفية المشهد أسبابا متداخلة ومتشابكة على نحو شديد التعقيد، وعلى المسرح سنجد عوامل مباشرة وأحداثا جسيمة صاغت وعي المواطن العربي – بصورة مؤقتة – وتركت فيه أثرا بالغ الأهمية.
الأسباب التاريخية الراسخة خلف المسرح جعلت المزاج الشعبي العام مزاجا دينيا عاطفيا يتساوق مع شعارات الإسلاميين، ويوفر لهم الأرضية الخصبة لطرحها.
أما العوامل المباشرة وأهمها ثورات الربيع العربي؛ فقد وضعت الجماهير العربية في مرحلة انتقالية صعبة من أهم سماتها الفوضى والعنف والتطرف. وهي سمات تاريخية طالما اقترنت بالثورات الكبرى، ولو نظرنا لتاريخ الثورات العالمية سنجد أن المرحلة التي كانت تعقبها كانت تتميز دوما بشدة الاستقطاب والتجاذب وبالفوضى العارمة، وكان هذا في كل مرة يؤخر من قطاف ثمار الثورة، أو يتيح للآخرين جنْيها.
وما يزيد من تعقيد المشهد؛ أن العالم بأسره في هذه المرحلة يعيش نوع من الاستقطاب الحاد بين الأديان المختلفة، وعلى مستوى العالم الإسلامي أخذ صورة الاستقطاب الطائفي (بشكل خاص بين السنة والشيعة)، وفي العالم العربي أخذ صيغة الاستقطاب بين القوى الدينية والقوى المدنية بمختلف تسمياتها، حتى بات هذا الاستقطاب يشكل صراعا عنيفا ليس داخل المجتمع وحسب؛ بل وداخل الفرد نفسه. فإذا كان المجتمع قبل عقود قد شهد أشكالا رائعة من التعايش السلمي بين الطوائف والاتجاهات السياسية المختلفة، فإنه لم يعد كذلك اليوم. وحتى الفرد الذي كان متوحدا ومنسجما في داخله بين قيمه الدينية وأفكاره الحداثية صار يعيش حالة من الانفصام، انتهت بتحيزه الحاد والحاسم إلى أحد الفريقين (الحداثي أو الديني).
ومثل هذه الصراعات الفكرية/النفسية تزداد حدتها في المراحل الانتقالية الاستثنائية؛ لأن الإنسان العادي البسيط سيحدد توجهه غالبا – في مثل هذه الحالات – مدفوعا بغريزته وعقله الباطن تحت تأثير قوة الجماعة، وأحيانا الخوف الجماعي، وعادة فإن أكثر ما يطمئنه ويبث الراحة في نفسه هو القرب من الدين؛ لأنه يوفر له السكينة. بينما أفكار الحداثة قد تثير في دواخله صوراً مقلقة عن المستقبل، وخاصة في القضايا الثقافية والتماسك الاجتماعي وتربية الأولاد .. وهنا ملعب الحركات الإسلامية وساحتها المفضلة.
وبرصد أدق وأعمق لخلفية المشهد سنجد التركيبة المعقدة لشخصية الإنسان العربي الخاضعة لموروث تاريخي موغل في القدم من ناحية، والمتأثرة بمفردات وقيم الحداثة من ناحية ثانية، الأمر الذي جعل منها شخصية متقلبة مزاجية. بل أن البعض اعتبرها – في أجزاء منها - لم تتخلص من طفولتها بعد، ولم تتخلص نهائيا من حاجتها للوصاية، وما زالت تبحث عن الأب القوي والمسيطر. في مصر مثلا - التي عرفت الدولة المركزية منذ آلاف السنين - كان الحاكم دوما هو الأب الذي يرمز للأمان، وكان قديما هو الإله نفسه، ثم صار ممثلا عن الإله أو مندوبا عن السماء، لم يكن أبدا ديمقراطيا، واعتاد الحكّام – خاصة في التاريخ الحديث - أن لا يسمحوا بظهور شخصيات قيادية يمكن لها أن تلعب دور الأب البديل؛ ليتفرد هو بنفسه بالسلطة. وعندما غاب "مبارك" عن المشهد كان من المتوقع أن يختار بعض الناس ممثليهم في "الدولة" من رأوا فيهم صوره الأب حتى لو كرروا نفس طغيانه.
عامل نفسي آخر أسهم في هذا التوجه هو بحث المجتمع عن سيادة ذكورية بدأ يفقدها بالتدريج. فالمجتمع يدرك أن السلفيين هم الأقدر على استعادة هذه الهيمنة المفقودة وتعزيز أركانها؛ لأنهم يركزون على موضوع حجاب المرأة، لتتوافق توجهاتهم مع رغبات الباحثين عن استرداد هيمنتهم الذكورية بعد أن بدأت المرأة بالخروج من قفص الحريم، وأخذت تكتسب المزيد من الحريات. هذه الذكورة مطلوبة أكثر في هذا الوقت بالذات؛ لأنها هي التي ستعوّض عن حالة البؤس الاقتصادي والإنساني التي تعانيها المجتمعات العربية، وهي عزاء من يبحث عن وسيلة لتفريغ طاقته المكبوتة وغضبه المحبوس.
وهنا لا بد من التأكيد على أن فوز الإسلاميين وصعودهم اللافت لم يكن ناتجا عرضيا للمرحلة؛ بل أتى أيضا نتيجة جهود حثيثة ومتواصلة لأعضاء ورموز التيارات الإسلامية بدأت منذ عقود طويلة. وقد أخذت هذه الموجة الدينية دفعة قوية في الفترة الأخيرة وضعتها في الواجهة، حيث استفادت من حالة الزخم الإعلامي المتنامي، خاصة مع انتشار الفضائيات الدينية وتزايد أعداد الدعاة والوعاظ ونجوم الإعلام الديني.
ومن أسباب تقدم الإسلام السياسي غياب البديل المقنع، خاصة بعد فشل وإخفاق القوى الوطنية والتقدمية وانحسار تأثيرها. ويمكن إضافة سبب آخر هو الظلم والفساد الذي مارسته النظم العلمانية، ومنهجها الاستبدادي في فرض علمانيتها؛ فمثلا لم يكتفِ النظام التونسي بفرض مفاهيم وقيم العلمانية على الشعب بالقوة؛ بل كان يحظر عليهم المظاهر الدينية. هذا الأمر أدى إلى نتائج عكسية، وخلَقَ ردة فعل طبيعية عند الجماهير التي بمجرد أن سقط النظام حتى تحولت إلى الدين وبشكل متطرف.
وفي الحقبة الأولى من حكم صدام حسين، كان هناك أيضا قمع للمظاهر الدينية، لذلك بمجرد أن بدأ النظام – في المراحل الأخيرة من عهد صدام – بحملته الإيمانية حتى لاقت هذه الحملة قبولا غير مسبوق، ولكن هذه الحملة انتهت بنتائج كارثية؛ حيث تحول الإيمان إلى استقطاب طائفي.
أما مصر فكانت لها تجربة فريدة مع الإسلاميين، حيث شهدت الحقبة الأولى من حكم السادات تشجيعا ودعما من قبل النظام ( لمحاربة بقايا الناصريين والشيوعيين )، ولكن عندما خرجت الأمور عن نطاق السيطرة تعرض الإسلاميون لحملات قمع شديدة. وفي النتيجة حازت الحركات الإسلامية على تعاطف الشعب الذي نظر للإسلاميين كضحايا للنظام الفاسد والمستبد.
ومن خلال الأمثلة السابقة يمكن فهم بعض أسباب تعاطف الجماهير مع الحركات الإسلامية، وفهم حالة الربط الميكانيكي بين الاستبداد والفساد والمظالم التي عانى منها الناس من الأنظمة السابقة – التي كانت ذات طبيعة علمانية – وبين الأفكار الليبرالية والعلمانية التي يطرحها خصوم الإسلاميين، حتى صار الفساد قرينا في أذهان العامة بالنُّظم العلمانية. بالرغم من شدة وضوح الصورة في الدول والمناطق التي خضعت لحكم الإسلاميين، ولكن على ما يبدو أن كل شعب يصر على أن يخوض التجربة بنفسه !!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق